التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب مهل أهل مكة للحج والعمرة

          ░7▒ بابُ مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ بالحَجِّ وَالعُمْرَةِ
          1524- ذَكَرَ فيهِ حَدِيثَ ابنِ عبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم وَقَّتَ لأَهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ، وَلأَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ).
          ثمَّ ترجمَ عليه:
          ░8▒ بابُ مِيقَاتِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَلا يُهِلُّوا قَبْلَ ذي الحُلَيْفَةِ
          1525- وذَكَرَ مِنْ حديثِ نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الجُحْفَةِ، وأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ) قَالَ عَبْدُ الله: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (وَيُهِلُّ أَهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ).
          ثمّ قَالَ:
          ░9▒ بابُ مُهَلِّ أَهْلِ الشَّأْمِ
          1526- وذَكَرَ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ السَّالِفَ وقَالَ: (فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، لِمَنْ كَانَ يُريدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ، وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا).
          ثُمَّ قَالَ:
          ░10▒ بابُ مُهَلِّ أَهْلِ نَجْدٍ
          1527- 1528- وذَكَرَ فيهِ حَدِيثَ سُفْيَانَ قَالَ: حَفِظْنَاهُ عَنِ الزُّهْريِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ: (وَقَّتَ النَّبِيُّ صلعم).
          ثمَّ قَالَ: وحَدَّثَنَي أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابنُ وَهْب: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْريِّ بِهِ: (مُهَلُّ أَهْلِ المَدينَةِ ذُو الحُلَيْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّأْمِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الجُحْفَةُ، ومُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ) قَالَ ابن عُمَرَ: وزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ _وَلَمْ أَسْمَعْهُ_: (وَمُهَلُّ أَهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمُ).
          ثُمَّ قَالَ:
          ░11▒ بابُ مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ المَوَاقِيتِ.
          1529- وذَكَرَ فيهِ حَدِيثَ ابنِ عبَّاسٍ السَّالِفَ وفيهِ: (وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وَقَالَ: فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا).
          ثُمَّ قَالَ:
          ░12▒ بابُ مُهَلِّ أَهْلِ اليَمَنِ
          1530- وذَكَرَ فيهِ حَدِيثَ ابنِ عبَّاسٍ المذكورَ: (وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ).
          الشَّرحُ: حديثُ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ أخرجَهما مسلمٌ أيضًا، وعليهما مَدَارُ المواقيتِ، وأخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي الزُّبَيرِ أنَّهُ سَمِعَ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ يُسْأَلُ عَنِ المُهَلِّ فقالَ: سَمِعْتُ _أحسبُه_ رفعَ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم فقالَ: ((مُهَلُّ أهلُ المدينةِ مِنْ ذِي الحُلَيفةِ والطَّريقُ الآخرُ الجُحْفَة، ومُهَلُّ أهلِ العِراقِ مِنْ ذاتِ عِرْقٍ، ومُهَلُّ أهلِ نَجدٍ مِنْ قَرْنٍ، ومُهَلُّ أهلِ اليمنِ مِنْ يَلَمْلَمَ)) وهو مِنْ أفرادِه، وانفردَ البُخاريُّ بحديثِ ابنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ، وترجمَ عليهِ:
          ░13▒ بابٌ ذَاتُ عِرْقٍ لأَهْلِ العِرَاقِ.
          1531- ولفظُه عَنِ ابنِ عُمَرَ: (لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ المِصرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنينَ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إذا أَرَدْنَا قَرْنَ شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ).
          إذا عرفتَ / ذَلِكَ فالكلامُ عليهِ مِنْ أوجهٍ:
          أحدُها: في بيانِ الأماكنِ الواقعةِ فيه غير ما سلفَ.
          (اليَمَنُ) إقليمٌ معروفٌ و(يَلَمْلَمَ) ويُقَالُ: أَلَمْلَمَ _بالهمزِ بدلًا مِنَ الياءِ_ يُصرَفُ ولا يُصرَفُ: جبلٌ مِنْ جبالِ تِهَامَة عَلَى ليلتين مِنْ مَكَّةَ، ويُقَالُ: يَرَمْرَمُ _بالرَّاءِ_ و(ذاتُ عِرْقٍ) عَلَى مرحلتينِ مِنْ مَكَّةَ وهي الحدُّ بينَ نجدٍ وتِهَامَةَ، و(مَهْيَعَةُ) بفتحِ الميمِ والياءِ، وبعضُهم كسرَ الهاءَ، حكاه القُرْطُبيُّ وصَحَّحَه ابنُ التِّيْنِ، والأوَّلُ ما في «الصَّحَاحِ».
          قَالَ ابنُ الصَّبَّاغِ والرُّوْيَانيُّ: وأبعدُ المواقيتِ ذو الحُلَيْفَةِ فإنَّها عَلَى عَشْرِ مراحلَ مِنْ مَكَّةَ، ويليه في البعدِ الجُحْفَةُ أي: فإنَّها عَلَى ثلاثِ مراحلَ مِنْ مَكَّةَ، والمواقيتُ الثَّلاثةُ عَلَى مسافةٍ واحدةٍ، بينَها وبينَ مكَّةَ ليلتان قاصدتان.
          والمُهَلُّ:_بضمِّ الميمِ_ وإنَّما يفتحُها مَنْ لا يعرفُ كما نبَّهَ عليهِ ابنُ الجَوْزِيِّ، والإهلالُ: رفعُ الصَّوتِ بالتَّلْبيَةِ.
          وقولُهم لعُمَرَ: (وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا) يَعْنُونَ هو منحرفٌ ومنعدلٌ عنه، ومنه قولُه تَعَالَى: {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النَّحل:9] أي: غيرُ قاصدٍ، ومنه: جارَ السُّلطَانُ إذا عَدَلَ في حُكْمِه عَنِ الحقِّ إلى الباطلِ، و(المِصْرَانَ): البصرةُ والكوفةُ، وإنَّما فتحَ البلدَ الَّذي هُمَا به ولم تكونَا مُصِّرَتَا بعدُ، إنَّما مَصَّرَهما عُمَرُ بعدَ ذَلِكَ.
