التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}

          ░102▒ بَابُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ} إلى قوله: {الْحَرَامِ} [البقرة:196].
          1688- ذَكَرَ فيه حديثَ شُعْبَةَ عنْ أبي جَمرة _بالجيمَ_ قال: (سَأَلْتُ ابن عَبَّاسٍ عَنِ الْمُتْعَةِ، فَأَمَرَنَي بِهَا...) الحديث، وقد سلف في بابِ التَّمتُّعِ، ثمَّ قال: (وَقال آدَمُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِير وَغُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ: عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَحَجٌ مَبْرُورٌ).
          أمَّا تعليقُ آدمَ فأسندَهُ في بابِ: التَّمتُّعِ المذكورِ، وَأَمَّا تعليقُ غُنْدَرٍ فأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عنْ محمَّد بنِ مثنًّى وابنِ بشَّارٍ عَنْهُ، وقال الإِسْمَاعِيلِيُّ: رواه عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ ومُعاذُ بنُ مُعاذٍ وأبو داوُدَ ووَهْبُ بنُ جَرِيرٍ وعبدُ الرَّحْمَنِ الرَّصاصيُّ وهاشمُ بنُ القاسمِ وآدَمُ والأشْيبُ، كلٌّ قال فيه: (حَجٌّ) و(عُمْرَةٌ)، ولا أَعْلَمُ أَحَدًا قال فيه: (مُتَقَبَّلَةٌ).
          وقال أبو نُعَيمٍ: أصحابُ شُعْبَةَ كلُّهم قالوا: (عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ) خَلَا النَّضْرَ فإنَّه قال: مُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ.
          و(الجَزُورُ): المُرادُ هنا الإِبِلُ، مِنَ الجَزْرِ وهو القَطْعُ، أو شاة، وقدِ اختَلف العلماءُ فيما {اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] فقالت طائفةٌ: شاةٌ.
          رُوِيَ ذلك عنْ عَلِيٍّ وابنِ عَبَّاسٍ، رواه عَنْهُما مالِكٌ في «مُوَطَّئِهِ» وأخذَ به، وقال به جمهور العلماءِ، واحتجَّ بِقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] قال: وَإِنَّمَا يحكم به في الهدي شاة، وقد سمَّاها الله تعالى هديًا، وَرُوِيَ عنْ طاوسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ما يقتضي أنَّ ما اسْتَيسَرَ مِنَ الهَدْيِ في حقِّ الغَنيِّ بَدَنةٌ، وفي حقِّ غيرِه بقَرةٌ، وفي حقِّ الفقير شاةٌ.
          وعَنِ ابنِ عمر وابنِ الزُّبَيرِ وعائشةَ أنَّه مِنَ الإِبِلِ والبَقَرِ خاصَّةً، وكَأنَّهم ذَهبوا إلى ذلك مِنْ أَجْلِ قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [الحج:36]. فَذَهَبُوا إلى أنَّ الهَدْي ما وقعَ عليه اسمُ بُدْنٍ، ويردُّه قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إلى قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]. وقد حَكَمَ المسلمونَ في الظَّبْيِ بشاةٍ، فوَقَعَ عليها اسمُ هَدْيٍ.
          وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] يحتمل أنْ يُشيرَ به إلى أقَلِّ أجْناسِ الهَدْيِ وهو الشَّاةُ، وإلى أقلِّ صِفاتِ كلِّ جِنْسٍ، فهو ما رُوِيَ عَنِ ابنِ عمر: البَدَنَة دونَ البَدَنَة، والبقَرةُ دونَ البقَرةِ. فهذا عندَه أفضلُ مِنَ الشَّاةِ، ولا خِلافَ نعلَمُه في ذلك، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الخِلافِ أنَّ الواجدَ للإِبِلِ والبَقَرِ هل يُخرِج شاةً؟ فعِندَ ابنِ عمر يُمنَعُ إمَّا تَحريمًا وإمَّا كَراهةً، وعندَ غيرِهِ نَعَم، ورُوِيَ عَنِ ابنِ عمر وأَنَسٍ: يُجزِئ فيها شِرْكٌ في دَمٍ، ورُوِيَ عنْ عطاءٍ وطاوسٍ والحَسَن مثلُه، وهو قولُ أبي حنيفةَ والثَّورِيِّ والأَوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثَورٍ، لَا تُجْزِئُ عندَهم البَدَنَة والبَقَرةُ عنْ أكثرِ مِنْ سَبْعَة على حَديثِ جَابِر، ولَا تُجْزِئُ عندَهم الشَّاةُ عنْ أكثرَ مِنْ واحدٍ.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: ولا تَعَلُّقَ لهم فِي حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، قال إسْماعِيلُ القاضي: وأبو جَمْرَةَ _وإنْ كَانَ مِنْ صَالحي الشُّيُوخِ_ فإنَّه شَيخٌ، وقد رَوى ثقاتُ أصْحابِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ أنَّ ما {اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} شاةٌ، وإِنَّمَا المعتَمَدُ في العِلمِ على الثِّقاتِ المعروفِين بالعِلمِ.
          وقد روى لَيثُ بنُ أبي سُلَيمٍ عنْ طاوسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ روايةِ أبي جَمْرَةَ، وليثٌ ضعيفٌ، وقدْ روى حَمَّادُ بنُ زَيدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال: ما كنْتُ أَرى أنَّ دمًا واحدًا يقضي عن أكثرَ مِنْ واحدٍ.
