التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن

          ░115▒ بَابُ: ذَبْحِ الرَّجُلِ البَقَرَ عن نِسَائِهِ مِنْ غَيرِ أَمْرِهِنَّ.
          1709- ذَكَرَ فيه حديثَ عَمْرَةَ، عن عائشةَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ، ولا نرَى إِلَّا الحَجَّ، فَلَمَّا دَنَونَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وسَعَى بَينَ الصَّفَا والمَرْوةِ أَنْ يَحِلَّ، قالتْ: فَدُخِلَ عَلَينَا يومَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فقالوا: نَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم عن أَزْواجِهِ، قال: يَحْيَى، فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ، فَقال: أَتَتْكَ بِالحَدِيثِ عَلَى وجْهِهِ).
          الشَّرْحُ: قولها: (لِخَمْسٍ بَقِينَ) قالتْه لأنَّها حَدَّثتْ بذلك بعدَ أنِ انقَضى الشَّهر، فإن كَانَ فيه فالصَّواب أنْ تقُول: لخَمسٍ إنْ بقِين، لأنَّه لا يُدْرى الشَّهرُ كامِلٌ أو ناقِصٌ.
          و(القَِعْدَةِ) بفتحِ القافِ وكسرِها كما سلف [خ¦1545] لأنَّهم يقعُدون فيه عنِ القِتالِ.
          وقولها: (لَا نرَى إِلَّا الحَجَّ) يحتمل أن تريد حِينَ خروجهم مِنَ المدينةِ قَبْل الإهلالِ، ويحتمل أنْ تريدَ أنَّ إحرامَ مَنْ أَحْرَمَ مِنْهُم بِالعُمْرَةِ لا يحلُّ حتَّى يُردِف الحَجَّ، فيكونُ العملُ لهما جميعًا والإحلالُ مِنْهُما، ولا تصحُّ إرادةُ أنَّ كلَّهم أَحْرَمَ بِالحَجِّ لحديثِها / الآخَر مِنْ روايةِ عُرْوةَ عنهَا: ((فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِهِمَا)) وقِيلَ: (لَا نُرَى إِلَّا الحَجَّ) أي لم يقَعْ في أنفُسِهم إلَّا ذلك.
          قال الدَّاوُدِيُّ: وفيه دليلٌ أنَّهم أهَلُّوا مُنتظِرين، ويَردُّ عليه روايةُ: ((لا نَذْكُرُ إِلَّا الحَجَّ)).
          وقولها: (فَلَمَّا دَنَونَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وسَعَى أَنْ يَحِلَّ) أي مِنْ عُمرَتِه، ومَنْ معه هدْيٌ أَحْرَمَ بحَجٍّ، فلا يحلُّ حتَّى يومِ النَّحْرِ هذا هو الظَّاهرُ.
          وقولها: (فَدُخِلَ عَلَينَا يومَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ) فيه النَّحْرُ عنِ الغَيرِ، والنَّحرُ عنِ الجماعةِ مِنْ أهلِ بيتِه، وهذا الذَّبْحُ إِنَّمَا كَانَ هديَ التَّمتُّعِ، نحَرَه ◙ عمَّنْ تمتَّع مِنْ أزواجِه، ويحتمل كما قال ابنُ التِّينِ: أنْ يَجريَ مجرَى الأُضْحِيَّةِ، ويَردُّه أنَّ أهلَ مِنًى لا أَضاحيَّ عليهم، أي على قاعِدَتِه، ويحتمل أنْ يكونَ هدْيًا، والأظهَرُ مِنْ قوله: (نَحَرَ عَنْ أَزْواجِهِ) الاشتراكُ، وقدِ اختَلفَ قولُ مَالِكٍ: هلْ يُشتَركُ في هديِ التَّطوُّعِ؟
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: أخَذَ جماعةٌ مِنَ العلماءِ بظاهِرِ الحديثِ، وأجازُوا الاشتراكَ في هديِ التَّمتُّعِ والقِرانِ، على ما سلف في حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، ومنَعَه مالِكٌ قال: ولا حُجَّة لِمَنْ خالَفَه في هذا الحديثِ لأنَّ قوله: (نَحَرَ عن أَزْواجِهِ) البقرَ، يحتمل أنْ يكونَ نحَرَ عن كلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بقرةً، قال: وهذا غيرُ مدفوعٍ مِنَ التَّأويلِ.
