التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون

          ░98▒ بابُ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالمُزدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ القَمَرُ
          ذَكَرَ فيهِ خمسةَ أحاديثَ:
          1676- أحدُها: عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّه كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ بِالمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الجَمْرَةَ، وَكَانَ ابنُ عُمَرَ يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللهِ صلعم.
          1677- ثانيها: حديثُ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم منْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ.
          1678- وفي روايةٍ: أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلعم لَيْلَةَ المُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ.
          1679- ثالثُها: حديثُ أَسْمَاءَ أَنَّها نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ المُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: لا، فَصَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: لا، ثُمَّ صَلَّتْ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ القَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا، حَتَّى رَمَتِ الجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهْ، مَا أُرَانَا إلَّا قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولُ اللهِ صلعم أَذِنَ لِلظُّعُنِ.
          1680- رابعُها: حديثُ عائشةَ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صلعم لَيْلَةَ جَمْعٍ _وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبِطَةً_ فَأَذِنَ لَهَا.
          1681- الخامسُ: حديثُها أيضًا: نَزَلْنَا بالمُزْدَلِفَةِ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صلعم سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ _وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً_ فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ.
          الشَّرحُ: هذه الأحاديثُ كلُّها أخرجَها مسلمٌ بزيادةِ أمِّ حبيبةَ.
          وحديثُ أسماءَ أخرجَه البُخاريُّ مِنْ حديثِ ابنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي عبدُ الله _مولى أسماءَ_ عَنْ أسماءَ، وأخرجَه أبو داودَ عن مُحَمَّدِ بنِ خَلَّادٍ عن يحيى عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ أخبرني عطاءٌ أخْبَرَنِي مخبرٌ عن أسماءَ أنَّها رَمَتِ الجَمْرَةِ، قُلْتُ: إنَّا رَمَينَا الجَمْرَةَ بليلٍ، فقَالَتْ: إنَّا كنَّا نصنعُ هذا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم، وأخرجَه النَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ مالكٍ عن يحيى عن عطاءٍ أنَّ مولًى لأسماءَ بنتِ أبي بكرٍ أخبرَه، فذكرَه، وجعلَ الطَّرْقِيُّ هذا وحديث البُخاريِّ واحدًا، وقالَ الدَّانِيُّ في «أطرافِ الموطَّأ»: قَالَ يحيى بن يحيى في سندِه: عن مولاةٍ لها _عَلَى التَّأنيث_ وعندَ ابنِ بُكَيرٍ وغيرِه: مولًى، وهو الصَّحِيحُ.
          والمشعرُ: بفتحِ الميمِ وفي لغةٍ كسرُها، ونقلَ ابنُ التِّيْنِ عَنِ الكسائيِّ أنَّ عليها أكثرَ العربِ، وادَّعَى القُتَيبِيُّ أنَّه لم يقرأْ به أحدٌ، وذكرَ الهُذَلِيُّ أنَّها قراءةٌ، وقالَ صاحبُ «المطالعِ»: بكسرِ الميمِ لغةٌ لا روايةٌ، وحكى ابنُ التَّيَّانيِّ في «الموعبِ» عن قُطْرُبٍ لغةً ثالثةً بفتحِ الميمِ وكسرِ العينِ.
          و(الحَرَمُ) معناه: المُحَرَّمُ لا مِنَ الحِلِّ، وقيلَ: ذو الحرمةِ، وسُمَّيَ مَشْعَرًا لما فيه مِنَ الشِّعَارَ، وهي معالمُ الدِّينِ، وحدُّه ما بين مَأْزِمي عرفةَ وقَرْنِ مُحَسِّرٍ يمينًا وشمالًا.
          و(ثَبِطَةً) _بفتحِ الثَّاءِ المثلَّثةِ ثُمَّ باءٍ موحَّدةٍ مكسورةٍ_ بطيئة، قَالَ صاحبُ «المطالعِ»: كذا ضبطناه، وضبطَه الجَيَّانيُّ عَنِ ابنِ سِرَاجٍ بالكسرِ والإسكانِ، وقالَ الخَطَّابيُّ أيضًا: الثَّبِطَةُ: البطيئةُ، وقد ثَبَّطْتُ الرَّجُلَ عن أمرِه، ومنه قولُه تعالى: {فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوبة:46].
