التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الكلام في الطواف

          ░65▒ بابُ الكَلاَمِ فِي الطَّوَافِ
          1620- ذَكَرَ فيهِ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ خَيْطٍ، أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلعم بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: قُدْهُ بِيَدِهِ).
          هذا الحديث مِنْ أفراده، وترجم له بعدُ:
          ░66▒ بابٌ إِذَا رَأى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ
          1621- وذَكَرَه بلفظ: أنَّه رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بالكَعْبَةِ بزمامٍ أو غيرِه فقَطَعَهُ.
          وخرَّجَه في كتابِ الأيمانِ والنُّذُورِ بلفظ: ((بِإنْسانٍ يَقُودُ إَنْسَانًا بخِزامةٍ في أَنْفهِ فَقَطعَها النَّبِيُّ صلعم، ثُمَّ أَمَرهُ أن يَقُودَهُ بيدهِ)) [خ¦6703]، وفي روايةٍ للحاكمِ مُصَحَّحَةٍ: ((مَرَّ بِرَجُلٍ قَدْ ربقَ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيطٍ أَوْ بِشَيءٍ غيرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ وَقَالَ: قُدْهُ بِيَدِكَ)).
          وكأنَّ البُخاريَّ أشارَ أيضًا إلى حديثِ ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: ((الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ، إِلَّا أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّ لَكُمْ فيهِ الكَلَامَ، فمَنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَتَكلَّم إلَّا بِخَيرٍ))، صحَّحه الحاكمُ وابنُ حبَّانٍ، والبَيْهَقيُّ صحَّحَ وقفَهُ، وقد أوضَحْتُ طرقَه في تخريجي لأحاديثِ الرَّافِعِيِّ، فليراجَع منه، وروى الشَّافعيُّ عن سعيدِ بنِ سالمٍ عن حَنْظَلةَ عن طاوسٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّه قَالَ: أقلُّوا الكلام في الطَّواف فإنَّما أنتم في صلاةٍ، وعن إبراهيمَ بنِ نافعٍ قَالَ: كلَّمْتُ طاوسًا في الطَّوافَ فكلَّمني.
          وفي «كتاب الجَنَدي» مِنْ حديث إسماعيلَ بنِ عيَّاشٍ: حدَّثَنَا حُمَيدُ بنُ أبي سُويدٍ سَمِعْتُ أبا هاشمٍ يسألُ عطاءَ بنَ أبي رباحٍ عَنِ الطَّوافِ، فقالَ: أخبرني أبو هريرةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: ((مَنْ طَافَ بَالبَيْتِ سبعًا مَا يتكلَّمُ إلَّا: بسبْحَانَ الله، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِالله، مُحِيَتْ عنه عشرُ سيِّئاتٍ، وكُتِبَتْ لهُ عَشْرُ حَسَناتٍ، ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجاتٍ)).
          قُلْتُ: لا جرمَ كَانَ عطاءٌ يكرَه الكلامَ فيه، إلَّا الشَّيءَ اليسيرَ فيما حكاه ابنُ عبدِ البرِّ، وعن مجاهدٍ أنَّه كَانَ يُقرأ عليه القرآن في الطَّوافِ، وقال مالكٌ: لا أرى ذَلِكَ، وليُقبِلَ عَلَى طوافه، ورآه الحَلِيْميُّ مِنْ أصحابِنا أيضًا.
          وقالَ الشَّافعيُّ: أنا أحبُّ القراءةَ في الطَّوافِ، وهو أفضل ما تكلَّم به الإنسان، والأصحُّ عندَ أصحابِه أنَّ الإقبالَ عَلَى مأثورِ الدُّعَاءِ أفضلُ للتَّأسِّي، وهو أفضلُ مِنْ غيرِ مأثورِه، وعَنِ الجُوَينِيِّ أنَّه يحرصُ عَلَى أن يختمَ أيَّامَ الموسمِ في طوافِه ختمةً.
          فرعٌ: يُكرَهُ له الأكل والشُّرب، والشُّرب أخفُّ حالًا لأنَّه ◙ شربَ ماءً فيه، رواه الحاكمُ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، وقالَ: غريبٌ صحيحٌ.
          تتمَّةٌ لما مضى: قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: أوْلى ما شَغل به المرءُ نفسَه في الطَّوافِ: ذِكْرُ اللهِ وقراءة القرآن، ولا يشتغل فيه بما لا يجدي عليه نفعُهُ في الآخرة، مع أنَّا لا نحرِّم الكلام المباح فيه، غير أنَّ الذِّكر أسلم لأنَّ مَنْ تخطَّى الذِّكر إلى غيرِه لم يأمن أن يُخرجَه ذَلِكَ إلى ما لا تُحمَدُ عاقبته، وقد قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: الطَّوافُ صلاةٌ، ولكن قد أذنَ اللهُ لكم فيه بالكلام، فمَنْ نطق فلا ينطق إلَّا بخيرٍ، وقال عطاءٌ: كانوا يطوفون ويتحدَّثون.