          قلتُ: يَدفعُه روايةُ عُرْوةَ عن عائشةَ: ((ذَبَحَ رَسُولَ اللهِ صلعم عمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً))، ذَكرَه ابنُ عبدِ البَرِّ مِنْ حَدِيثِ الأَوزاعيِّ عنِ الزُّهْرِيِّ عن عُرْوةَ.
          وفي «الصَّحيحينِ» مِنْ حَدِيثِ جابرٍ: ((ذَبَحَ رَسُولَ اللهِ صلعم عن نِسَائِهِ بَقَرَةً يوم النَّحْرِ)) وفي روايةٍ: ((بَقَرَةً في حَجَّتِهِ)) وفي روايةٍ: ((ذَبَحَهَا عن نِسَائِهِ)).
          وفي «صَحِيحِ الحَاكِمِ» على شرطِ الشَّيخَينِ مِنْ حَدِيثِ يَحيى بنِ أبي كَثِيرٍ، عن أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيرَةَ: ((ذَبَحَ رَسُولُ اللهِ صلعم عمَّنِ اعْتَمَرَ مِنْ نِسَائِهِ في حَجَّةِ الْودَاعِ بَقَرَةً بَينَهُنَّ)) ثمَّ قال ابنُ بَطَّالٍ: فإنْ قيلَ: إِنَّمَا نَحَر البقر عنهُنَّ على حسبِ ما أتى عنهُ في الحُدَيبِيَةِ أنَّه نحرَ البقرةَ عن سَبْعَةٍ، والبَدَنَةَ عن سَبْعَةٍ، قيلَ: هذه دعوى لا دليلَ عليها لأنَّ نحْرَه في الحُدَيبِيَة كَانَ عندنا تطوُّعًا، والاشتراكُ في هديِ التطوُّع جائزٌ على روايةِ ابنِ عبدِ الحَكَمِ عن مَالِكٍ، والهديُ في حديثِ عائشةَ واجبٌ، والاشتراكُ ممتَنِعٌ في الهديِ الواجبِ، فالحديثان مستعمَلان عندَنا على هذا التَّأويلِ.
          قال القاضي إسماعيلُ: وأَمَّا روايةُ يونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ عن عُرْوةَ عن عائشةَ: ((أنَّهُ ◙ نَحَرَ عن أَزْواجِهِ بَقَرَةً واحِدَةً)) فإنَّ يونُسَ انْفَرَدَ به وحدَه، وخالفَهُ مَالِكٌ فأرسلَه، ورواهُ القَاسِمُ وعَمْرَةُ عن عائشةَ: ((أنَّهُ ◙ نَحَرَ عن أَزْواجِهِ الْبَقَرَ))، حَدَّثَنَا بذلك أبو مُصْعَبٍ عن مَالِكٍ، عنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ عن أبيهِ عن عائشةَ، وحَدَّثَنَا به القَعْنَبِيُّ عن سليمانَ بنِ بلالٍ عن يَحيى عن عَمْرَةَ عنهَا، وحَدَّثَنَا به عن سفيانَ، عن يَحيى عن عَمْرَةَ عنهَا، وهذهِ أسانيدُ الفقهاءِ الَّذِين يَفهَمون ما يُحتاجُ إلى فَهمِه، وقال أبو عُمرَ لمَّا ذَكَرَ حديثَ عُرْوةَ السَّالِفَ: هو معارِضٌ لحديثِ يَحيى: ((ذَبَحَ عن نِسَائِهِ البَقَرَ)).
          وحديثِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ عن أبيهِ عنهَا: ((ضَحَّى عن نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ)) على لفظِ الجمعِ، وفي حديثِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ سمعَ أباهُ مُرسلًا يَقُولُ: ((أَهْدَى رَسُولُ اللهِ صلعم عن نِسَائِهِ في حَجَّةِ الْودَاعِ بَقَرَةً بَقَرَةً عن كُلِّ امْرَأَةٍ))، قلتُ: أخرجَه النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إسرائيلَ عن عمَّارٍ عن عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ عن أبيهِ عنهَا، قال أبو عُمرَ: يحتمل أنْ تكونَ أرادَت بذِكْر الجِنْسِ كَأنَّها قالت: دُخِل علينا بلحمٍ لم يكن لحمَ إبِلٍ ولا غنَم، كما تقول: لحمٌ بقَرِيٌّ، فلا خُلْفَ بينَ الخبرين، وصحَّ مَذْهَبُ مَالِكٍ أنْ يضحِّيَ الرَّجلُ عن نفْسِه وأهلِ بيتِه بقرةً واحدةً، وفي معناها عندَه الشَّاةُ الواحدةُ.