          الثَّاني: في النَّسَائيِّ مِنْ حديثِ عائشةَ ♦ قالَتْ: ((وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلعم لأهلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الجُحْفَةَ، وَلَأهلِ العِرَاقِ ذاتَ العِرْقِ)) وفي إسنادِه أَفلحُ بنُ حُمَيدٍ المدنيُّ، احتجَّ به الشَّيخَانِ، ووثَّقَه يحيى بنُ مَعِينٍ وغيرُه، وعَنْ أحمدَ إنكارُ روايتِه له هذا الحديث، وأمَّا ابنُ حَزْمٍ فصحَّحَه.
          وروى الشَّافعيُّ في «الأمِّ» عَنْ سعيدِ بنِ سالمٍ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم وَقَّتَ لأَهْلِ المَغْرِبِ الجُحْفَةَ)) الحديثَ، وهذا مرسلٌ يعتضدُ بقيامِ الإجماعِ عَلَى مقتضاه، وأيضًا فرواه الشَّافعيُّ مُتَّصِلًا مِنْ حديثِ جابرٍ، لكنْ مع الشَّكِّ في رفعِه، ففي ذَلِكَ زيادةُ مِصْرَ والمغربِ، وحديثُ جابرٍ السَّالِفُ مِنْ عندِ مسلمٍ أخرجَه ابنُ مَاجَهْ مِنْ غيرِ شكٍّ قَالَ: ((خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَالَ...)) الحديثَ، وفي إسنادِه إبراهيمُ بنُ يزيدَ الخُوزيُّ ضُعِّفَ.
          ورواه ابنُ وَهْبٍ في «مسندِه» عَنِ ابنِ لَهِيْعةَ عَنْ أبي الزُّبَيرِ عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يقولُ...، فذَكَرَه، وقالَ البَيْهَقيُّ: الصَّحيحُ روايةُ ابنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: وكقولِ ابنِ لَهِيْعةَ قيلَ: عن أبي الزِّنادِ عن موسى بنِ عُقْبَةَ عن أبي الزُّبَيرِ.
          قَالَ: ويحتملُ أن يكونَ جابرٌ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، ولأحمدَ مِنْ حديثِ جابرٍ وعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو قالَا: ((وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلعم لأهلِ اليمنِ وأهلِ تِهَامَةَ يَلَمْلَمَ، ولأهلِ الطَّائفِ _وهي نجدٌ_ قَرْنَ، ولأهلِ العراقِ ذاتَ عِرْقٍ)) وفي إسنادِه الحَجَّاجُ بنُ أَرْطأةَ، وأخرجَه الطَّبَرانيُّ في «الأوسطِ» بدونِه مِنْ طريقِ جعفرِ بنِ بُرْقَانَ عن ميمونَ بنِ مِهْرَانَ عَنِ ابنِ عَمْرٍو وقالَ: لم يروِه عن ميمونَ إلَّا ابنُ بُرْقَانَ وله مِنْ حديثِ جعفرٍ حَدَّثَنا عَمْرُو بنُ دينارٍ عَنْ طاوسٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ يرفعُه: ((ولأَهْلِ الطَّائفِ قَرْنًا)) وقالَ: لم يروِه عن جعفرٍ إلَّا أبو نُعَيْمٍ.
          وللتِّرْمِذيِّ مُحَسَّنًا مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلعم لأَهْلِ المشرقِ العَقِيقَ)) وقالَ البَيْهَقيُّ: تفرَّدَ به يزيدُ بنُ أبي زيادٍ، ولأحمدَ مِنْ طريقِه: ((ولأَهْلِ العِرَاقِ ذاتَ عِرْقٍ))، ولابنِ أبي أسامةَ ذكر الطَّائف والعراق، ولأبي داودَ مِنْ حديثِ الحارثِ بنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ: ((وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلعم ذات عِرْقٍ لأهلِ العِرَاقِ)) الحديثَ، قَالَ البَيْهَقيُّ: فيه مَنْ هو غيرُ معروفٍ.
          وللشَّافعيِّ أخبَرَنَا مسلمٌ وسعيدٌ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ أخبَرَني عَطَاءٌ: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم وَقَّتَ لأهلِ المشرقِ ذاتَ عِرْقٍ))، قَالَ: فراجَعْتُ عَطَاءً فقُلْتُ: زعمُوا أنَّ النَّبِيَّ صلعم لم يُوَقِّتَ ذاتَ عِرْقٍ، ولم يكن أهلُ مشرقٍ حينئذٍ قَالَ: كذلك سَمِعْنَاه أنَّه وَقَّتَ ذاتَ عِرْقٍ أو العَقِيقَ لأهلِ المشرقِ، ولم يكن يومئذٍ عراقٌ، ولم يعزُه لأحدٍ دونَ رَسُولِ اللهِ صلعم ولكنَّهُ يأبى إلَّا أنَّ النَّبِيَّ صلعم وَقَّتَه، وحَكَى ابنُ عبدِ البرِّ في «تمهيدِه» عن صَدَقَةَ بنِ يَسَارٍ قَالَ: قيل لابنِ عُمَرَ: فالعراق؟ قَالَ: لا عِرَاق يومئذٍ.
          ولأبي داودَ مِنْ حديثِ أمِّ سَلَمَةَ أنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلعم يقولُ: ((مَنْ أَهَلَّ بحَجَّةٍ أو عُمْرَةٍ مِنَ المَسْجدِ الأَقْصَى إلى المَسْجِدِ الحَرَامِ غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ _أو_ وَجَبَتْ لَهُ الجنَّةُ))، وأخرجَه ابنُ مَاجَهْ أيضًا، وصحَّحَه ابنُ حِبَّانَ، وخالفَ ابنُ حَزْمٍ فأعلَّه بما بيَّنْتُ غلطَه في تخريجي لأحاديثِ الرَّافعيِّ.
          وفي «مراسيلِ أبي داودَ» عَنِ ابنِ سِيرِينَ قَالَ: ((وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ صلعم لأهلِ مَكَّةَ التَّنْعِيمَ)) قَالَ: وقالَ سفيانُ: هذا الحديثُ لا يكادُ يُعرَفُ.