          والظُّعُنُ _بضمِّ الظَّاءِ المعجمةِ ثُمَّ عينٍ مهملةٍ_ جمعُ ظعينةٍ وهُنَّ النِّسَاءُ، وفي «المحكمِ»: هو جمعُ ظاعنٍ، والظُّعُنُ اسمٌ للجمعِ، والظُّعُونُ مِنَ الإبلِ: الَّذي تركبُه المرأةُ خاصَّةً، والظَّعِينَةُ أيضًا: الجملُ يُظْعَنُ عليه، والظَّعِينَةُ: الهودجُ تكونُ فيه المرأةُ، وقيلَ: هو الهودجُ كانت فيه امرأةٌ أو لم تكن، والظَّعِينَةُ: المرأةُ في الهودجِ سُمِّيَتْ به عَلَى حدِّ تسميةِ الشَّيء باسمِ ما يُجَاوِرُه، وقيلَ: لأنَّها تظعَنُ مع زوجِها، ولا تُسَمَّى ظعينةً إلَّا وهي في هودجٍ، وقيلَ الظُّعُنُ: الجماعةُ مِنَ النِّسَاءِ والرِّجَالِ.
          أمَّا فقهُ البابِ: فيُسَنُّ تقديمُ النِّسَاءِ والضَّعَفَةِ بعدَ نصفِ اللَّيلِ إلى مِنًى ليرموا جمرةَ العقبةِ قبلَ زحمةِ النَّاسِ، ويبقى غيرُهم حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبحَ مغلِّسين اقتداءً به، والمعنى فيه اتِّسَاعُ الوقتِ للدُّعَاءِ، والتَّغلِيسُ هنا أشدُّ استحبابًا مِنْ باقي الأيَّامِ، ولهذا قَالَ ابنُ مسعودٍ فيما مضى: إنَّها حُوِّلَتْ عن وقتِها، أي: المعتاد، وينبغي أن يحرصَ عَلَى صلاةِ الصُّبحِ هناكَ فقد صحَّ فيه حديثِ عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسٍ السَّالِفِ [خ¦1664] [خ¦1665].
          وقالَ ابنُ حَزْمٍ: فرضٌ عَلَى الرِّجَالِ أن يصلُّوا الصُّبحَ مع الإمامِ الَّذي يقيمُ الحجَّ بمزدلفةَ، قَالَ: فمَنْ لم يفعلْ ذَلِكَ فلا حجَّ له، وانفردَ أبو حنيفةَ حيثُ قَالَ: لا يجوزُ لغيرِ الضَّعَفَةِ النَّفْرُ قبلَ الفجرِ، قَالَ: فإن نَفَرَ لزمَه دمٌ، وسيأتي إيضاحه.
          والوقتُ المستحبُّ لرمي جمرةِ العقبةِ بعدَ طلوعِ شمسِ يوم النَّحْرِ اقتداءً بالشَّارِعِ، واختلفَ العلماءُ هل يجوزُ رميها قبلَ ذَلِكَ؟ فقال مالكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثَورٍ: يجوزُ رميها بعدَ طلوعِ الفجرِ / وقبلَ طلوعُ الشَّمْسِ، وإن رماها قبلَ الفجرِ أعادَ، ونُقِلَ عن أكثرِ العلماءِ، ورَخَّصَتْ طائفةٌ في الرَّمي قبلَ طلوعِ الفجرِ، رُوِيَ ذَلِكَ عن عطاءٍ وطاوسٍ والشَّعْبيِّ، وبه قَالَ الشَّافعيُّ: بعدَ نصفِ اللَّيلِ، وحُكِيَ عنه مثل الأوَّل، حكاه عنه ابنُ التِّيْنِ، وقالَ النَّخَعِيّ ومجاهدٌ: لا يرميها حَتَّى تطلعَ الشَّمْسُ، وبه قَالَ الثَّورِيُّ وأبو ثَورٍ وإسحاقُ، وهو خلافُ قولِ الأكثرين، منهم الأربعةُ.
          فهذه مذاهبُ ثلاثةٌ؛ حُجَّةُ الأوَّلِ حديث ابنِ عُمَرَ السَّالف أوَّلَ البابِ، وحُجَّةُ الثَّاني حديث أسماءَ في البابِ، لكن لم يذكرِ البُخاريُّ فيه الرَّمي قبلَ الفجرِ، ورواه غيرُه.