          وفيه النَّحْرُ عنِ الغيرِ كما سلف، قال الدَّاوُدِيُّ: فيه النَّحْرُ عمَّنْ لم يَأمرْ، فإنَّ الإنسانَ يدرِكُه ما عُمِلَ عنهُ بغيرِ أمرِه، وأنَّ معنى قوله تعالى: {وَأَنْ لَيسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] أي لا يكونُ لهُ ما سعَاه غيرُه لنفْسِه، وقد قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَينَكُمْ} [البقرة:237] مَعَ قوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّسَاء:29] فخرَج هذا عمومًا يُراد به الخصُوصُ، ثمَّ بيَّنه بِقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَينَكُمْ} وبِقوله: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَولِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب:6]، وبِقوله: {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَو دَينٍ} [النِّسَاء:12].
          فَلَيسَ للإنسانِ إلَّا ما سَعى أو سُعِيَ له.
          وقوله: (نَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم عن أَزْواجِهِ) مُقتضاه نحرُ البَقَر، وأَجَازَهُ مَالِكٌ وغيرُه، ويُستَحبُّ فيها الذَّبحُ لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، والحديثُ وردَ بلفظِ النَّحْرِ كما هنا، وبلفظِ الذَّبْحِ، وعليه ترجم البخاريُّ وذَكرَه بلفظِ النَّحْرِ، ويجوزُ أنْ يكونَ الرَّاوي لمَّا استوى عندَهُ الأمْرَان عبَّر مرَّةً بهذا ومرَّةً بهذا وفي روايةٍ: ((ضَحَّى)).
          قال ابنُ التِّينِ: فإنْ تكنْ هديًا فهي تؤيِّدُ مَذْهَبَ مَالِكٍ، وإن تكنْ ضحايا فيحتمل أنْ تكونَ تطوُّعًا، وأن تكون واجبةً لوجوبِ ضحايا غيرِ الحاجِّ، وعن مَالِكٍ فيما حَكَاهُ أبو عُمرَ إنْ ذُبحَ الجزورُ مِنْ غيرِ ضَرُورَةٍ، أو نُحرَتِ الشَّاة مِنْ غيرِ ضَرُورَةٍ لم تُؤكلْ، وكَانَ الحَسَنُ بنُ حيٍّ يستحِبُّ نحرَ البقرِ، وهو قولُ مُجَاهِدٍ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ الحاجَّ يضحِّي، وهو مذهبُنا خلافًا لمالِكٍ، حيث قال: لا أضحيَّة عليه، وإِنَّمَا سُنَّتُهم الهدايا.
          وفيه التوجيهُ باللَّحمِ.
          وقولُ القَاسِمِ: (أَتَتْكَ بِالحَدِيثِ على وجْهِهِ) تصديقًا لعَمْرَةَ، وإخبارًا عن حفظِها، وأنَّها لم تغيِّر مِنْهُ شيئًا بتأويلٍ ولا غيرِه، فذكرَتِ ابتداءَ الإحرامِ وانتهاءَهُ حِينَ وصلوا إلى مَكَّةَ، وفسْخَ مَنْ لم يسقِ الهدي.
          وفيه أنَّ مَنْ كفَّرَ عن غيرِه كفَّارةَ يمينٍ أو ظِهارٍ / أو قتْلِ نفْسٍ، أو أهدى عنهُ، أو أدَّى عنهُ دَينًا بغيرِ أمرِه أنَّ ذلك كلَّه مجزئٌ عنهُ لأنَّه لم يَعرفْ نِساءُ رسولِ اللهِ صلعم بما أدَّى عنهُنَّ مِنْ نَحْرِ البقرِ لما وجب عليهنَّ مِنْ نُسُك التَّمتُّع، وهو حُجَّةٌ لابنِ القَاسِمِ في قوله: إذا أَعتقَ الرَّجلُ عبدَه عن غيرِه في كفَّارةِ الظِّهارِ أنَّه يجزئُه، ولم يُجِزْه أشْهَبُ وابنُ المَوَّازِ، وقالا: لا يعتِقُ عنهُ بغيرِ أمرِه لأنَّه فرْضٌ وجبَ عليه، ودليلُ هذا الحديثِ لازِمٌ لهما ولمَنْ قال بِقولهما مِنَ الفقهاء، وقد سلف ذلك في الإيمانِ في بابِ: الأعمال بالنِّيَّةِ [خ¦54].