          الثَّالثُ: شيخُ البُخاريِّ أحمدُ المذكورُ في بابِ: مُهَلِّ أهلِ نجدٍ، قَالَ أبو نُعَيمٍ: هو ابنُ عيسى التُّسْتَريُّ، قَالَ الجَيَّانيُّ: وكذا نَسَبَه أبو ذرٍّ في هذا الموضعِ.
          وقال الكَلَابَاذِيُّ: قَالَ لي أبو أحمدَ مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ الحافظُ: أحمدُ عَنِ ابنِ وَهْبٍ في «جامعِ البُخَارِيِّ» هو ابنُ أخي ابنِ وَهْبٍ، وغلَّطَه الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ، قَالَ الكَلَابَاذِيُّ: قَالَ لي ابنُ مَنْدَهْ أبو عبدِ اللهِ: كلَّما قالَ البُخاريُّ في «الجامعِ»: حَدَّثَنَا أحمدُ عَنِ ابنِ وَهْبٍ فهو ابنُ صالحٍ، ولم يخرِّجْ عَنِ ابنِ أخي ابنِ وَهْبٍ شيئًا في «الصَّحيحِ»، وإذا حدَّثَ عن أحمدَ بنِ عيسى نَسَبَهُ، فتحصَّلنا عَلَى ثلاثةِ أقوالٍ.
          الرَّابعُ: معنى توقيتُه صلعم هذِه المواقيتَ لكلِّ بلدٍ لا يجوزُ تأخيرُ الإحرامِ لمريدِ النُّسُكِ عنها، ثُمَّ كلُّها / ثابتةٌ بالنَّصِ ومُجْمَعٌ عليها، نعم اختُلِفَ في ذاتِ عِرْقٍ هل هي ميقاتٌ بالنَّصِّ أو باجتهادِ عُمَرَ، واضطربَ التَّرجيحُ عندَنا فيه، والمنصوصُ عليه في «الأمِّ» الثَّاني، كما هو مُبَيَّنٌ في حديثِ البابِ، وقد أسلفناه مرفوعًا أيضًا، وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ وعَطَاءٍ، وقالَ جابرٌ بالأوَّلِ واعتلَّ مَنْ قَالَ به لأنَّ العراقَ فُتِحَتْ في زمانِه، ولم تكنِ العراقُ عَلَى عهدِه ◙، وجوابُه: أنَّه قد وَقَّتَ لأهلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، وهي يومئذٍ ذات كُفرٍ، وكذا مِصْرُ لأنَّه عَلِمَ أنَّها ستُفتَحُ عَلَى أمَّتِه، يؤيِّدُه حديثُ: ((مَنَعَتِ العِرَاقُ دِينَارَها وَدِرْهَمها، وَمَنَعَتِ الشَّامُ مُدْيَهَا)) يعني: ستُفتَحُ، وحديثُ: ((سَيَبلغُ مُلْكُ أمَّتي مَا زُوِيَ لِي مِنْها)).
          قَالَ أبو بَكْرِ بنُ المُنْذِرِ: أجمعَ عوامُّ أهلِ العلمِ عَلَى القولِ بظاهرِ هذا الحديث يعني: حديثَ ابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ، واختلفُوا فيما يفعلُ مَنْ مَرَّ بذاتِ عِرْقٍ، فثبتَ أنَّ عُمَرَ وَقَّتَه لأهلِ العراقِ، ولا يثبتُ فيه عَنِ النَّبِيِّ صلعم سُنَّةٌ.
          وقالَ ابنُ حَزْمٍ: الخبرُ بيَّنَّا ضعفَه وإنَّما حدَّ عُمَرُ ما حدَّه لهم رَسُولُ اللهِ صلعم، وروايةُ مَنْ سَمِعَ وعَلِمَ أتمُّ مِنْ روايةِ مَنْ لم يَسمَعْ، وكانَ أنسٌ يُحرِمُ مِنَ العَقِيقِ، واستحبَّ ذَلِكَ الشَّافعيُّ والثَّوريُّ، وهو: وادٍ وراءَ ذاتِ عِرْقٍ ممَّا يلي المشرق يقرب منها لأنَّ مَنْ أحرمَ منه كَانَ مُحرِمًا منها ولا عَكْسَ، وكانَ مالكٌ والشَّافعيُّ وأبو حنيفةَ وأحمدُ والثَّوريُّ وإسحاقُ وأبو ثَورٍ وأصحابُ الرَّأي يرونَ الإحرامَ مِنْ ذاتِ عِرْقٍ.
          قَالَ أبو بكرٍ: الإحرامُ مِنْ ذاتِ عِرْقٍ يُجزئُ، وهو مِنَ العقيقِ أحوَطُ، وقد كَانَ الحَسَنُ بنُ صالحٍ يُحرِمُ مِنَ الرَّبَذَةِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عن خُصَيفٍ والقاسمِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، ولولا سُنَّةُ عُمَرَ لكانَ هو أشبَهُ بالنَّظرِ لأنَّ المعنى عندهم في ذاتِ عِرْقٍ أنَّه بإزاءِ قَرْنٍ، والرَّبَذَةُ بإزاءِ ذي الحُلَيْفَةِ، قَالَ أبو بكرٍ: وقولُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أولى أن يُهِلُّوا مِنَ المواقيتِ الَّتي ذَكَرْنَاها، وأحرَمَ الشَّارعُ مِنَ الميقاتِ الَّذي سَنَّهُ لأهلِ المدينةِ، وتَرَكَ أن يُحرِمَ مِنْ سواه، وتَبِعَه عليه أصحابُه وعَوَامُّ أهلِ العلمِ.
          قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وأَخَذَ قومٌ بحديثِ ابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ وذَهَبُوا إلى أنَّ أهلَ العراقِ لا ميقاتَ لهم في الإحرامِ كميقات سائرِ أهلِ البلدان، وإنَّما يُهلِّونَ مِنْ حيث مرُّوا عليه مِنْ هذِه المواقيتِ.
