التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر}

          ░2▒ باب قول الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحجّ:27]
          {فِجَاجًا} [الأنبياء:31]: الطُّرُقُ الوَاسِعَةُ.
          1514- 1515- ذكر فيه عن ابن عُمَرَ: قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً).
          وعن عطاءٍ عن جابرٍ بن عبد الله: (أَنَّ إِهْلَالَ رَسُولِ اللهِ صلعم مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ)، ورَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عبَّاسٍ.
          الشَّرح: معنى {يَأْتُوكَ رِجَالًا} أي: رَجَّالَةً كما قاله ابن عبَّاسٍ، وقرأه عكرمة مُشَدَّدًا، وقرأ مجاهدٌ: {رُجَالًا} مخفَّفًا، ويجوز رَجْلَةٌ ورَجْلٌ ورُجَّالًا، فهذه ستَّة أوجهٍ في جمع رَاجِلٍ، إلَّا أنَّ ما رُوِيَ عن مجاهدٍ غير معروفٍ، قال ابن عبَّاسٍ فيما ذكره ابن المُنذِرِ في الآية: هم المشاة والرُّكبان على كلِّ ضامرٍ مِنَ الإبل. وروى محمَّد بن كعبٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: ما فاتني مِنْ شيءٍ أشدَّ عَلَيَّ إلَّا أن أكون حَجَجْتُ ماشيًا لأنَّ الله تعالى يقول: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي: رُكبانًا، فبدأ بالرِّجال قبل الرُّكبان.
          وذكر إسماعيل بن إسحاق عن مجاهدٍ قال: أُهبط آدم بالهند فحجَّ على قدميه البيتَ أربعين حَجَّةً. وعن ابن أبي نَجِيحٍ عن مجاهدٍ أنَّ إبراهيم وإسماعيل ♀ حَجَّا ماشيين، وحجَّ الحسن بن عليٍّ خمسةً وعشرين حَجَّةً ماشيًا وإنَّ الجَنَائِبَ لتُقاد بين يديه. وفَعَلَهُ ابن جُرِيجٍ والثَّوريُّ، وحجَّ رسول الله صلعم راكبًا، وكذلك ذكر حديث ابن عُمَرَ وجابرٍ في هذا الباب، وذلك كلُّه مباحٌ لكن الأظهر عندنا أنَّ الرُّكوب أفضل وفاقًا لمالكٍ للاتِّباع ولفضل النَّفقة؛ فإنَّ النَّفقة فيه كالنَّفقة في سبيل الله سبعمائة ضعفٍ، كما أخرجه أحمد مِنْ حديث بُرَيدَةَ.
          وقال المَرُّوذيُّ: قُرِئَ على أبي عبد الله حدَّثنا وكيعٌ، حدَّثنا فُضَيلٌ _يعني ابن عياضٍ_ عن ليثٍ عن طاوسٍ قال: حجُّ الأبرار على الرِّحال.
          وصحَّح جماعةٌ أنَّ المشي أفضل وبه قال إسحاق لأنَّه أشقُّ على النَّفس ولذلك بدأ به في الآية. وفي حديثٍ صحَّحه الحاكم مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((مَنْ حَجَّ إلى مَكَّةَ مَاشِيًا حتَّى يَرْجِعَ كُتِبَ له بكلِّ خطوةٍ سَبْعُمائةِ حَسَنةٍ مِنْ حَسَناتِ الحَرَمِ، فَقِيلَ: وَمَا حَسَناتُ الحَرَمِ؟ قَالَ: كلُّ حَسَنةٍ بمائةِ أَلْفِ حَسَنةٍ)). ولأبي موسى المدينيِّ بإسناده: ((الحاجُّ الرَّاكِبُ له بكلِّ خُفٍّ يَضَعُهُ بعيرُه حَسَنَةً، والمَاشِي له بِكلِّ خُطْوةٍ يَخْطُوهَا سَبْعُونَ حَسَنةً مِنْ حَسَناتِ الحَرَمِ)) وفيه القُدَامِيُّ.
          وفي «مستدرك الحاكم» مِنْ حديث أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: ((حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلعم وأصحابُه مُشَاةً مِنَ المدينةِ إلى مَكَّةَ فَقَالَ: اربِطُوا عَلَى أَوْسَاطِكُمْ مَآزِركُمْ وامْشُوا مَشيًا خِلْطَ الهَرْوَلَةِ)) ثمَّ قال: صحيح الإسناد، قُلْتُ: يُنظر هذا أو يبتدأ وأصحابه.
