التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكانَ البيت}

          ░123▒ باب: {وَإِذْ بَوأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيتِ} إلى قوله: {فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج 26-30]
          معنى الآية: أنَّ الله تعالى أعلم نبيَّه بعظيم ما رَكِب قومُه قريشٌ خاصَّةً دونَ غيرِهم مِنْ سائر خلقه بعبادتهم في حرمه والبيت الَّذِي أمر خليله ◙ ببنيانه وتطهيره مِنَ الآفات والشِّرك إلهًا غيرَهُ، والتَّقدير: واذكر إذ بوَّأنا لإبراهيم هذا البيت الَّذِي يعبد قومُك فيه غيري.
          روى مَعْمَرٌ عن قَتَادَة قال: وضع الله تعالى البيت مَعَ آدم حِينَ أُهبط إلى الأرض وكَانَ مَهْبِطُه بأرض الهند، ففقد أصواتَ الملائكة وتسبيحَهم فشكا ذلك إلى الله، فقال له: يا آدم قد أهبطتُ لك بيتًا يُطاف به كما يُطاف حول عرشي، ويُصَلَّى عنده كما يُصَلَّى حول عرشي، فانطلق إليه، فخرج ومدَّ له في خَطْوه، فكَانَ بين كلِّ خطوتين مَفازةٌ، فلم تزل تلك المفازة على ذلك، وأتى آدمُ البيت فطاف به ومَنْ بعدَه مِنَ الأنبياء، ثمَّ بوَّأ اللهُ مكَانَه لإبراهيم بعد الغرق.
          ومعنى {بَوَّأْنَا}: وطَّأنا أو عرَّفناه بعلامة سحابةٍ، تطوَّفتْ حيال الكعبة، فبنى على ظلِّها، أو ريحٍ هبَّت فسكنت حول البيت يُقال لها: الحَجُوج. {وَطَهِّرْ بَيتِيَ} مِنَ الشِّرك وعبادة الأوثان، أو مِنَ الأنجاس كالفَرْث والدَّم الَّذِي كَانَ يُطرح حول البيت، أو قول الزُّور، {لِلطَّائِفِينَ} بالبيت، {وَالقَائِمِينَ} إلى الصَّلَاة، أوالمقيمين بمَكَّةَ، والرُّكَّعِ والسُّجُودِ في الصَّلَاة.
          {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} أعلمْهم ونادِ فيهم، خُوطِبَ به محمَّدٌ صلعم ليأمر به النَّاسَ أو إبراهيمُ، فقام إبراهيم على أبي قُبَيْسٍ فقال: عبادَ الله، إنَّ الله قد بنى بيتًا وأمر بحجِّه فحجُّوه، فأجابوه مِنْ أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء: لبَّيك داعيَ ربِّنا، فلا يحجُّه إلَّا مَنْ أجاب، قيل: أَوَّل مَنْ أجابه أهلُ اليمن فهم أكثر النَّاس حجًّا.
          {رِجَالًا} جمعُ راجلٍ، {ضَامِرٍ} رجلٍ مهزولٍ، وقد سلف في أَوَّل الحجِّ إيضاح ذلك، {عَمِيقٍ} بعيد. وقال ابن عَبَّاسٍ: عنى الله بالنَّاس هنا أهلَ القِبلة، ألم تسمعه قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}الآية [آل عمران:96]، {وَمَنْ دَخَلَهُ} [آل عمران:97] مِنَ النَّاس الَّذِين أُمِر أن يؤذِّن فيهم وكتب عليهم، {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ} شهودُ المواقف وقضاء المناسك أو المغفرة أو التِّجارة دنيا وأُخرى.
          {مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] عشرُ ذي الحجَّة آخرُها يوم النَّحْرِ أو أيَّام التَّشريق، أو يوم التَّروية ويوم عَرَفَة ويوم النَّحْرِ، وقال عليٌ: يوم النَّحْرِ ويومان بعدَهُ وأفضلُها أوَّلُها وهو قول ابن عمر وأهل المدينة، وما قدَّمناه أوَّلًا هو قول ابن عَبَّاسٍ والكُوفِيِّينَ، وأجمعوا أنَّ المَعْدُودَات أيَّام التَّشريق الثَّلاثة، وقد سلف ذلك في العيد.
          {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} أي على نحرِ ما رزقهم مِنَ الضَّحايا والهدايا، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} اختَلف العلماءُ فيهما أهما واجبان أو مستحبَّان، أو يجب الإطعام دون الأكل؟
          {البَائسَ الفَقِيرَ} الَّذِي جمع الفقر والزَّمانة، أو الفقرَ وضُرَّ الجوع، أو الفقر والطلب، أو الَّذِي ظهر عليه أثر البؤس، أو الَّذِي تأنَفُ عن مجالسته، وهو في اللُّغة الَّذِي به البؤس، وهو شدَّة الفقر.
          {تَفَثَهُمْ} مناسكُ الحجِّ، أو الحلق، أو إزالة قشف الإحرام بالتَّقليم والطِّيب وأخْذِ الشَّعر وتقليم الأظفار والغسل.
          وعبارة ابن عَبَّاسٍ: التَّفث: الحلق والتَّقصير والذَّبح والأخذ مِنَ الشَّارب / واللِّحية ونتفُ الإبط وقصُّ الأظفار. وقال ابن عمر: هو ما عليهم في الحجِّ، وقال مرَّة: المناسك كلُّها، وقد أسلفناه.
          {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي نذر الحجِّ والهدي، وما نذروه مِنْ شيء يكون في الحجِّ قاله مُجَاهِد.
          {وَلِيَطَّوفُوا} طواف الإفاضة، وهو الرُّكن، {العَتِيقِ} سلف [خ¦25/103-2652]، فأعتقه الله مِنَ الجَبَابِرَة أنْ يصِلُوا إلى تخريبه، أو عَتَقَ فلم يملكه أحدٌ مِنَ الناس، أو مِنَ الغرق، أو مِنَ الطُّوفان، أو قديم.
          {أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} بناه آدم، وأعاده بعدَ الطُّوفان إبراهيم وإسماعيل.
          {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ} فعلُ المناسك أو منهيَّات الإحرام.