          وأجمعَ أهلُ العلمِ عَلَى أنَّ مَنْ أحرمَ قبلَ أن يأتيَ الميقاتَ أنَّه يحرِمُ واختلفَتِ الأخبارُ عن الأوائلِ في هذا البابِ، فثَبَتَ أنَّ ابنَ عُمَرَ أهلَّ مِنْ إِيْلِيَاءَ _يعني بيتَ المقدسِ_ كما سيأتي، وكان عبدُ الرَّحمنِ و الأسودُ وعلقمةُ وأبو إسحاقَ يُحرِمون مِنْ بيوتِهم، ورخَّصَ فيه الشَّافعيُّ وقد رُوِّينا عن عُمَرَ أنَّهُ أنكرَ على عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ إحرامَه مِنَ البصرةِ، وكَرِهَ الحسنُ وعَطَاءٌ ومالكٌ الإحرامَ مِنَ المكانِ البعيدِ.
          وكانَ الشَّافعيُّ يقولُ: إذا مرَّ بذي الحُلَيْفَةِ وهو يريدُ الحجَّ والعُمْرَةَ فلم يُحْرِمْ فعليه دمٌ، وبه قَالَ اللَّيثُ والثَّوريُّ واختَلَفَ فيه أصحابُ مالكٍ، فمنهم مَنْ أوجبَه ومنهم مَنْ لم يوجبْه وكَرِهَ أحمدُ وإسحاقُ مجاوزةَ ذي الحُلَيْفَةِ إلى الجُحْفَةِ، وقالَ ابنُ المُسَيِّبِ وغيرُه: يُهلُّ مِنْ مُهَلِّ رَسُولِ اللهِ صلعم، وكانَ أبو ثَورٍ يرخِّصُ أن يجاوزَ مَنْ مرَّ بذي الحُلَيْفَةِ إلى الجُحْفَةِ، وبه قَالَ أصحابُ الرَّأي، غير أنَّ الوقتَ أحبُّ إليهم، وبهذا نقولُ، وكانت عائشةُ إذا أرادَتِ الحجَّ أحرمَتْ مِنْ ذي الحُلَيْفَةِ، وإذا أرادَتِ العُمْرَةَ أحرمَتْ مِنَ الجُحْفَةِ، ووقعَ في «شرحِ ابنِ التِّيْنِ» أنَّ الأفضلَ في حقِّ أهلِ الشَّامِ ومِصْرَ والمغربِ أن يهلُّوا مِنْ ذي الحُلَيْفَةِ، وهو عجيبٌ.
          واختلفُوا فيمَنْ جاوزَ الميقاتَ غيرَ مُحرِمٍ، فقالَ الثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأبو ثَورٍ ويعقوبُ ومُحَمَّدٌ: يرجعُ إلى الميقاتِ، فإن لم يفعلْ أَهْرَاقَ دمًا، وكانَ جابرُ بنُ زيدٍ والحسنُ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ يرونَ أن يرجعَ إلى الميقاتِ إذا تَرَكَه، وفي قولِ الشَّافعيِّ والثَّوريِّ وأبي ثَورٍ ومُحَمَّدٍ ويعقوبَ: إنْ جاوزَه فأحرَمَ ثُمَّ رجع إليه فلا شيءَ عليه، والأقدم كما أسلفناه في بابِ فرضِ مواقيتِ الحجِّ والعُمْرَةِ [خ¦1522]، وقَالَ مالكٌ كقولِ هؤلاء: إذا لم يرجعْ عليه دمٌ، وإن جاوزَه فأحرَمَ ثُمَّ رجعَ إليه لم ينفعْه الرُّجوعُ والدَّمُ عليه، وقالَ ابنُ المباركِ: لا يسعَه الرُّجُوعُ والدَّمُ عليه، وقالَ النُّعْمَانُ: إن جاوزَه وأحرَمَ فإن رجعَ مُلبِّيًا سقطَ وإلَّا فلا، وقد سلفَ أيضًا.
          وفي المسألةِ أقاويلُ غيرُ هذا:
          أحدها: أنَّهُ لا شيءَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الميقاتَ، هذا أحدُ قولي عَطَاءٍ، ورُوِّينا ذَلِكَ عن الحسنِ وإبراهيمَ.
          ثانيها: رُوِّينا عَنِ ابنِ الزُّبَيرِ أنَّهُ يقضي حَجَّهُ، ثُمَّ يرجعُ إلى الميقاتِ فيُهِلُّ بِعُمْرَةٍ.
          ثالثُها: أنَّه لا حجَّ له، كذا قالَه سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ.
          واختلفُوا فيمَنْ مرَّ به لا يريدُ نُسُكًا، ثُمَّ بدا له إرادتُه فكانَ مالكٌ والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وأبو ثَورٍ ويعقوبُ ومُحَمَّدُ بنُ الحسنِ يقولُون: يُحرِمُ مِنْ مكانِه الَّذي بدا له أن يُحرِمَ فيه ولا شيءَ عليه، رُوِيَ ذَلِكَ عن عَطَاءٍ وقالَ أحمدُ في الرَّجلِ يخرجُ لحاجتِه وهو لا يريدُ الحجَّ فجازَ ذا الحُلَيْفَة، ثُمَّ أرادَ الحجَّ قَالَ: يرجعُ إلى ذي الحُلَيْفَةِ فيُحرِمُ وبنحوِه قَالَ إسحاقُ.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: وظاهرُ الحديثِ أَوْلَى، وقد أحرمَ ابنُ عُمَرَ مِنَ الفَرعِ، وهو بعدَ الميقاتِ، وهو راوي حديثَ المواقيتِ، وحملَه الشَّافعيُّ عَلَى ذَلِكَ إذ جاءَ إلى الفَرْعِ مِنْ مكَّةَ أو غيرِها، ثُمَّ بدا له / في الإحرامِ.
          واختلفُوا فيمَنْ أرادَ الإحرامَ، وموضعُه دونَ المواقيتِ إلى مكَّةَ، فكانَ طاوسٌ ومالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وأبو ثَورٍ يقولون: يحرِمُ مِنْ موضعِه وهو ميقاتُه، ونقلَه ابنُ بَطَّالٍ عن جمهورِ الفقهاءِ.