          قَالَ: وقال مالكٌ: لا بأس بالكلام فيه، فأمَّا الحديث فأكرهه في الواجب، كذا قيَّده ابنُ التِّيْنِ به بعد أن حكى خلافًا عن أصحابهم في الكراهة فيه، وعن «الموطَّأ»: لا أحبُّ الحديثَ فيه، وعَنِ ابنِ حَبِيبٍ: الوقوف للحديث في السَّعي والطَّواف أشدُّ بغير وقوفٍ، وهو في الطَّواف الواجب أشدُّ، ثُمَّ حكى خلافًا في الكلام فيه بغير ذكرٍ ولا حاجةٍ.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: واختلفوا في قراءة القرآن، فقال ابنُ المُبَارَكِ: ليس شيءٌ أفضلَ مِنْ قراءة القرآن، واستَحبَّه الشَّافعيُّ وأبو ثَورٍ، وقال الكوفيُّون: إذا قرأهُ في نفسه، وكَرِهَتْ طائفةٌ قراءةَ القرآن، ورُوِيَ ذَلِكَ عن عُرْوَةَ والحسنِ ومالكٍ، قال مالكٌ: وما القراءة فيه مِنْ عملِ النَّاس / القديم، ولا بأس به إذا أخفاه ولا يُكثر منه، وقال عطاءٌ: قراءة القرآن في الطَّواف مُحدَثٌ.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: والقراءةُ أحبُّ إليَّ مِنَ التَّسبِيحِ، وكلٌّ حسنٌ، ومَنْ أباحَ القراءةَ في الطُّرُقِ والبوادي، ومنعَه الطَّائفَ متحكمٌ مدَّعٍ لا حُجَّةَ له به.
          فائدةٌ: ينبغي أن يُفتَتَحَ الطَّوافُ بالتَّوحيد، كما تُفتَتَحُ الصَّلاةُ بالتَّكبير، ويخشع لربِّه، ويعقِلَ بيتَ مَنْ يطوف، ولمعروفِ مَنْ يتعرَّض، وليسأل غفرانَ ذنوبه والتَّجاوزَ عن سيِّئاته، ويشغل نفسه بذلك وخواطره، ويترك أمورَ الدُّنيا، كما فَعَلَ ابنُ عُمَرَ حين خطب إليه عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيرِ ابنتَه في الطَّواف، فلم يردَّ عليه كلامًا، فلمَّا جاء إلى المدينة لقيه عُرْوَةُ، فقال له ابنُ عُمَرَ: أدركْتَني في الطَّواف، ونحن بمرأى مِنَ الله بين أعيننا فذلك الَّذي منعني أن أردَّ عليك، ثُمَّ زوَّجَه، والَّذي سأل عُرْوَةُ بابٌ مِنْ أبواب المباح، فأبى ابنُ عُمَرَ أن يجيبَه تعظيمًا لله، إذ هو طائفٌ ببيته الحرام.
          تنبيهٌ: في قَطْعِهِ ◙ السَّيْرَ مِنْ يدِ الطَّائفِ مِنَ الفقه أنَّه يجوز للطَّائف فِعْلُ ما خفَّ مِنَ الأفعال، وأنَّه إذا رأى منكرًا فله أن يغيِّرَه بيده، وإنَّما قطعَه _والله أعلم_ لأنَّ القَوْدَ بالأزِمَّة إنَّما يُفعَلُ بالبهائم، وهو مُثْلَةٌ.
          وفيه أنَّ مَنْ نَذَرَ ما لا طاعةَ للهِ لا يلزمه، ذكرَه الدَّاوُدِيُّ، واعترضَه ابنُ التِّيْنِ فقال: ليس هنا نذرُ ذلك، وغفلَ أنَّه ذكره في النُّذُور كما أسلفناه، قَالَ: وظاهره أنَّه كَانَ ضريرَ البصرِ، وأنَّه فعله لذلك لأنَّه قَالَ: (قُدْ بِيَدِهِ)، والسَّيْرُ: الشِّراك.
          فرعٌ: يجوزُ له إنشادُ الشِّعرِ والرَّجزِ في الطَّوافِ إذا كَانَ مباحًا، قاله المَاوَرْدِيُّ، واستشهدَ له بشواهد، وتبعه صاحبُ «البحرِ».
          فرعٌ: يُكرَهُ له أيضًا البيع والشِّراء فيه إلَّا لحاجةٍ.
          فرعٌ: يُكرَهُ أن يبصقَ فيه أو يتنخَّمَ أو يغتابَ أو يشتمَ، ولا يَفسُدُ طوافُه بشيءٍ مِنْ ذَلِكَ وإنْ أَثِمَ، صَرَّحَ به المَاوَرْدِيُّ.
          فرعٌ: قيل: لا يُكرَهُ التَّعلِيمُ فيه كما في الاعتكافِ، قاله الرُّوْيَانِيُّ هناك.
          فرعٌ: يُكرَهُ أن يضعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ كما في الصَّلاةِ، قاله الرُّوْيَانِيُّ هنا، نعم لو احتاجَ إليه للتَّثاؤبِ فلا كراهةَ كما في الصَّلاةِ.
          فرع: لو طافت مُنتَقِبَةٌ وهي غيرُ مُحرِمَةٍ، فمقتضى مذهبنا كراهتُه كما في الصَّلاةِ، وحكى ابنُ المُنْذِرِ عن عائشةَ أنَّها كانت تطوفُ متنقبةً، وبه قَالَ أحمدُ وابنُ المُنْذِرِ، وكرهه طاوسٌ وغيرُه.