التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة

          ░80▒ بابُ مَا جَاءَ في السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ
          وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إلى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنٍ.
          ثُمَّ ساقَ خمسةَ أحاديث:
          1644- أحدُها: حديثُ ابنِ عُمَرَ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ خَبَّ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا...) الحديثَ.
          وسلفَ في بابِ مَنْ طافَ إذا قَدِمَ مكَّةَ [خ¦1616] [خ¦1617]، وهنا أتمُّ مِنْ ذاكَ، وشيخ البُخاريِّ فيه مُحَمَّدُ بنُ عُبَيدِ بنِ ميمونٍ، وقال الجَيَّانيُّ في نسخة خلفٍ: ابن حاتمٍ بدل: ابنِ ميمونٍ، وخَبَّ: هَرْوَلَ، وكذا السَّعي.
          1645- 1646- ثانيها: حديثُ ابنِ عُمَرَ أيضًا، وقد سلف في باب صلاة النَّبِيِّ صلعم لسُبُوعه ركعتين [خ¦1623].
          1647- ثالثُها: حديثُه أيضًا: قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم مَكَّةَ... إلى آخرِه، وسلف في بابِ مَنْ صلَّى ركعتي الطَّواف خلف المقام [خ¦1627].
          1648- رابعُها: حديثُ عاصمٍ: قُلْتُ لأَنَسِ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَنْزَلَ الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآية [البقرة:158].
          وهو في مسلمٍ أيضًا، ويأتي في التَّفسير [خ¦4496]، وشيخُ البُخاريِّ فيه أحمدُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثَنَا عبدُ اللهِ، قَالَ الحاكمُ: هو أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ موسى مَرْدَوَيه، وقال الدَّارَقُطْنيُّ: هو أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ ثابتٍ شَبُّويَه.
          1649- خامسُها: حديثُ سفيانَ عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ، أنَّ ابنَ عبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللهِ صلعم بِالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِيُرِيَ المُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ.
          وهو في مسلمٍ أيضًا، ثُمَّ قَالَ: زادَ الحُمَيدِيُّ حدَّثَنَا سفيانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعْتُ عطاءً عَنِ ابنِ عبَّاسٍ مثله، وظاهر هذا أنَّه لم يروِه عن شيخه الحُمَيدِيِّ، لكنْ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ لمَّا رواه عن أبي عليٍّ محمَّدِ بنِ أحمدَ: حدَّثَنَا بِشْرُ بنُ موسى حدَّثَنَا الحُمَيدِيُّ حدَّثَنَا سفيانُ، فذكره ثُمَّ قَالَ: رواه _يعني البُخاريَّ_ عَنِ الحُمَيدِيِّ وعليِّ بنِ عبدِ اللهِ جميعًا عن سفيانَ.
          إذا عرفت ذَلِكَ فمعنى هذا الباب كالَّذي قبله.
          وفيه بيانُ صفةِ السَّعي، وأنَّه شيءٌ معمولٌ به غير مرخَّصٍ فيه، ألا ترى أنَّ ابنَ عُمَرَ حين ذكره قَالَ: وقد كَانَ لكم في رَسُولِ اللهِ أسوةٌ حسنةٌ.
          والأثرُ المصدَّر به البابُ أخرجَه ابنُ أبي شَيبَةَ عن أبي خالدٍ الأحمرِ عن عثمانَ بنِ الأسودِ عن مجاهدٍ وعطاءٍ قَالَ: رأيتهما يسعيان مِنْ خَوْخَة بني عبَّادٍ إلى زُقَاقِ ابن أبي حُسينٍ، فقُلْتُ لمجاهدٍ فقالَ: هذا بطنُ المسيل الأوَّل ولكنَّ النَّاس انتقصوا منه.
          وفي نسخةٍ عزوُ ذَلِكَ إلى ابنِ عُمَرَ، وذكر ابنُ عبَّاسٍ في الباب سببَ مشروعيَّة السَّعي في الطَّواف بالبيت وبين الصَّفا والمروة (لِيُرِيَ المُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ) لأنَّهم قالوا: إنَّ حُمَّى يثربَ أنهكتهم، فَكَان ◙ رمل في طَوَافِه بالبيتِ مقابل المسجد ومقابل السُّوق موضعَ جلوسهم، فإذا توارى عنهم مشى كما سلف، فالسُّنَّة التزام الخَبَب في الأشواط الثَّلاثة الأُوَلِ في الطَّواف تبرُّكًا بفعله وسُنَّتِه، وإن كانت العلَّة قد / ارتفعت فذلك مِنْ تعظيم شعائر الله، وسيأتي في «الصَّحيح» في كتاب الأنبياء علَّةٌ أخرى للسَّعي والهرولة بين الصَّفا والمروة في قصَّة هاجرَ مع ولدها إسماعيلَ ترقُّبُ الماءَ حَتَّى كملت سبعًا [خ¦3365]، قَالَ ◙: (فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا)، فبيَّنَ فيه أنَّ سبب ذَلِكَ فعلُ هاجرَ ♀ [خ¦3364].