          وقالَ أصحابُ الرَّأي: يُحرِمُ مِنْ موضعِه فإن لم يفعلْ لم يدخلِ الحرمَ إلَّا حرامًا، فإن دخلَه غيرَ حرامٍ فليخرجْ مِنَ الحرمِ فليُهِلَّ مِنْ حيث شاءَ، وقد رُوِّينا عن مجاهدٍ أنَّه قَالَ: إذا كَانَ الرَّجلُ أَهْلُه بينَ مكَّةَ وبينَ الميقاتِ، أَهَلَّ مِنْ مكَّةَ، قَالَ أبو بكرٍ: وبقولِ الشَّافعيِّ ومالكٍ أقولُ.
          قُلْتُ: لقولِه: (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ) فإن تركَ الميقاتَ فأحرَمَ بعدَ أن جاوزَه ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّهُ قَالَ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي: يمضي في حَجِّه وعليه حجُّ قَابِلٍ، وليس عليه دمٌ لتركِه الميقات لأنَّ عليه القضاءَ وقالَ الشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثَورٍ: عليه دمٌ لتركِ الميقات وما يلزمُ المفسِدَ، قَالَ: وبقولِ الشَّافعيِّ أقولُ.
          فرعٌ: قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: قال الشَّافعيُّ بمصر _يعني في الجديدِ_: إذا بَلَغَ صبيٌّ أو عَتَقَ عبدٌ أو أسلمَ كافرٌ بعرفةَ أو بمُزْدَلِفةَ فأحرمَ أيُّ هؤلاء صارَ إلى هذه الحالِ بالحجِّ، ثُمَّ وافَوا عرفةَ قبلَ طلوعِ فجرِ ليلة العيدِ فقد أدركَ الحجَّ وعليه دمٌ لتركِ الميقاتِ، ولو أحرمَ الكافرُ مِنْ ميقاتِه، ثُمَّ أسلمَ بعرفةَ لم يكن بدٌّ مِنْ دمٍ يُهَرِيقُه، وليس ذَلِكَ عَلَى العبدِ والغلامِ يُحرِمَانِ مِنَ الميقاتِ ثُمَّ يبلغُ الغلامُ ويَعْتِقُ العبدُ قبل عرفةَ بعرفةَ، وكان أبو ثَورٍ يقولُ في النَّصرانيِّ يُسلِمُ بمكَّةَ والصَّبيِّ يبلغُ والعبدُ يَعْتِقُ بها: يُحرِمُونَ منها ولا شيءَ عليهم، وكذلك قَالَ عطاءٌ والثَّوريُّ وأحمدُ وإسحاقُ في النَّصرانيِّ يُسلِمُ بمَكَّةَ، وقالَ مالكٌ في النَّصرانيِّ يُسلِمُ عَشِيَّةَ عرفةَ والعبدُ يَعْتِقُ: يُحرِمَانِ، والغلامُ يدخلُ مكَّةَ ثُمَّ يحتلمُ: يُحرِمان وليس عليهما شيءٌ، وفي العبدِ يدخلُ مَكَّةَ بغيرِ إحرامٍ ثُمَّ أَذِنَ له مولاه فأحرمَ بالحجِّ عليه دمٌ إذا عَتَقَ لتركِ الوقتِ.
          الخامس: قوله: (هُنَّ لَهُنَّ) أي هذه المواقيتُ جُعِلَتْ لهذِه البلاد، والمرادُ أهلُها، والأصل أن يُقالَ: هنَّ لهم، لأنَّ المرادَ الأهلُ، وقد سلفَ روايةُ البُخاريِّ: (هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ)، وقالَ القُرْطُبيُّ: (هُنَّ) ضميرُ جماعةِ المؤنَّثِ العاقلِ في الأصل، وقد يُعادُ عَلَى ما لا يعقلُ، وأكثرُ ذَلِكَ في العَشَرةِ فما دونها، فإذا جاوزُوها قالُوه بهاءِ المؤنَّثِ كما قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التَّوبة:36] ثُمَّ قَالَ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي: مِنَ الاثني عشرَ ثُمَّ قَالَ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: في هذه الأربعةِ، وقد قيلَ في الجميعِ وهو شاذٌّ.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: العلماءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أنَّ مُهَلَّ أهلِ مَكَّةَ للحجِّ مِنْ مَكَّةَ عملًا بالحديثِ المذكورِ فلا يخرجُ أهلُها عن بيوتِها إلَّا بالإحرامِ، وسُنَّتُهم ألَّا طوافَ قدومٍ عليهم، وإنَّما هو سُنَّةُ الغرباءِ.
          واختلفَ العلماءُ هل الأفضلُ أن يُحرِمَ مِنْ دُوَيرةِ أهلِه أم مِنَ الميقاتِ؟ عَلَى قولين:
          أحدُهما: مِنْ دُوَيْرَةِ أهلِه، وهو قولُ أبي حَنيفةَ والثَّورِيِّ في آخرين.
          وثانيهما: مِنَ الميقاتِ، وهو قولُ مالكٍ وأحمدَ وإسحاقَ، ونقلَه ابنُ التِّيْنِ عن أبي حَنيفةَ أيضًا، وللشَّافعيِّ قولان، واضطربَ أصحابُه في التَّرجيح، والموافقُ للأحاديثِ الصَّحيحةِ الثَّاني، وفي «مسندِ أبي يَعْلَى» مِنْ حديثِ أبي أيُّوبَ مرفوعًا: ((لِيَسْتَمْتِعْ أَحَدُكُمْ بحِلِّهِ مَا استَطَاعَ، فإنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَعرِضُ لَهُ في إِحْرَامِهِ)) وعَمِلَ بذلك أصحابُه وعوامُّ أهلِ العلمِ، وغيرُ جائزٍ أن يكون فِعْلٌ أعلى مِنْ فِعْلِه أو عَمَلٌ أفضلَ مِنْ عملِه، وسُئِلَ مالكٌ عن ذَلِكَ فتلا قولَه تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية [النُّور:93].
          والأوَّلون اعتمدُوا فِعْلَ الصَّحابةِ فإنَّهم أحرمُوا مِنْ قَبْلِهَا _ابنُ عبَّاسٍ وابنُ مسعودٍ وابنُ عمرَ وغيرُهم_ وهم أعرفُ بالسُّنَّةِ، وأصولُ أهلِ الظَّاهرِ تقتضي أنَّه لا يجوزُ الإحرامُ إلَّا مِنَ الميقاتِ إلَّا أن يصحَّ إجماعٌ عَلَى خلافِه.
