التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أمر النبي بالسكينة عند الإفاضة وإشارته إليهم بالسوط

          ░94▒ بابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلعم بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِفَاضَةِ، وَإِشَارَتِهِ إِلَيهِمْ بِالسَّوْطِ
          1671- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنِ عبَّاسٍ: أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صلعم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمَعِ النَّبِيُّ صلعم وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا لِلإبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: (أُيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ).
          هذا الحديثُ مِنْ أفرادِه.
          قَالَ الدَّاوُديُّ: السَّكينةُ في المشي هي السُّرعةُ ليس بالإبطاءِ ولا بالاشتدادِ ولا بالخَبَبِ، واحتجَّ بالحديثِ السَّالفِ: ((فإذا وَجَدَ فَجْوةً نَصَّ)) والنَّصُّ فوق العَنَقِ، كما سلف [خ¦1666].
          وقولُه: (فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ) أوضَعُوا إبلَهم: أسرعوا بها، والإيضاعُ: العَدْوُ السَّريعُ، يُقَالُ: وضع البعيرَ وأوضَعَهُ رَكِبَهُ، ذكره الهَرَويُّ، وقال ابنُ فارسٍ: هو سيرٌ سهلٌ سريعٌ، يُقَالُ: إنَّها لحسنةُ الوَضْعِ.
          قَالَ الخَطَّابيُّ: الإيضاعُ: سيرٌ حثيثٌ، زادَ الهَرَويُّ: ويُقَال: هو سيرٌ مثل الخَبَب.
          وإنَّما نهاهم عَنِ الإيضاعِ والجري إبقاءً عليهم، ولئلَّا يُجحِفُوا بأنفسِهم بالتَّسابقِ مِنْ أجلِ بُعْدِ المسافةِ لأنَّها كانت تبهرهم فيَفْشَلُوا وتذهب ريحُهم، وقد نُهِينا عَنِ البلوغِ إلى مثل هذِه الحال، فكان في معنى قولِه قبله: (عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ) إلَّا في بطنِ وادي مُحسِّرٍ، فقد كَانَ ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ وابنُ الزُّبَيرِ يوضِعون في وادي مُحسِّرٍ، وتبعهم عَلَى ذَلِكَ كثيرٌ مِنَ العلماءِ.
          وقال النَّخَعيُّ: لمَّا رأى عُمَرُ سرعةَ النَّاسِ في الإفاضةِ مِنْ عرفةَ وبجمْعٍ قَالَ: والله إنِّي لأعلم أنَّ البرَّ ليس برفعها أذرعها، ولكنَّ البرَّ شيءٌ تصبرُ عليه القلوبُ، وقال عِكْرِمَةُ: سألَ رجلٌ ابنَ عبَّاسٍ عَنِ الإيجاف فقالَ: إنَّ حَلْ حَلْ تشغلُ عن ذكرِ اللهِ وتوطئ وتؤذي.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: وحديثُ أسامةَ يدلُّ عَلَى أنَّ أمره بالسَّكينة إنَّما كَانَ في الوقتِ الَّذي لم يجد فجوةً، وأنَّه حين وجدها سار سيرًا فوق ذَلِكَ، وإنَّما أراد بها في وقت الزِّحام، وقد أسلفنا ذَلِكَ فيما مضى.
          وقال عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ في خُطبته في يوم عرفة: إنَّكم شَخَصتُم مِنَ القريب والبعيد وتكلَّفتم مِنَ المؤنة ما شاء الله، وليس السَّابق مَنْ سبق بعيرُه وفرسُه، ولكنَّ السَّابق مَنْ غُفِرَ له.