          وقد روى مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي الطُّفَيلِ: أنَّه ◙ إنَّما ركب فيه لَمَّا كثر عليه النَّاس، وقد اختلف النَّاسُ في ذلك فكرهت عائشةُ الرُّكوب فيه وكذا عُرْوَةُ، وهو قول أحمدَ وإسحاقَ، وقال أبو ثَورٍ: لا يجزئه وعليه أن يُعيد، وقال الكوفيُّون: إن كَانَ بمكَّة أعاد ولا دم عليه، وإن رجع إلى الكوفة فعليه دمٌ، ورخَّصت طائفةٌ فيه، ورُوِيَ عن أنسٍ أنَّه طاف عَلَى حمارٍ، وعن عطاءٍ ومجاهدٍ مثله، وقال الشَّافعيُّ: يجزئه ولا إعادة عليه إن فعل.
          وحُجَّة مَنْ أجاز ذَلِكَ فِعلُه ◙، وحُجَّة مَنْ كرهه أنَّه ينبغي امتثال فعلِ هاجرَ في ذَلِكَ، وركوبُه ◙ لمعنًى كما سلف.
          وأمَّا قول أنسٍ: إنَّهم كانوا يكرهون الطَّواف بهما لأنَّهما مِنْ شعائر الجاهليَّة حَتَّى نزلت الآية، فقد كَانَ ما سواهما مِنَ الوقوف بعَرفةَ والمزدلفةِ والطَّوافِ مِنْ شعائر الحجِّ في الجاهليَّة، فلمَّا جاء الإسلام وذكر الله ذَلِكَ في كتابه صار مِنْ شعائر الحجِّ في الإسلام.
          فإن قُلْتَ: فما تقولُ في قولهِ آخر الآية: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة:158] إلى آخرِه؟ قُلْتُ: يلزمُكَ التَّطوُّعُ به مفردًا ولا قائل به إجماعًا، وهذا راجعٌ إلى أوَّل الآية لا إلى هذا، أي: مَنْ تطوَّع بحجٍّ أو غيره فإنَّ الله شاكرٌ عليمٌ.
          ثمَّ اعلم أنَّ واجبات السَّعي عندنا أربعةٌ:
          أحدُها: قطع جميع المسافة بين الصَّفا والمروة، فلو بقي منها بعضُ خطوةٍ لم يصحَّ سعيه، ولو كَانَ راكبًا اشترط أن يسيِّرَ دابَّته حَتَّى تضعَ حافرها عَلَى الجبل، وإن صَعِد عَلَى الصَّفا والمروة فهو أكمل، وكذا فعلَه سيِّدنا رَسُول اللهِ صلعم والصَّحابُة بعده، وليس هذا الصُّعود شرطًا ولا واجبًا، بل هو سُنَّةٌ متأكِّدةٌ، وبعض الدَّرج مستحدثٌ، فالحذر مِنْ أن يُخلِّفَها وراءه، فلا يصحُّ سعيه حينئذٍ، وينبغي أن يصعد عَلَى الدَّرج حَتَّى يستيقنَ، ولنا وجهٌ شاذٌّ: أنَّه يجب الصُّعود عَلَى الصَّفا والمروة قدْرًا يسيرًا، ولا يصحُّ سعيه إلَّا بذلك ليستيقنَ قطع جميع المسافة، كما يلزمه غسل جزءٍ مِنَ الرأس في غسل الوجه ليستيقن.
          ثانيها: التَّرتيب: فلو بدأ بالمروةِ لم يجْزِه لأنَّه ◙ قَالَ: ((ابدؤوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ))، قَالَ في «المحيط» مِنْ كتب الحنفيَّةِ: لو بدأ بالمروةِ وختم بالصَّفا أعاد شوطًا ولا يجزئه ذَلِكَ، والبداءة بالصَّفا شرطٌ، ولا أصل لما ذكره الكِرْمَانِيُّ مِنْ أنَّ التَّرتِيبَ في السَّعي ليس بشرطٍ، حَتَّى لو أتى بالمروة وأتى الصَّفا جاز، وهو مكروهٌ لترك السُّنَّة، فيُستَحَبُّ إعادة الشَّوط.