          قال ابن القَصَّارِ: في قوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} دليلٌ قاطعٌ لمالكٍ أنَّ الرَّاحلة ليست مِنْ شرط السَّبيل، والمخالفون يزعمون أنَّ الحجَّ لا يجب على الرَّجَّالة وهذا خلاف الآية. ولا نُسَلِّمُ له ما ذكره وأين القطع.
          وقول البخاريِّ: ({فِجَاجًا}: الطُّرُقُ الوَاسِعَةُ) اعترض عليه الإسماعيليُّ فقال: الفَجُّ: الطَّرِيقُ في الجبل بين الجبلين، فإذا لم يكن كذلك لم يُسَمَّ الطَّريق فَجًّا وليس بجَيِّدٍ منه فقد قال ابن سِيدَه: الفَجُّ: الطَّريق الواسع في جبلٍ أو قبل جبلٍ وهو أوسع مِنَ الشِّعْبِ، وقال ثعلبٌ: هو ما انخفض مِنَ الطُّرق، وجمعه فِجَاجٌ، وأَفِجَّةٌ نادرةٌ.
          وقال صاحب «المنتهى»: فِجَاجُ الأرض نواحيها، وقال القزَّاز وابن فارسٍ والفارسيُّ في «مجمعه»: الفَجُّ الطَّرِيقُ الواسع، وفي «التَّهذيب»: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي: واسعٍ غامضٍ وكذا / ذكره أبو عُبَيدٍ، وقال الطَّبَرِيُّ: يأتين مِنْ كلِّ طريقٍ ومكانٍ ومسلكٍ بعيدٍ، وقال: ابن عبَّاسٍ وقَتَادَةُ: مِنْ كلِّ مكانٍ بعيدٍ، والعميق في اللُّغة: البعيد، بئرٌ عميقٌ أي: بعيدة القعر.
          وقال الزَّجَّاجُ: {يَأْتِينَ} على معنى الإبل، المعنى وعلى كلِّ بعيرٍ {ضَامِرٍ} يعني: الجماعة.
          قال الفرَّاء: وقُرِئَ «يأتون» فذهب إلى الرُّكبان وعُزيت إلى ابن مسعودٍ، وذكر بعضهم أنَّه يُقال: ناقةٌ ضَامِرٌ، فيجيء {يَأْتِينَ} مستقيمًا عليه، وقيل: الضَّامر: ما اتَّصف بذلك مِنْ جَمَلٍ وناقةٍ وغير ذلك وهو الأظهر، لكنَّه يتضمَّن معنى الجماعات أو الرِّفاق فيحسن لذلك قولُه: {يَأْتِينَ}، وذُكِرَ أنَّ العميق البعيد في المسافة وذُكِرَ عن الفرَّاء، وأمَّا في الحفير في الأرض وشبهه فهو بغينٍ معجمةٍ.
          وقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فقال ابن عبَّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ: التِّجارة، زاد مجاهدٌ وعطاءٌ: ما يُرضي الله مِنْ أمر الدُّنيا والآخرة، وقال أبو جعفرٍ: المغفرة، واختاره إسماعيل بن إسحاق.
          وسيأتي الاختلافُ في بدء إهلال رسول الله صلعم بعدُ في موضعه إن شاء الله $.
          وأحمد بن عيسى شيخ البخاريِّ في حديث ابن عمر هو: التُّستَريُّ، وأخرجه البخاريُّ عن شيخه هذا عن ابن وهبٍ عن يونس عن ابن شهابٍ عن سالمٍ عن أخيه، والَّذي في «مسند ابن وهبٍ»: عبد الله، رواية يونس بن عبد الأعلى عنه أخبرنا يونس عن ابن شهابٍ عن سالمٍ عن أبيه قال: ((سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يُهِلُّ مُلَبِّدًا)).
          وعطاءٌ في حديث جابرٍ هو ابن أبي رباحٍ وإن كان أيضًا ابن يسارٍ روى عن جابرٍ، لكنَّ الأوزاعيَّ لم يروِ إلَّا عن ابن أبي رباحٍ، والحديث مِنْ رواية الأوزاعيِّ عنه.
          واعترض الإسماعيليُّ فقال: ليس في الحديثين شيءٌ ممَّا ترجم الباب به، قُلْتُ: قد أسلفنا مناسبته، ولاشكَّ أنَّ ذا الحُلَيفَةِ فجٌّ عميقٌ، وركوبه تفسيرٌ للضَّامر في الآية، وحديث أنسٍ يأتي مسندًا في باب: مَنْ بات بذي الحُلَيفَةِ، وحديث ابن عبَّاسٍ أسنده في باب: ما يلبس المحرم.