          وغَلَّسَ محتملةٌ للتَّأويلِ لا يُقطَعُ بها لأنَّه يجوزُ أن يُسَمَّى ما بعدَ الفجرِ غَلَسًا، واعترضَ ابنُ القَصَّارِ فقالَ: لو صحَّ رَمَيْنَا قبلَ الفجرِ لكان ظَنًّا منه لأنَّه لَمَّا رآها صَلَّتِ الصُّبحَ في دارِها ظنَّ أنَّ الرَّمي كَانَ قبلَ الفجرِ والرَّميُ كَانَ بعدَ الفجرِ، فأخَّرت صلاةَ الصُّبحِ إلى دارِها.
          وقولُها فيه: (هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم) إشارةٌ إلى فعلِها، وفعلُها يجوزُ أن يكونَ بعدَ الفجرِ لأنَّها لم تقلْ هي: رمينا قبلَه، ولا قَالَتْ: كنَّا نرمي معه قبلَه، لأنَّه لم يقلْ أحدٌ عن رَسُولِ اللهِ صلعم إنَّه رمى قبلَه، وفيه ما لا يخفى.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ أيضًا بحديثِ أمِّ سَلَمَةَ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَهَا أَنْ تصبحَ بمَكَّةَ يومَ النَّحْرِ، وهذا لا يكونُ إلَّا وقد رَمَتِ الجمرة بمنًى ليلًا قبلَ الفجرِ، لأنَّه غيرُ جائزٍ أن يوافي أحدٌ صلاةَ الصُّبحِ بمَكَّةَ وقد رمى جمرة العقبة إلَّا وقد رماها ليلًا، لأنَّ مَنْ أصبحَ بمنًى فكان بها بعدَ طلوعِ الفجرِ فإنَّه لا يمكنه إدراكُ الصُّبح بمَكَّةَ.
          وقد ضَعَّفَ أحمدُ حديثَ أمِّ سَلَمَةَ ودَفَعَهُ وقالَ: لا يَصِحُّ، رواه أبو معاويةَ عن هشامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيه عن زينبَ بنتِ أبي سَلَمَةَ عن أمِّ سَلَمَةَ: أمرها أن توافيَ معه صلاةَ الصُّبحِ يومَ النَّحْرِ بمَكَّةَ، ولم يُسنده غيرُه، وهو خطأٌ.
          قَالَ وَكِيْعٌ: عن هشامٍ عن أبيه مرسلٌ ((أنَّه ◙ أَمَرَها أَنْ تُوَافيَ صَلَاةَ الصُّبحِ يَومَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ))، قَالَ أحمدُ: هذا أيضًا عَجَبٌ، وما يصنعُ النَّبِيُّ صلعم يومَ النَّحْرِ بمَكَّةَ؟! ينكرُ ذَلِكَ، قَالَ: فجئتُ إلى يحيى بنِ سعيدٍ فسألتُه، فقالَ: عن هشامٍ عن أبيه: ((أَمَرهَا أَنْ تُوَافيَ)) وليسَ ((أَنْ تُوافيه))، قَالَ: وبين هذين فرقٌ، ((يوم النَّحْرِ صَلَاةَ الصُّبحِ بِالأَبْطحِ))، وقالَ لي يحيى بنُ سعيدٍ: سَلْ عبدَ الرَّحمَنِ بنَ مهديٍّ فسألتُه فقالَ: هكذا قَالَ سفيانُ عن هشامٍ عن أبيه: ((توافي))، قَالَ أحمدُ: رَحِمَ اللهُ يحيى ما كانَ أَضبَطَهُ وأَشَدَّ تَفَقُّدِه.
          واحتجَّ الثَّورِيُّ بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قَدَّمَ أُغَيلِمَةَ بني عبدِ المُطَّلِبِ وضَعَفَتَهُم، وقالَ: ((يا بَنِيَّ لَا تَرْمُوا الجَمْرةَ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ))، رواه شُعْبَةُ عن الحكمِ عن مِقْسَمٍ عن ابنِ عبَّاسٍ به، ورواه سفيانُ ومِسْعَرٌ عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ عَنِ الحسنِ العُرَنيِّ عن أبيه عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: قَدِمْنَا مِنَ المزدلفةِ بليلٍ، فقالَ ◙: ((أَبُنَيَّة عَبْدِ المُطَّلِبِ لَا تَرْمُوا الجَمْرةَ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ)) وهذا إسنادُه، وإن كَانَ ظاهرُه الحُسْنُ، فإنَّ حديثَ ابنَ عُمَرَ وأسماءَ يُعارضانه، فلذلكَ لم يخرِّجه البُخاريُّ مع أنَّه قد روى مولى ابنُ عبَّاسٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلعم مع أهلِه، وأمرني أن أرمي مع الفجرِ فخالفَ حديث مِقْسَمٍ عنه.