          وأمَّا ما رُوي عن جابرٍ أنَّه قال: ((نحرنا يوم الحُدَيبِيَةِ البَدَنَة عن سَبْعَةٍ، والبقَرَةَ عن سَبْعَةٍ)) فلا حُجَّةَ فيه لأنَّ الحُدَيبِيَةَ لم يكُن فيها تمتُّعٌ، وإِنَّمَا كَانَ ◙ أَحْرَمَ بِالعُمْرَةِ مِنْ ذِي الحُلَيفَةِ، وسَاقَ الهَدْيَ، فلمَّا صُدَّ نحَرَ هدْيَهُ، وهو تطوُّعٌ ليسَ فيه تمتُّعٌ ولا غيرُه ممَّا يوجِب هَدْيًا، وهذا كما يُرْوى عنهُ أنَّه ضَحَّى عن أمَّتِه، وكما رُوِيَ عن أَبِي أَيُّوبَ أنَّ الرَّجُلَ يُضحِّي بالشَّاةِ الواحدةِ عنهُ وعن أهلِ بيتِهِ.
          وروى ابنُ عبْدِ الحَكَمِ عن مَالِكٍ أنَّه قال: تفسيرُ حَدِيثِ جابرٍ في التَّطَوُّعِ، والعُمْرَةُ تطَوُّعٌ، لا بأسَ بذلك. وروى عنهُ ابنُ القَاسِمِ أنَّه لا يُشتَركُ في هدْيٍ واجبٍ ولا تَطَوُّعٍ، فإنْ قلتَ: الهدْيُ كَانَ عليهم لأنَّهم حُصِروا. أُجيبَ بأنَّ الهَدْيَ كَانَ قدْ أُشْعِرَ وأُوجِبَ هدْيًا مِنْ قَبلِ أنْ يُحصَروا، ولم يَذكُرْ أَحدٌ أنَّهم استأنفوا هدْيًا بعدَ الحَصْرِ.
          وما رُوِيَ عن أَنَسٍ أنَّهم كَانُوا يشتركون السَّبْعةُ في البَدَنةِ والبَقرةِ، فإنَّما يعني به الأضَاحِيَّ، وليسَ المرادُ به أنَّهم يَشترَكُون في الأُضْحِيَّةِ على أنَّ لِكُلِّ واحدٍ مِنْهُم سَهْمًا مِنْ ملكِها، وإِنَّمَا يعني به أنَّ أهْلَ البيتِ يُضَحُّونَ بالجَزُورِ أو البَقَرَةِ عن جماعَةٍ مِنْهُم، وهذا جائزٌ عندَ المالكيَّةِ، ولو كَانَ أكثرَ مِنْ سبعة إذا كَانَ مَلَكَها رَجلٌ واحدٌ، وضحَّى بها عن نفْسِه وأهلِه.
          وقال ابنُ التِّينِ: قوله: (أَو شِرْكٌ في دَمٍ) هو مذهَبُ سَعْدٍ، ولم يتابعا عليه، / واحتُجَّ عليهما بأنَّ مَنْ فَعَلَ ذلك فهو مُخرِجُ لحمٍ لا دمٍ، واللهُ تعالى يَقُولُ: {فَمَا اسْتَيسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، وقد سلف الكلامُ على صومِ الأيَّامِ الثَّلاثةِ والسَّبعةِ فيما مَضى فراجِعْه [خ¦1572].
          وقوله: (اللهُ أَكْبَرُ) هي كَلِمَةٌ تُقال حِينَ يسمَعُ المرءُ ما يُسَرُّ فيه.
          وقوله: (سُنَّةُ أَبِي القَاسِمِ) أي طريقُه، وهو الْمُبيِّنُ عنِ الربِّ جلَّ جلالُه لما أُجمِل، وإِنَّمَا حدَّث به ابنُ عَبَّاسٍ ليعرِّفَه أنَّ فتواه حَقٌّ.
          فإنْ قلتَ: المتعةُ في الآيةِ للمُحصَرين بالحجِّ، ولم يُذكَرْ معهم مَنْ لم يُحصَر، فكيف أبحتموها لمَنْ لم يحصر؟ وأُجيب بأنَّ في الآية ما يدُلُّ على أنَّ غير المحصَرين قد دخلوا فيها، بما قد أجمعوا عليه، وهو قوله تعالى: {ولَا تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ}الآية [البقرة:196]، فلم يَختلِفْ أهلُ العِلمِ في المُحرِمِ بِالحَجِّ والعُمْرَة ممَّنْ لم يُحصَرْ أنَّه إذا أصابه أذًى في رأسِه أو مرَضٌ أنَّه يحلِقُ، وأنَّ عليه الفِديةَ المذكورةَ في الآيةِ الَّتِي تليها، وأنَّ القصْدَ بها إلى المُحصَرِ لا يَمنعُ دخولَ غيرِه فيها، وكذا قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] لا يَمنعَ أنْ يكونَ غيُره فيه كَهُو، بلْ هو أولى ممَّا ذَكرنا مِنَ المعنى الأوَّلِ الَّذِي في الآيةِ لأنَّه قال في المعنى الأوَّلِ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة:196]، ولم يقلْ ذَلِك في المعنى الثَّانِي مِنْهَا.