التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب استلام الركن بالمحجن

          ░58▒ بَابُ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ بِالمِحْجَنِ
          1607- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ وَيَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَا: حدَّثَنَا ابنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ اللهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلعم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَستَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنِ ابنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ.
          هذا الحديثُ رواه مسلمٌ عن أبي الطَّاهِرِ وحَرْمَلَةَ عَنِ ابنِ وَهْبٍ به، وخالفَ ابنَ وَهْبٍ اللَّيثُ وأسامةُ وزَمعَةُ فرووه عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بلغني عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، والمتابعةُ أخرجَها الإسماعيليُّ عَنِ الحسنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبَّادٍ المَكِّيُّ حَدَّثَنَا عبدُ العزيزِ بنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابنِ أخي الزُّهْرِيِّ عن عمِّه عن عُبَيْدِ اللهِ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم طَافَ بالبَيْتِ يَسْتَلِمُ الرُّكْن بِمِحْجَنٍ مَعَهُ))، وأخرجَه مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي الطُّفَيلِ وجابرٍ وعائشةَ، وأبو داودَ مِنْ حديثِ صَفِيَّةَ بنتِ شَيبَةَ، وأخرجَه الحاكمُ مِنْ حديثِ قُدَامَةَ بنِ عبدِ اللهِ، وقالَ: صحيحٌ عَلَى شرطِ البخاريِّ.
          أمَّا حكمُ البابِ فإذا عجزَ عن تقبيلِ الحَجَرِ استلمَه بيدِه أو بِعَصًا كما ذُكِرَ في الحديثِ، ثُمَّ قَبَّلَ ما استلمَ به كما في صحيحِ مسلمٍ مِنْ حديثِ أبي الطُّفَيلِ السَّالِفِ.
          قَالَ القاضي عياضٌ: وانفردَ مالكٌ عَنِ الجمهورِ فقالَ: لا يُقَبِّلُ يَدَهُ، وأصحُّ الأوجهِ عندنا أنَّ التَّقبِيلَ بعدَ الاستلامِ، وثانيها: قَبْلَهُ، وكأنَّه ينقلُ القُبْلَةَ إليه، وثالثُها: يتخيَّرُ، فإن عجزَ عَنِ الاستلامِ أشارَ بيدِه لما سيأتي مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ، وكذا بما في يدِه، ولا يشيرُ إلى القُبلَةِ بالفمِّ لأنَّه لم يُنْقَلْ، ويراعي ذَلِكَ في كلِّ طوفةٍ، فإن لم يفعلْ فلا شيءَ عليه.
          والمِحْجَن: عصًا محنيَّةُ الرَّأسِ أي: معوجَّةٌ، وكلُّ معطوفٍ معوجٌّ كذلك، وهو شبهُ الصَّولجان.
          وقوله: (يَسْتَلِمُ) يعني: يصيبُ السَّلَمَ، والسِّلامُ الحجرُ، وإنَّما يستلمُ يستفعلُ منه.
          قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: واستلامُه بالمحجنِ يحتملُ أن يكونَ لشكوى به، وقد أخرجَه أبو داودَ، وفي مسلمٍ مِنْ حديثِ عائشةَ مُعَلِّلًا كراهته أن يصرف عنه النَّاس فيؤذيهم بالمزاحمة، ويحتمل أيضًا غير ذلك ممَّا ستعلمه، قُلْتُ: والظَّاهر أنَّه للعجزِ عَنِ التَّقبيل.
          قَالَ المُهَلَّبُ: واستلامُه به يدلُّ عَلَى أنَّ استلامَ الرُّكْنَ ليسَ بفرضٍ وإنَّما هو سنَّةٌ، ألا ترى قول عُمَرَ: ((لَولَا أنَّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم قَبَّلَك ما قَبَّلْتُكَ))، وأمَّا طوافُه راكبًا لبيانِ الجوازِ وللاستفتاءِ، وقد ترجمَ البُخَارِيُّ كما سيأتي قريبًا الطَّوافُ راكبًا، وذكرَ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ وزينبَ بنتِ أمِّ سَلَمَةَ [خ¦1632] [خ¦1633]، ولأبي داودَ: أنَّه قَدِمَ مكَّة وهو مُشْتَكٍ فطافَ عَلَى راحلتِه، وفي إسنادِه يزيدُ بنُ أبي زيادٍ، وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ: الوجه في طوافِه راكبًا أنَّه كَانَ في طواف الإفاضة، وعَنْ طاوسٍ: ((أنَّه ◙ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُهَجِّرُوا بالإفاضةِ، وَأَفاضَ في نِسَائِهِ ليلًا فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ)).