          وصَوَّبَ الطَّبَرِيُّ القولَ الأوَّلَ لأنَّ حينئذٍ يحلُّ الحاجُّ، وذَلِكَ أنَّ بطلوعِ الفجرِ مِنْ تلكَ اللَّيلَةِ انقضى وقت الحجِّ، وفي انقضائِه انقضاءُ وقت التَّلبِيَةِ ودخولُ الرَّمي، غير أنَّه لا ينبغي لِمَنْ كَانَ مُحْرِمًا أن يلبسَ أو يَتَطَيَّبَ أو يعملَ شيئًا ممَّا كَانَ حرامًا عليه قبلَ طلوعِ الفجرِ يوم النَّحْرِ، حَتَّى يرمي جمرةَ العقبةِ استحسانًا واتَّباعًا في ذَلِكَ السُّنَّة، فإذا رمى الجمرة فقد حلَّ مِنْ كلِّ شيءٍ حَرُمَ عليهِ إلَّا الوطءَ، حَتَّى يطوفَ للإفاضةِ، قُلْتُ: كأنَّه لم يرَ الحلقَ مِنْ أسبابِه.
          وقالَ ابنُ المُنْذِرِ: السُّنَّةُ ألَّا يرميَ إلَّا بعدَ طلوعِ الشَّمْسِ للاتِّباَعِ، ومَنْ رمى بعدَ طلوعِ الفجرِ قبلَ طلوعِ الشَّمْسِ فلا إعادةَ عليه، إذْ لا أعلمُ أحدًا قَالَ: لا يجزئه.
          وقالَ الطَّبَرِيُّ: الدَّليلُ الواضحُ أنَّ لأهلِ الضَّعْفِ في أبدانِهم تَرْكَ الوقوفِ بالمًشعَرِ الحرامِ والتَّقَدُّمَ مِنْ جَمْعٍ، وقَدِ اختلفَ السَّلَفُ في ذَلِكَ، فقَالَتْ طائفةٌ: يجوزُ، فمَنْ تَقَدَّمَ بليلٍ مِنْ أهلِ القوَّةِ فلم يقفْ بها مع الإمامِ فقد ضَيَّعَ نُسُكًا وعليه دمٌ، وهو قولُ مجاهدٍ وعطاءٍ وقَتَادَةَ والزُّهْرِيِّ والثَّوريِّ وأبي حنيفةَ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثَورٍ، وكان مالكٌ يقولُ: إنَّ مَنْ مرَّ بها فلم ينزلْ بها فعليه دمٌ، ومَنْ نزلَ ثُمَّ دفعَ أوَّلَ اللَّيلِ أو وسطَه أو آخرَه ولم يقفْ مع الإمامِ أجزأه ولا دمَ عليه، وهو قولُ النَّخَعِيِّ وحُجَّتُهُ الاتِّبَاع، فمَنْ خالفَ فعليهِ دمٌ، وإنَّما أَجَزْنَا له التَّقَدُّمَ ليلًا إذا باتَ بها لتقديمِه ◙ أهلَه ليلًا، فكانَ ذَلِكَ رخصةً لكلِّ أحدٍ باتَ بها.
          وقالَ الشَّافعيُّ: إنْ دفعَ منها بعدَ نصفِ اللَّيلِ فلا شيءَ عليه، وإن خرجَ منها قبلَه ولم يعدْ إليها افتدى، والفديةُ شاةٌ.
          وقالَ آخرون: جائزٌ ذَلِكَ لكلِّ أحدٍ، للضَّعِيفِ والقويِّ، وكانوا يقولون: إنَّما هو منزلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم كبعضِ منازلِ السَّفَرِ، فمَنْ شاءَ فعلَ ومَنْ شاءَ تركَه، ورُوِيَ ذَلِكَ عن عطاءٍ والزُّهْريِّ وحُكِيَ أيضًا عَنِ الأوزاعيِّ، وسيأتي ما يخالفه، واحتجُّوا بحديثِ ابنِ عُمَرَ مرفوعًا: ((إنَّما جَمْعٌ مَنْزِلٌ لِدَلْجِ المُسْلِمِينَ)).
