التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل الحرم

          ░43▒ بابُ فَضْلِ الحَرَمِ وَقَوْلِهِ تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} الآية [النَّمل:91]، وَقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} الآية [القصص:57]
          1587- ثُمَّ ذَكَرَ فيهِ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا).
          أمَّا الآيةُ الأولى فقالَ الزَّجَّاجُ: قُرِئَ (الَّتي) وهي قليلةٌ و{الَّذِي} في موضعِ نصْبٍ مِنْ صفةِ {رَبَّ هَذِهِ}، و(الَّتي) في موضعِ خفضٍ مِنْ نعْتِ البلدةِ.
          وقالَ ابنُ التِّيْنِ: وقعَ في روايةِ أبي الحسنِ: (الَّتي) وقالَ: {الَّذِي} قرأنا في السَّبعَةِ، ورُوِيَ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ قرأها كذلك، وذلك غيرُ بعيدٍ جَعْلُه نعتًا للبلدةِ.
          وأمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فكانوا آمنين قبل الإسلامِ، فلو أسلموا لكان أوكدَ، قَالَ قَتَادَةُ: كان أهلُ الحرمِ آمنين يخرجُ أحدُهم فإذا عُرِضَ له قَالَ: أنا مِنْ أهلِ الحرمِ فيُترَكُ، وغيرهم يُقتَلُ ويُسلَبُ.
          وقال الفَرَّاءُ: قَالَ بعض قريشٍ: يا مُحَمَّدُ ما منعَنا أنْ نؤمن بك ونصدِّقَك إلَّا أنَّ العرب عَلَى ديننا، فنخاف أن نُصطَلَم إذا آمنَّا بك، فأنزلَ اللهُ هذِه الآية يعني: ألم نسكنهم حرمًا آمنًا لا يخاف مَنْ دخله أن يُقَامَ عليه حدٌّ ولا قِصَاصٌ، فكيف يخافون أن تستحلَّ العرب قتالهم فيه؟!
          وقولُه: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] ذُكِّرَتْ {يُجْبَى} وإن كانت الثَّمرات مؤنَّثةً، لأنَّك فرَّقت بينهما بالنِّيَّة كما قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الَّذِي غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدةٌ                     بَعْدِي وَبَعْدَكِ في الدُّنيا لَمَغْرُورُ
          قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: تُجْبَى إليه ثمراتُ الأرضين.
          وقد قيل: إنَّ البلدةَ اسمٌ خاصٌّ بمكَّة، ولها أسماءٌ كثيرةٌ، ذَكَرْتُها في «لغاتِ المنهاجِ» نحو الأربعين، فلتراجعْ منه.
          وفيه التَّصريح بتحريم الله ╡ مكَّة والحرم، وتخصيصِها بذلك مِنْ بين البلاد، وقد اعترضَ قومٌ مِنْ أهل البدعِ وقالوا: قد قُتِلَ خلقٌ بالحرمِ والبيتِ مِنَ الأفاضل كعبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ ومَنْ جرى مَجراه، ولا تعلُّقَ لهم بذلك لأنَّه خرج مَخرج الخبر، والمراد به الأمرُ بأمان مَنْ دخل البيت وألَّا يُقتَلَ، ولم يُرِدِ الإخبارَ بأنَّ كلَّ داخلٍ إليه آمِنٌ، وعلى مثل هذا خُرِّجَ قولُه ◙: ((مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الكَعْبةَ أو دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ))، فإنَّما قصد الأمرَ بأمانِ مَنْ ألقى سلاحه ودخل في ذلك، ولم يُرِدْ بذلك الخبرَ، ومثل قولِه تعالى: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] يعني بذلك الأمرَ لهنَّ بالتَّربُّص دون الخبر عن تربُّص كلِّ مطلَّقةٍ لأنَّها قد تعصي الله ولا تتربَّصُ، فلذلك قَالَ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:7] أي أمِّنُوا مَنْ دخله، فهو داخلٌ عَلَى صفة مَنْ يجب أنْ يؤمَّنَ، فمَنْ لم يفعل ذَلِكَ عصى وخالَف، ومتى جعلنا هذا القولَ أمرًا بطلَ تمويهُهم.
          قَالَ القاضي أبو بكرِ بنُ الطَّيِّبِ: وقد يجوز أن يكون أراد تعالى كَانَ آمنًا يوم الفتحَ وقت قوله: ((مَنْ أَلْقَى / سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ...)) إلى آخرِه، فلا يُناقض عدمُ الأمن في غير ذَلِكَ الوقت وجودَه فيه، فيكون الأمن في بعض الأوقات دون جميعها، وسيأتي في باب لا يحلُّ القتالُ بمكَّةَ زيادةٌ في هذا المعنى [خ¦1834].
          وأمَّا حديثُ البابِ فذكره في اللُّقَطة معلَّقًا فقالَ: وقالَ طاوسٌ: عَنِ ابنِ عبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم: ((لا يَلْتَقط لُقَطَتَها إلَّا مَنْ عرَّفها))، وقد أسنده هنا كما تراه وسيأتي حكمه إن شاء الله، وفي الحجِّ أيضًا [خ¦45/7-3801].