التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: العقيق واد مبارك

          ░16▒ بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ)
          1534- 1535- ذَكَرَ فيهِ حديثَ عُمَرَ قَالَ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم بِوَادِي العَقِيقِ يَقُولُ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي / هذا الوَادِي المُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ).
          وحديثَ ابنِه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم: (أنَّهُ أُرِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسِهِ بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي، قِيلَ لَهُ: إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالمُنَاخِ الَّذي كَانَ عَبْدُ الله يُنِيخُ بِه، يَتَحَرَّى مَعَرَّسَ رَسُولِ الله صلعم وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ الَّذي بِبَطْنِ الوَادِي، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطًا مِنْ ذَلِكَ).
          الشَّرحُ: الحديثُ الأوَّلُ مِنْ أفرادِه، والثَّاني أخرجَه مسلمٌ وقالَ: ((أُتِي)) بدل (أُرِيَ)، وقالَ: ((القِبْلَةِ)) بدل (الطَّرِيقِ).
          وقولُه: (بَابُ قولِهِ ◙: العَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ) لم يذكرْ حديثًا أنَّهُ قَالَ، وإنَّما قيلَ له ذَلِكَ في المنامِ، نعم تَلَفَّظَ به، والعَقِيقُ _بفتحِ أوَّلِه وزنُ فَعِيلٍ_ عقيقان، كما قَالَ البكريُّ: عَقِيقُ بني عَقِيلٍ عَلَى مقربةٍ مِنْ عَقِيقِ المدينةِ الَّذي بقربِ النَّقِيعِ عَلَى ليلتينِ مِنَ المدينةِ.
          وقالَ الخليلُ: العقيقانَ في ديارِ بني عامرٍ مِمَّا يلي اليمنَ، وهما عَقِيقُ تبرة وعَقِيقُ البَيَّاضِ، والرَّملُ بينهما رملُ الدَّمِيلِ ورملُ بُدْنٍ، وسُمِّيَ عَقِيقُ المدينةِ لأنَّهُ عَقَّ في الحرَّةِ، وهما عقيقانَ، وبها الأكبرُ والأصغرُ، فالأصغرُ فيهِ بئرُ رُومَةَ، والأكبرُ فيه بئرُ عُرْوَةَ، وسببُ تسميتِه ما في «تاريخِ أبي الفَرَجِ الأمويِّ»: لمَّا سَارَ تُبَّعٌ مِنَ المدينةِ إلى اليمنِ انحدرَ في مكَانِ العَقِيقِ فقالَ: هذا عَقِيقُ الأرضِ فسُمِّي العَقِيقُ.
          وقالَ ياقوت: العَقِيقُ عشرةُ مواضعَ، وعَقِيقَا المدينةِ أشهرُها، وأكثرُ ما ذُكِرَ في الأشعارِ فإيَّاهما _واللهُ أعلمُ_ يَعْنُون، والخليلُ وصاحبُ «الموعبِ» قَالَ: الَّذي قَالَتْ فيهِ الشُّعراءُ: بئرُ عُرْوَةَ السَّالفِ، وقالَ الحسنُ بنُ مُحَمَّدٍ المهلَّبيُّ: بينَ العَقِيقِ والمدينةِ أربعةُ أميالٍ.
          وقالَ صاحبُ «التَّهذيبِ» أبو منصورٍ: العربُ تقولُ لكلِّ مسيلِ ماءٍ شَقَّهُ ماءُ السَّيْلِ في الأرضِ فأنهَرَهُ ووَسَّعَهُ: عَقِيقٌ، وفي بلادِ العربِ أربعةُ أَعِقَّةٍ وهي أوديةٌ شَقَّتْها السُّيولُ عادية، فمنها عَقِيقُ عارضِ اليمامةِ وهو وادٍ واسعٌ ممَّا يلي العرمةَ تتدفَّقُ فيه شِعَابُ العارضِ، وفيه عيونٌ عذبةُ الماءِ، ومنها عَقِيقٌ بناحيةِ المدينةِ، وفيه عيونٌ ونخيلٌ، ومنها عَقِيقٌ آخرُ يدفُقُ ماؤُه في غَورَيْ تِهَامَةَ، وهو الَّذي ذَكَرَه الشَّافعيُّ قالَ: ولو أهلُّوا مِنَ العَقِيقِ كَانَ أحبَّ إليَّ، ومنها عَقِيقُ القِيَانِ تجري إليه مياهُ قُلَلِ نجدٍ وجباله، وقالَ الأصمعيُّ: الأعقَّةُ الأوديةُ، ثُمَّ ذَكَرَ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه ◙ وَقَّتَ لأهلِ العراقِ بطنَ العَقِيقِ قَالَ الأزهَريُّ: أرادَ الَّذي بحذاءِ ذاتِ عِرْقٍ.