          وذهبَ قومٌ إلى أنَّ المبيتَ بها فرضٌ لا يجوزُ الحجُّ إلَّا به، وبه قَالَ ابنُ بنتِ الشَّافعيِّ وابنُ خُزَيمَةَ، وأشارَ ابنُ المُنْذِرِ إلى ترجيحِه وفيه قوَّةٌ، وبه قَالَ خمسةٌ مِنَ التَّابعين، وقالَ به ابنُ حَزْمٍ والشَّعْبيُّ والنَّخَعِيُّ وعلقمةُ والأوزاعيُّ أيضًا وحَمَّادُ بنُ أبي سليمانَ، ويُروَى عَنِ ابنِ الزُّبَيرِ والحسنِ وأبي عُبَيْدٍ القاسمِ بنِ سَلَّامٍ: ويجعلُ إحرامه عمرةً، وحكاه ابنُ التِّينِ عن علقمةَ والنَّخَعِيِّ والشَّعْبيِّ في الوقوفِ بالمَشعَرِ الحرامِ، وأنَّهُ إن لم يقفْ به فاته الحجَّ للآيةِ.
          قَالَ الطَّحَاوِيُّ: والحُجَّةُ عليهم أنَّ قولَه تعالى: {فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة:198] ليس فيه دليلٌ أنَّ ذَلِكَ عَلَى الوجوبِ، ولأنَّ اللهَ تعالى إنَّما ذكرَ الذِّكْرَ ولم يذكرِ الوقوفَ، / وكُلٌّ قد أجمعَ أنَّه لو وقفَ بالمزدلفةِ ولم يذكرِ اللهَ تعالى أنَّ حَجَّهُ تامٌّ، فإذا كَانَ الذِّكْرُ المذكورُ في الكتابِ ليسَ مِنْ صلبِ الحجِّ فالموطنُ الَّذي يكونُ ذلكَ الذِّكْرُ فيه الَّذي لم يُذكَرْ في الكتابِ أحرى ألَّا يكونَ فرضًا، وقد ذكرَ اللهُ تعالى في كتابِه أشياءَ في الحجِّ لم يُرِدْ بذكرِها إيجابَها في قولِ أحدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ، مِنْ ذَلِكَ قولُه تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ} الآية [البقرة:158] وكُلٌّ قد أجمعَ النَّظَرَ أنَّه لو حجَّ ولم يَسْعَ أنَّ حَجَّهُ قد تمَّ وعليه دمٌ مكانَ ما تركَ مِنْ ذَلِكَ، فكذلكَ ذكرُ اللهِ في المَشعَرِ.
          قُلْتُ: لا يُسَلَّمُ له الإجماع، فمذهبُ الشَّافعيِّ أنَّه ركنٌ لا يصحُّ الحجُّ إلَّا به ولا يُجبَرُ بدمٍ، وأمَّا حديثُ عُرْوَةَ بنِ مُضَرِّسٍ السَّالِفُ فلا حُجَّةَ فيه، لإجماعِهم عَلَى أنَّه لو باتَ بها ووقفَ ونامَ عَنِ الصَّلَاةِ فلم يصلِّها مع الإمامِ حَتَّى فاتته أنَّ حَجَّهُ تامٌّ، فلمَّا كَانَ الحضورُ مع الإمامِ ليسَ مِنْ صلبِ الحجِّ الَّذي لا يجزئ إلَّا به كَانَ الموطنُ الَّذي تكونُ فيه تلكَ الصَّلاة الَّتي لم تُذكَرْ في الحديثِ أحرى ألَّا يكونَ كذلك، فلم يتحقَّقْ بهذا الحديثِ ذكرُ الفرضِ إلَّا بعرفةَ، قُلْتُ: وخلافُ ابن حَزْمٍ الَّذي قَدَّمْتُه لا يقدحُ في هذا الإجماعِ.
          قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وفي حديثِ سَوْدةَ تركُ الوقوفِ أصلًا، وكذلك في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وأسماءَ، وفي إباحةِ الشَّارع لهم ذَلِكَ للضَّعيف دليلٌ عَلَى أنَّ الوقوفَ بها ليسَ مِنْ صلبِ الحجِّ كالوقوفِ بعرفةَ، أَلَا تَرَى أنَّ رجلًا لو ضَعُفَ عَنِ الوقوفِ بعرفةَ وتَرَكَ ذَلِكَ لضعفِه حَتَّى طلعَ الفجرُ يومَ النَّحْرِ أنَّ حَجَّه قد فسدَ؟ ولو وقفَ بها بعدَ الزَّوَالِ ثُمَّ نفرَ منها قبلَ الغروبِ أنَّ أهلَ العلمِ مجمعون عَلَى أنَّه غيرُ معذورٍ للضَّعْفِ الَّذي به، وأنَّ طائفةً منهم تقولُ: عليه دمٌ، لترْكِه بَقِيَّة الوقوفِ بعرفةَ، وطائفةٌ منهم تقولُ: قد فسدَ حَجُّه، ومزدلفةُ ليست كذلك، لأنَّ مَنْ أوجبَ الوقوف بها يجيزون النُّفُورَ عنها بعدَ وقوفِه بها قبلَ فراغِ وقتها، وهو قبلَ طلوعُ الشَّمْسِ مِنْ يومِ النَّحْرِ لعذرِ الضَّعْفِ، فلمَّا ثبتَ أنَّ عرفةَ لا يسقطُ فرضُ الوقوفِ بها للعذرٍ ولا يحلُّ النُّفُور منها قبلَ وقتِه للعذرِ، وكانت مزدلفةُ ما يُبَاح ذَلِكَ منها بالعذرِ، ثبتَ أنَّ حُكْمَ مزدلفة ليست في حُكْمِ عرفة لأنَّ الَّذي يسقطُ للعذرِ ليس بواجبٍ، والَّذي لا يسقطُ بالعذرِ هو الواجبُ.
          وفي «شرحِ الهدايةِ»: لو تَرَكَ الوقوفَ بها بعدَ الصُّبحِ مِنْ غير عذرٍ فعليه دمٌ، وإنْ كَانَ بعذرِ الزِّحَامِ فتَعَجَّلَ السَّير إلى مِنًى فلا شيءَ عليه.
          فرعٌ: يحصلُ المبيت بساعةٍ مِنَ النِّصْفِ الثَّاني مِنَ اللَّيلِ دونَ الأوَّلِ عَلَى الأصحِّ، وقالَ ابنُ التِّيْنِ: الشُّرُوعُ مِنَ المبيتِ فيها النُّزُول فيها والمُقَام بمقدارِ ما يُرَى أنَّه مُقَامٌ، فإنْ منعَه مِنَ النُّزُولِ مانعٌ فقالَ مُحَمَّدٌ: عليه بدنةٌ، وقالَ مالكٌ: إن نزلَ بها ثُمَّ ارتحلَ عنها أوَّل اللَّيلِ عامدًا أو جاهلًا فلا شيءَ عليه، ومَنْ جاءَها بعدَ الفجرِ، قَالَ أشهبُ: في كتابِ مُحَمَّدٍ: عليه الدَّمُ، وخالفَ ابن القاسمِ.
          فرعٌ: وقتُ الوقوفِ بالمَشعَرِ بعدَ صلاةِ صبحِ النَّحْرِ إلى الإسفارِ، وعن مالكٍ: لا يقفون إلى الإسفارِ ويدفعون قبلَه، وقالَ مُحَمَّدٌ: لا يجوزُ أن تُؤَخِّرَ حَتَّى تطلعَ، وأَخَّرَ ابنُ الزُّبَيرِ الوقوفَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تطلع، فقالَ ابنُ عُمَرَ: إنِّي لأراه إنْ يريدَ أن يصنعَ كما صنعَ أهلُ الجاهليَّةِ، فدفعَ ابنُ عُمَرَ ودفعَ النَّاسُ بدفعِه، وفَعَلَهُ ◙ لمخالفةِ المشركينَ لأنَّهم كانوا لا يُفيضون حَتَّى تطلعَ الشَّمْسُ، وقيلَ: الدَّفْعُ بعدَ الإسفارِ الأوَّلِ، وقيلَ: الإسفار الثَّاني، حكاهما ابنُ التِّيْنِ.
          فائدةٌ: قولُه: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الفَجْرِ) مقتضاه أنَّ التَّقَدُّمَ كَانَ قبلَ الصُّبحِ، وخَصَّهم بذلكَ للضَّعْفِ عن زحمةِ النَّاسِ، ومقتضاه الوقوف قبلَ الفجرِ لا أنَّ الوقوفَ يسقطُ جملةً، واختلفَت المالكيَّةُ: هل عليهم دمٌ؟ فقالَ القاضي في «معونتِه»: الظَّاهِرُ ألَّا دمَ.
          أخرى: الحَطْمَةُ في حديثِ عائشةَ: الزَّحمَةُ، وحَطْمَةُ السَّيلِ: دفاع معظمه.
          وقولُها: (مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ) أي: مِنْ شيءٍ أفرحُ به، و(هَنْتَاهُ) أي: يا هذه، وقد سلفَ الكلامُ عليه في بابِ قولِه تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] [خ¦1560].