          قَالَ ابنُ حَزْمٍ: لا يحِلُّ لأحدٍ أن يُحرِمَ بالحجِّ ولا بالعُمْرَةِ قبلَ المواقيتِ، فإن أَحرَمَ أحدٌ قبلها وهو يمرُّ عليها فلا إحرامَ له ولا حجَّ ولا عُمْرَةَ إلَّا أن ينويَ إذا صارَ في الميقاتِ تجديدَ إحرامٍ، فذلك جائزٌ وإحرامُه حينئذٍ تامٌّ وكَرِهَ مالكٌ كما حكاه أبو عُمَرَ أن يُحرِمَ أحدٌ قبْلَهُ، وقد سلفَ، ورُوِيَ عن عُمَرَ أنَّه أنكرَ عَلَى عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ إحرامَه مِنَ البصرةِ وأنكرَ عثمانُ عَلَى عبدِ اللهِ بنِ عامرٍ إحرامَه قبلَ الميقاتِ وفي تعليقاتِ البُخاريِّ: كَرِهَ عثمانُ أن يُحرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أو كرمانَ، وكَرِهَ الحسنُ وعطاءٌ الإحرامَ مِنَ الموضعِ البعيدِ.
          قَالَ إسماعيلُ القاضي: وإنَّما كرهُوا ذَلِكَ _واللهُ أعلمُ_ لئلَّا يُضَيِّقَ المرءُ عَلَى نفسِه ما وَسَّعَ اللهُ تَعَالَى عليه، وأن يتعرَّضَ لِمَا لا يأمنُ أن يحدثَ في إحرامِه، وكلُّهم ألزمَه الإحرامُ لأنَّهُ زادَ ولم ينقصْ، والدَّليلُ على ذَلِكَ أنَّ ابنَ عُمَرَ روى المواقيتَ ثُمَّ أجازَ الإحرامَ مِنْ قَبْلِها مِنْ موضعٍ بعيدٍ، والَّذين أحرمُوا قبلَه كثيرٌ مِنَ التَّابعين أيضًا كما سلفَ عَنِ الصَّحابةِ. /
          قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وأخذَ قومٌ بحديثِ ابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ وذهبُوا إلى أنَّ أهلَ العراقِ لا ميقاتَ لهم في الإحرامِ كميقاتِ سائرِ البلدانِ، وإنَّما يُهِلُّونَ مِنْ حيثُ مرُّوا عليه مِنْ هذه المواقيتِ المذكورةِ.
          وحاصلُ الخلاف ثلاثةُ أقوالٍ كما جمعها ابنُ بَزِيْزَةَ: منهم مَنْ أجازَه مطلقًا، ومنهم مَنْ كَرِهَه مطلقًا، ومنهم مَنْ أجازَه في البعيدِ دونَ القريبِ لأنَّه إذا أحرمَ مِنْ غيرِ الميقاتِ مع قربِه ليس فيه إلَّا مخالفة السُّنَّةِ لغيرِ فائدةٍ بخلافِ البعيدِ، ثُمَّ نقلَ عن أبي حَنيفةَ والشَّافعيِّ أنَّ ما قبلَ الميقاتِ أفضلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ، وقد صَحَّ أنَّ عليًّا وعِمْرَانَ بنَ حُصَينٍ وابنَ عبَّاسٍ أحرمُوا مِنَ المواضعِ البعيدةِ، وكذا مَنْ أسلفناه مِنَ الصَّحابةِ وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: لا يُحرَمُ بالحجِّ إلَّا في أشهرِ الحجِّ، فإنَّ مِنْ سُنَّةِ الحجِّ أن يُحرَمَ بالحجِّ في أشهرِ الحجِّ، أخرجَه الحاكمُ وصحَّحَه عَلَى شرطِ الشَّيخين.
          وعندَ ابنِ أبي شَيبةَ أنَّ عثمانَ بنَ أبي العاصِ أحرمَ مِنَ المَنْجَشانِيَّة وهي قريبةٌ مِنَ البصرة، وعَنِ ابنِ سِيرِينَ أنَّه أحرمَ هو وحُمِيدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ ومسلمُ بنُ يَسَارٍ مِنَ الدَّارَاتِ وإسنادُهما جيِّدٌ، وأحرمَ ابنُ مسعودٍ مِنَ السَّيْلَحين، وفي إسنادِه مجهولٌ.
          وقالَ إبراهيمُ: كانُوا يُحِبُّونَ للرَّجُلِ أوَّلَ ما يحجُّ أن يُهِلَّ مِنْ بيتِه، وكانَ الأسودُ يُحرِمُ مِنْ بيتِه، وكانَ علقمةُ يُحرِمُ مِنَ النَّجَفِ، وعن هِلَالِ بنِ خَبَّابٍ قَالَ: خَرَجْتُ مع سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ محرِمًا مِنَ الكوفةِ، وعَنِ الحارثِ بنِ قيسٍ قَالَ: خَرَجْتُ في نفرٍ مِنْ أصحابِ ابنِ مسعودٍ نريدُ مَكَّةَ فلما خَرَجْنَا مِنَ البيوتِ أهلُّوا، فأَهْلَلْتُ معهم، وعَنِ الحكمِ بنِ عطيَّةَ أخبرني مَنْ رأى قيسَ بنَ عُبَادٍ أحرمَ مِنْ مِربَدِ البصرةِ، وعن إبراهيمَ: كَانَ المِسْوَرُ يُحرِمُ مِن القادسيَّةِ، وأحرمَ الحارثُ بنُ سويدٍ وعَمْرُو بنُ ميمونَ مِنَ الكوفةِ.