          قالَ أصحابُنا: والأفضلُ أن يطوفَ ماشيًا ولا يركب إلَّا لعُذرٍ بمرضٍ أو نحوه، أو كَانَ ممَّن يُحتاج إلى ظهوره ليُستَفتَى ويُقتَدَى، فإن كَانَ لعذرٍ جاز بلا كراهةٍ، لكنَّه خلافُ الأولى، وقالَ إمامُ الحرمينِ: في النَّفْسِ مِنْ إدخالِ البهيمةِ الَّتي لا يُؤمَنُ تلويثها المسجدَ شيءٌ، فإن أمكن الاستيثاق فذاك، وإلَّا فإدخالها المسجد مكروهٌ.
          وجزمَ جماعةٌ مِنْ أصحابِنا بكراهةِ الطَّوافِ راكبًا مِنْ غير عذرٍ، ومنهم الماوَرْدِيُّ والبَنْدَنِيجِيُّ وأبو الطيِّبِ والعَبْدَرِيُّ، والمشهورُ الأوَّلُ، والمرأةُ والرَّجُلُ في ذَلِكَ سواءٌ، والمحمولُ عَلَى الأكتافِ كالرَّاكِبِ، وبه قَالَ أحمدُ وداودُ وابنُ المُنْذِرِ، وطوافُه زحفًا عندنا مكروهٌ، وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ واللَّيثُ: إن طافَ راكبًا لعذرٍ أجزأه ولا شيء عليه، وإن كَانَ لغير عذرٍ فعليه دمٌ، وإن كَانَ بمكَّةَ أعادَ الطَّواف، واعتذروا عن ركوب النَّبِيِّ صلعم بما سَلَفَ.
          وفي مسلمٍ مِنْ حديثِ جابرٍ: ((طَافَ النَّبِيُّ صلعم بالبيتِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ لأنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وليشرِفَ وَليسألُوه، فإنَّ النَّاسَ غَشُوهُ)).
          وفيه مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَّى خَرَجَ العَوَاتِقُ مِنَ الخُدُورِ وكَانَ ◙ لا يُعرَفُ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ)).
          وفيه مِنْ حديثِ عائشةَ: ((طافَ النَّبِيُّ صلعم حَجَّةَ الوَدَاعِ حَوْلَ الكَعْبَةِ عَلَى بَعِيرِهِ، لِيَسْتَلِمَ النَّاس كَرَاهِيَةَ أَنْ يُصْرَفَ عَنْهُ النَّاسُ)).
          فرعٌ: ينبغي للرَّاكبِ أن يُبعَدَ بحيثُ لا يؤذي، فإن أمِنَ قَرُبَ كما فعلَ صلعم.
          فائدةٌ: في الحديثِ ردٌّ عَلَى مَنْ كره تسمية حجَّةِ رَسُولِ اللهِ صلعم حجَّةَ الوداعِ، والمنكِر غالطٌ، واستدلَّ به مَنْ يرى بطهارةِ بولِ وروث ما يُؤكل لحمه خلافًا للشَّافعيِّ وأبي حَنيفةَ.
          قَالَ المُهَلَّبُ: وفيه أنَّه لا يجب أن يطوفَ أحدٌ في وقتِ صلاةِ الجماعةِ إلَّا مِنْ وراء النَّاسِ، ولا يطوف بين المصلِّين وبين البيت فيشغل الإمام والنَّاس ويؤذيهم كما في حديثِ أمِّ سَلَمَةَ، وأنَّ تركَ أذى المسلمِ أفضلُ مِنْ صلاةِ الجماعةِ، كما قَالَ: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ هذِه الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنا)). /