          أمَّا فقهُه ففيه مَطلُوبِيَّةُ الصَّلاةِ عندَ إرادةِ الإحرامِ لا سيَّما في هذا الوادي المباركِ، وهو مذهبُ العلماءِ كَافَّةً إلَّا ما حُكِيَ عن الحَسَنِ البصريِّ فإنَّه استَحَبَّ كونَها بعدَ فرضٍ لأنَّه رُوِيَ أنَّ هذه الصَّلاةَ كانَتْ صلاةَ الصُّبْحِ.
          قَالَ الطَّبَريُّ: ومعنى الحديث الإعلامُ بفضلِ المكانِ لا إيجابُ الصَّلاةِ فيه لقيامِ الإجماعِ عَلَى أنَّ الصَّلاةَ في هذا الوادي ليسَ بفرضٍ قَالَ: فبانَ بذَلِكَ أنَّ أَمْرَه بالصَّلاةِ فيه نظيرُ حَثِّه لأُمَّتهِ عَلَى الصَّلاةِ في مسجدِه ومسجدِ قباء.
          وقولُه: (عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ) يحتملُ أن يُقَالَ كما أبداه الخَطَّابيُّ: (في) بمعنى ((مَعَ)) فيكونُ القِرَانُ أفضلُ، وهو مذهبُ الكوفيِّين، ويحتملُ أن يريدَ عُمْرَةً مُدرَجَةً في حَجَّةٍ أي: عملُ العُمْرَةِ مُضَمَّنٌ في عملِ الحجِّ يجزئُ لهما طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ، ويحتملُ أن يريدَ أن يُحرِمَ بها إذا فرغَ مِنْ حَجَّتِه قبلَ منزلِه، فكأنَّه قَالَ: إذا خَرَجْتَ وحَجَجْتَ فقلْ: لَبَّيكَ بعُمْرَةٍ وتكونُ في حَجَّتِكَ الَّتي تحجُّ فيها، ويُؤَيِّدُه روايةُ البُخاريِّ في كتابِ الاعتصامِ: ((وَقُلْ عُمْرةً وَحَجَّةً)) ففصلَ بينهما بالواوِ [خ¦7343]، ويحتملُ أن يُرَادَ به: قُلْ عُمْرَةً في حَجَّةٍ أي: قل ذَلِكَ لأصحابِه، أي أَعلِمْهُم أنَّ القِرانَ جائزٌ وأنَّه مِنْ سُنَنِ الحجِّ، وهو نظيرُ قولِه ◙: ((دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحجِّ إلى يَومِ القَيَامَةِ)).
          وبهذه الرُّؤيا حكمَ ◙ بنَسْخِ ما كَانَ في الجاهليَّةِ مِنْ تحريمِ العُمْرَةِ ممَّن لم يكنْ معه هَدْيٌ أن يفسخوه في عُمْرَةٍ، فعَظُمَ ذَلِكَ عليهم لبقائِه هو عَلَى حَجِّهِ مِنْ أجلِ سَوْقِه الهَدْيَ، وما كَانَ استشعرَه مِنَ التَّلبيدِ لرأسِه.
          وفيهِ أنَّ السُّنَنَ والفرائضَ قد يُخبَرُ عنها بخبرٍ واحدٍ فيما اتَّفقا فيه، وإن كَانَ حكمُهما مختلفًا في غيرِه، فلمَّا كَانَ الإحرامُ بالحجِّ والعُمْرَةِ واحدًا أخبرَ اللهُ عنها في هذِه الرُّؤيا بذلكِ فقالَ: (عُمْرَةً وحَجَّةً) أي: إحرامُكَ يدخلُ فيه العُمْرَة والحجُّ متتاليًا ومُفتَرِقًا.
          وفيه فضلُ المدينةِ وما قاربَها لكونِه ◙ بها، فإنَّ اللهَ تَعَالَى جعلَها له مثوًى في الدُّنيا والبرزخِ، ولا شكَّ في فضلِها ولا ريبَ، لكنَّه قَالَ في مَكَّةَ: ((واللهِ إنَّكِ لأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، وَلَولَا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)).