          وقد أسلفنا حديثَ أمِّ سَلَمَةَ في فضلِ الإحرامِ مِنْ بيتِ المقدسِ، وتضعيفُ ابنِ قُدَامَةَ بابنِ إسحاقَ وإضرابُه عن أمِّ حكيمٍ الرَّاوِيةِ عن أمِّ سَلَمَةَ ليس بجيِّدٍ، قَالَ: ويحتملُ تخصيصُه ببيتِ المقدسِ دونَ غيرِه ليجمعَ بينَ الصَّلاةِ في المسجدين في إحرامٍ واحدٍ، ولذلك أحرمَ ابنُ عُمَرَ منه لا مِنْ غيرِه إلَّا مِنَ الميقاتِ، وأحرمَ ابنُ سيرينَ مع أنسٍ مِنَ العَقِيقِ، ومعاذٌ مِنَ الشَّامِ ومعه كَعْبٌ الحَبْرُ، ولأبي داودَ عَنِ الصُّبَيِّ بنِ مَعْبَدٍ قَالَ: أَهْلَلْتُ بالحجِّ والعُمْرَةِ، فلمَّا أَتيْتُ العُذَيْبَ لقيني سلمانُ بنُ ربيعةَ وزيدُ بنُ صُوْحَانَ وأنا أُهِلُّ بهما فعابَا ذَلِكَ، وفيه: فقالَ لي عُمَرُ: هُدِيْتَ لسُنَّةِ نبيِّكَ، وحَمَلَه بعضُ العلماءِ عَلَى القِرَانِ.
          وأمَّا ما رُوِيَ عن عُمَرَ وعليٍّ: إتمامُ الحجِّ والعُمْرَةِ أن تُحرِمَ بهما مِنْ دُوَيْرَةِ أَهلِكَ، وحكاه ابنُ بَطَّالٍ عَنِ ابنِ مسعودٍ وعليٍّ، فمعناه أن تُنشِئَ لهما سفرًا تقصدُ له مِنْ بلدِك، كما فَسَّرَهُ سفيانُ، قالَ ابنُ قُدَامَةَ: وكانَا لا يُحرِمَانِ إلَّا مِنَ الميقاتِ، وقد أسلفنا خلافَه، قَالَ: ولا يصحُّ أن يُفَسَّرَ الإتمامُ بنفسِ الإحرامِ لأنَّ النَّبِيَّ صلعم وأصحابَه أحرمُوا بها مِنْ بيوتِهم، وقد أمرَ اللهُ بإتمامِ العُمْرَةِ فلو حُمِلَ قولُهم عَلَى ذَلِكَ لكانَ قولًا غيرَ جيِّدٍ.
          قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأجازَ الإحرامَ قبلَ الميقاتِ علقمةُ والأسودُ، وهو قولُ أبي حنيفةَ والثَّوريِّ والشَّافعيِّ.
          السَّادس: قولُه: (وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ) يعني: قاصدًا دخولَ مَكَّةَ قصدَ الحجِّ والعُمْرَةِ أو لم يقصدْ عندَ أبي حنيفةَ، وعندنا أنَّ مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ لا لِنُسُكٍ استُحِبَّ له أن يُحرِمَ بحجٍّ أو عُمْرَةٍ، وفي قولٍ: يجبُ، إلَّا أن يتكرَّرَ دخولُه كحَطَّابٍ وصَيَّادٍ، وعندَ المالكيَّةِ الخلافُ أيضًا، قالُوا: وإن لم يلزمْه فهو مستحبٌّ، ثُمَّ إذا لم يفعلْه هل يلزمُه دمٌ أم لا؟ فيه خلافٌ عندهم، وظاهرُ الحديثِ اللُّزُومُ عَلَى القاصدِ لأداءِ النُّسُكِ خَاصَّةً، وهو مذهبُ الزُّهْريِّ وأبي مصعبٍ في آخرين.
          وقال ابنُ قُدَامَةَ الحنبليُّ: مَنْ لا يريدُ النُّسُكَ قسمان: مُرِيدُ حاجةٍ فيما سواها فلا يلزمُه الإحرامُ قطعًا لأنَّ الشَّارِعَ أتى بدرًا مرَّتين، ولا يُحرِمُ ولا أحدٌ مِنْ أصحابِه، فإن بدا له أَحرَمَ مِنْ موضعِه ولا شيءَ عليه، وبه يقولُ مالكٌ والثَّوريُّ والشَّافعيُّ وصاحبَا أبي حنيفةَ، وحكى ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ في الرَّجُلِ يخرجُ لحاجةٍ وهو لا يريدُ الحجَّ فجاوزَ ذا الحُلَيْفَةَ، ثُمَّ أرادَ الحجَّ يرجعُ إلى ذي الحُلَيْفَةِ فيُحرِمُ، وبه قَالَ إسحاقُ.
          القسمُ الثَّاني: مَنْ يريدُ دخولَ الحرمِ إمَّا إلى مَكَّةَ أو غيرِها كمَنْ يدخلُها لقتالٍ مباحٍ أو مِنْ خوفٍ أو لحاجةٍ متكرِّرَةٍ كالحَشَّاشِ والحَطَّابِ وناقلِ الميرةِ ومَنْ كَانَ له ضيعةٌ يتكرَّرُ دخولُه وخروجُه إليها، فهؤلاء لا إحرامَ عليهم لأنَّ الشَّارِعَ دخلَ يومَ فتحِ مَكَّةَ حلالًا وعلى رأسِه المِغْفَرِ وكذا أصحابُه، ولا نعلمُ أنَّ أحدًا منهم أحرمَ يومئذٍ، ولو أُوجِبَ الإحرامُ عَلَى مَنْ يتكرَّرُ دخولُه أفضى إلى أن يكونَ جميعَ زمنِهِ مُحرِمًا، وبهذا قَالَ الشَّافعيُّ، وظاهرُ قولِه: (مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ) أنَّ مَنْ لم يُرِدْهما لا إحرامَ عليه.
          السَّابعُ: قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: يجمعُ هذا الحديثُ أبوابًا مِنَ السُّنَنِ، منها أنَّ هذِه المواقيتَ لكلِّ مَنْ أتى عليها مِنْ غيرِ أهلِها، فإذا جاءَ المدنيُّ مِنَ الشَّامِ عَلَى طريقِ السَّاحلِ أحرمَ مِنَ الجُحْفَةِ، وإذا أتى اليمانيُّ عَلَى ذي الحُلَيْفَةِ أحرمَ منها، وإذا أتى النَّجديُّ مِنْ تِهَامَةَ أحرمَ مِنْ يَلَمْلَمِ، وكلُّ مَنْ مرَّ بميقاتِ بلدِه أحرمَ منه.