          الثَّالثُ: يحسبُ مِنَ الصَّفَا إلى المروةِ مرَّةً، ومِنَ المروةِ إلى الصَّفَا مرَّةً، حَتَّى يُتِمَّ سبعًا، هذا هو الصَّحِيحُ، وفيه وجهٌ سلفَ.
          الرَّابعُ: يشترطُ أن يكونَ السَّعي بعد طوافٍ صحيحٍ، سواءٌ أكَانَ بعدَ طواف قدومٍ أو إفاضةٍ، ولا يُتصوَّر وقوعُه بعد طواف الوداع، فلو سعى وطاف أعاده، وعند غيرنا يعيدُه إن كَانَ بمكَّة، وإن رجع إلى أهله بعث بدمٍ.
          وشذَّ إمامُ الحرمين فقال: قَالَ بعضُ أئمَّتنا: لو قَدَّمَ السَّعي عَلَى الطَّواف اعتُدَّ بالسَّعي، وهذا غلطٌ، ونقلَ المَاوَرْدِيُّ وغيرُه الإجماعَ في اشتراطِ ذَلِكَ، وقال عطاءٌ: يجوزُ السَّعي مِنْ غيرِ تقدُّمِ طوافٍ وهو غريبٌ.
          فرعٌ: الموالاة بين مرَّات السَّعي سنَّةٌ، فلو تخلَّل يسيرٌ أو طويلٌ بينهنَّ لم يضرَّ، وكذا بينه وبين الطَّواف، وفيه قولٌ.
          فرعٌ: يستحبُّ السَّعي عَلَى طهارةٍ مِنَ الحدث والنَّجس ساترًا عورته.
          فرعٌ: المرأةُ تمشي ولا تسعى لأنَّه أسترُ لها، وقيل: إن سَعَتْ في الخلوة باللَّيل سَعَتْ كالرَّجل.
          فرعٌ: موضع المشي والعَدْوِ معروفٌ، والعَدْوُ يكون قبل وصوله إلى الميل الأخضر، وهو العمود المبني في ركن المسجد بقدر ستَّة أذرعٍ إلى أن يتوسَّط بين العمودين المعروفين، وما عدا ذَلِكَ فهو محلُّ المشي، فلو هرول في الكلِّ لا شيء عليه، وكذا لو مشى عَلَى هِيْنَتِهِ، وعن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابنَ عُمَرَ يمشي بين الصَّفا والمروة ثُمَّ قَالَ: ((إنْ مَشَيْتُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَمْشِي، وإنْ سَعَيْتُ فَقَد رَأَيْتُهُ يَسْعَى وأنا شيخٌ كَبِيرٌ)) أخرجَه أبو داودَ، وفي روايةٍ: كَانَ يقول لأصحابِه ارمُلوا، فلو استَطَعْتُ الرَّمَلَ لرَمَلْتُ، وعنه قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يمشي، أخرجها سعيدُ بنُ منصورٍ.
          فرعٌ: يخرج مِنْ باب الصَّفا للسَّعي للاتِّباع، ولم يحدَّ مالكٌ له بابًا، ومعناه: أنَّه ليس مِنَ المناسك الخروجُ مِنْ باب الصَّفا غير أنَّ مَنْ خرجَ إليه مِنْ غير بابه تكلَّفَ زيادةً.
          فرعٌ: قَالَ ابنُ التِّيْنِ: يُكرَهُ للرَّجلِ أن يقعد عَلَى الصَّفا إلَّا لعذرٍ.
          فرعٌ: ضَعَّفَ ابنُ القاسمِ في روايتِه عن مالكٍ رفع يديه عَلَى الصَّفا والمروة، وقالَ ابنُ حَبِيبٍ: يرفع، وإذا قلنا: يرفع، فقالَ ابنُ حَبيبٍ: يرفعها حذو مَنكِبيه وبطونُها إلى الأرض، ثُمَّ يكبِّر ويهلِّل ويدعو، وقال غيره مِنَ المتأخِّرين: الدُّعاء والتَّضرُّع إنَّما يكون وبطونهما إلى السَّماء، وما ذكره ابنُ حبيبٍ إنَّما يكون عند الذِّكر والتَّعظيم، ولعلَّهُ هو الَّذي ضعَّفه مالكٌ.
          فرعٌ: لو ترك السَّعي ببطن المسيل ففي وجوب الدَّم قولان عن مالكٍ.