          ومنها أنَّ ميقاتَ كلِّ مَنْ منزلُه دون الميقاتِ ممَّا يلي مَكَّةَ مِنْ منزلِه ذَلِكَ.
          ومنها أنَّ أهلَ مَكَّةَ ميقاتُهم مَكَّةَ.
          ومنها أنَّ هذِه المواقيتَ إنَّما يلزمُ الإحرامُ منها مَنْ يريدُ حَجًّا أو عُمْرَةً دون مَنْ لم يردْه، ولو مدنيٌّ / بذي الحُلَيْفَةِ ولا يريدُهما ثُمَّ أرادَهما قبلَ الحرمِ فميقاتُه موضعُه ولا شيءَ عليه، وعليه عامَّةُ العلماءِ إلَّا أحمدَ وإسحاقَ كما سلفَ.
          الثَّامِنُ: مَكَّةُ ليست ميقاتَ عُمْرَةٍ لأنَّه ◙ أَمَرَ عبدَ الرَّحمنِ أن يُعمِرَ عائشةَ مِنَ التَّنعِيمِ، وهو خارجُ الحرمِ، وهو ظاهرٌ أنَّها ليست ميقاتَ عُمْرَةٍ بل ميقاتَ حجٍّ، وهو اتِّفاقٌ مِنْ أئمَّةِ الفتوى أنَّ المكِّيَّ إذا أرادَ العُمْرَةَ لا بُدَّ له مِنَ الخروجِ إلى الحلِّ يُهِلُّ منه لأنَّه لا بدَّ له في عُمْرَتِه مِنَ الجمعِ بين الحِلِّ والحرمِ وليس ذَلِكَ عَلَى الحاجِّ المكِّيِّ لأنَّهُ خارجٌ في حَجِّه إلى عرفات، وهي الحلُّ، وشَذَّ ابنُ الماجِشُونِ في قوله: لا يَقْرِنُ المكِّيُّ مِنْ مَكَّةَ كالمعتمرِ، وخالفَه مالكٌ وجميعُ أصحابِه فقالُوا: إنَّه يَقْرِنُ منها لأنَّه خارجٌ في حَجِّه إلى حِلِّ عرفةَ، وقد ذَكَرَ ابنُ الموَّازِ عن مالكٍ أنَّه لا يَقْرِنُ إلَّا مِنَ الحلِّ كقولِ ابنِ الماجِشُونِ، فإنِ اعتمرَ مِنْ مَكَّةَ ولم يخرجْ إلى الحلِّ للإحرام حَتَّى طافَ وسعى ففيهما قولان: أحدُهما أنَّ عليه دمًا، لتركِ الميقاتِ وعُمْرَتُه تامَّةٌ، وبه قَالَ الكوفيُّون وأبو ثَورٍ وأحدُ قولي الشَّافعيِّ.
          وثانيهما: أنَّ ذَلِكَ لا يجزئُه حَتَّى يخرجَ مِنَ الحرمِ ثُمَّ يطوفُ ويسعى ويُقَصِّرُ أو يحلقُ ولا شيءَ عليه، ولو كَانَ حَلَقَ أراقَ دمًا، وهو قولُ الشَّافعيِّ الآخرُ وهو الصَّحيحُ، فإن خَرَجَ إلى الحلِّ بعدَ إحرامِه سَقَطَ الدَّمُ عَلَى الأصحِّ، وبالثَّاني قَالَ مالكٌ وأصحابُه، قَالَ مالكٌ: ما رأيْتُ أحدًا أحرمَ بِعُمْرَةٍ مِنَ الحرمِ ولا يُحرِمُ أحدٌ بعُمْرَةٍ مِنْ مَكَّةَ ولا تصحُّ العُمْرَةُ عند جميعِ العلماءِ إلَّا مِنَ الحلِّ لمكِّيٍّ وغيرِه.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: وهذا أشبَهُ، وحكى الثَّوريُّ عن عطاءٍ أنَّهُ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ مَكَّةَ أنَّه لا شيءَ عليه، قَالَ سفيانُ: ونحنُ نقولُ: إذا أَهَلَّ بها لَزمَتْه ويخرجُ إلى الميقاتِ، وقالَ ابنُ المُنْذِرِ: المُحرِمُ بعُمْرَةٍ مِنْ مَكَّةَ تاركٌ لميقاتِه فعليه أن يخرجَ مِنَ الحرمِ ليكونَ قد رجعَ إلى ميقاتِه، كما نأمرُ مَنْ جازَ ميقاتَه أن يرجعَ ما لم يَطُفْ بالبيتِ، فإن لم يخرجْ إلى الحِلِّ حَتَّى يفرغَ مِنْ نُسُكِه فعليه دمٌ، كما يكونُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ تَرَكَ ميقاتَه حَتَّى فرغَ مِنْ نُسُكِه.
          التَّاسِعُ: في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ إثباتُ يَلَمْلَمَ لأهلِ اليمنِ، وابنُ عُمَرَ قَالَ: يزعمُون ذَلِكَ، والمسندُ مقدَّمٌ.
          وفي قولِ عُمَرَ: (فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ) إباحةُ القياسِ عَلَى السُّنَنِ المعروفةِ الحُكْمِ بالتَّشبيهِ والتَّمثيلِ، يدلُّ عَلَى ذَلِكَ ما رواه عبدُ العزيزِ بنُ أبي رَوَّادٍ عن نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا وُقِّتَ قَرْنٌ لأهلِ نجدٍ قَالَ عُمَرُ: قيسوا مِنْ نحوِ العراقِ لنحوِ قَرْنٍ، واختلفُوا في القياسِ فقالَ بعضُهم: ذاتُ عِرْقٍ وقالَ بعضُهم: بطنُ العَقِيقِ، قَالَ ابنُ عُمَرَ: فقاسَ النَّاسُ ذَلِكَ، والنَّاسُ حينئذٍ هم علماءُ الصَّحَابةِ الَّذين هم حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خالفَهم.