التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من أين يدخل مكة؟

          ░40▒ بابُ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
          1575- ذَكَرَ فيهِ حديثَ ابنِ عُمَرَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدْخُلُ مِنَ الثَّنيَّةِ العُلْيَا، ويَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى).
          ░41▒ بابُ مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ
          1576- 1577- 1578- 1579- 1580- 1581- ذَكَرَ فيهِ حديثَ ابنِ عُمَرَ أيضًا: (أَنَّ رَسُولُ الله صلعم دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مَنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيَا الَّتي بِالبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى).
          وحديثَ عائشةَ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم لَمَّا جَاءَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلاَهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسفَلِهَا).
          وفي روايةٍ عنها: (دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ كُدًى، وَخَرَجَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ).
          وفي روايةٍ عنها: (دَخَل مكَّة عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ).
          قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْ كِلْتَيْهِمَا مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًى، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كُدًى، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إلى مَنْزِلِهِ.
          وَعَنْ عُرْوَةَ: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلعم عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ ما يَدْخُلُ مِنْ كُدًى وَكَان أَقْرَبَهُمَا إلى مَنْزِلِهِ).
          وعنه: (دَخَلَ النَّبِيُّ صلعم عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَداءٍ وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كلاهما، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كُدًى أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِه).
          وفي بعض النُّسخ: <كَدَاءٌ وكُدًى: مَوضِعَان> قاله أبو عبدِ اللهِ، وفي بعض النُّسخ الثَّناء عَلَى مُسَدَّدٍ شيخه: <وكان يُقَالُ له: مُسَدَّدٌ كاسمه، سَمِعْتُ يحيى بنَ مَعِينٍ يقولُ: سَمِعْتُ يحيى بنَ سعيدٍ يقول: لو أنَّ مُسَدَّدًا أَتَيْتُه في بيته فحَدَّثْتُه لاستحقَّ ذَلِكَ، / وما أُبالي كُتُبِي كانت عندي أو عند مُسَدَّدٍ>.
          وحاصل ما ذكره البُخاريُّ: أنَّ أكثر روايته في كَدَاءٍ: في الابتداءِ الفتحُ والمدُّ، وفي الخروج الضَّمُّ والقصرُ، مسندًا ومرسلًا، وأنَّ في روايةٍ بالعكس: الضَّمُّ في الدُّخول، والفتحُ _أي مع المدِّ_ في الخروجِ، ولهذا قَالَ عبدُ الحقِّ في «جمعه»: إنَّه مقلوبٌ، وكُدًى _بالضَّمِّ_ إنَّما هي السُّفلى، ولفظ مسلمٍ في حديث ابنِ عُمَرَ: ((كَانَ إذا دَخَلَ مكَّةَ دَخَلَ مِنَ الثَّنيَّة العُلْيَا، ويخرجُ مِنَ الثَّنيَّة السُّفْلَى))، وفي أخرى: ((العُلْيَا الَّتي بالبَطْحِاءِ)).
          وفي حديثِ عائشةَ: ((لَمَّا جاءَ إلى مكَّةَ دَخَلَها مِنْ أَعْلَاها، وَخَرجَ مِنْ أَسْفلِها)) وفي أخرى: ((دَخَلَ مكَّةَ عَامَ الفَتْحِ مِنْ كَداءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ)) قَالَ هشامٌ: فكان أبي يدخل منهما كلتيهما، وكان أبي أكثر ما يدخل مِنْ كَداءٍ.
          والمرادُ بالثَّنيَّةِ العليا: الَّتي ينزل منها إلى المُعَلَّى مَقبرةِ مكَّةَ، قَالَ أبو عُبَيدٍ: لا يُصرَفُ لأنَّه مؤنَّثٌ، قيل: هو جبلٌ بمكَّةَ، وقيل: هو عرفةَ بعينها، قُلْتُ: هذا بعيدٌ، والسُّفلى: هي الَّتي أسفل مكَّةَ عند باب شَبِيكَةِ بقرب شِعَبِ الشَّاميِّين وشِعَبِ ابنِ الزُّبَيرِ عند قُعَيقعان، وقال ابنُ الموَّازِ: كداءٌ العُلْيا هي العقبةُ الصُّغرى بأعلى مكَّةَ الَّتي يُهبَطُ منها إلى الأبطحِ، والمقبرةُ منها عَلَى يسارك، وكُدًى الَّتي خرج منها: هي العقبةُ الوسطى الَّتي بأسفل مكَّةَ.
          وفي حديثِ الهيثمِ بنِ خَارِجَةَ أنَّ العُليا بالضَّمِّ والقصرِ، وتابعه عَلَى ذَلِكَ وُهَيبٌ وأبو أسامةَ، وقال عُبَيدُ بنُ إسماعيلَ: ((دَخَل مِنْ كَدَاءٍ)) _بالمدِّ والفتح_ في المغازي، و((دَخَلَ من كُدًى)) بالضَّمِّ والقصر، وقال ابنُ قُرْقُولٍ: وكذا عند عامَّتهم في حديث عُبَيدٍ بالفتحِ وهو الصَّواب، إلَّا أنَّ الأَصيليَّ ذكره عن أبي زيدٍ بالعكس: ((دَخَل مِنْ كُدًى، وَخَالدُ بنُ الوَليدِ مِنْ كَدَاءٍ)) وهو مقلوبٌ، وفي حديثِ ابنِ عُمَرَ: ((دَخلَ مِن كَدَاءٍ)) ممدودٌ مصروفٌ، وكذا في حديثِ عائشةَ، وعند الأصيليِّ: هو الموضعُ مُهملٌ في هذا الموضع، وعند أبي ذرٍّ: القصرُ في الأوَّلِ مع الضَّمِّ، وفي الثَّاني: الفتحُ مع المدِّ.
          وعن عُرْوَةَ مِنْ حديثِ عبدِ الوَهَّابِ: (أَكْثَرُ مَا يَدْخلُ مِنْ كُدًى) مضمومٌ مقصورٌ للأَصيليِّ والحمويِّ وأبي الهيثمِ، ومفتوحٌ مقصورٌ للقابسيِّ والمُسْتَمْلِي، وعند محمودٍ: (دَخلَ مِن كُدًى، وخَرَجَ مِنْ كَدَاءٍ) كذا
          لكافَّتهم، وللمُسْتَمْلِي عكس ذَلِكَ وهو أشهَرُ، وعند مسلمٍ: ((دخلَ يومَ الفتحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أعلاها)) بالمدِّ للرُّواة إلَّا السَّمرْقَنْدِيَّ، فعنده: كُدًى بالضمِّ والقصرِ، وفيه قَالَ هشامٌ: أكثر ما كَانَ أبي يدخلُ مِنْ كُدًى
          بالضَّمِّ كذا رُوِّيناه، ورواه غيري بالمدِّ والفتحِ.
          وقال القُرْطُبيُّ: اختُلِفَ في ضبط هاتين الكلمتين، والأكثر منهم عَلَى أنَّ العُلْيا بالفتحِ والمدِّ، والسُّفْلَى بالضَّمِّ والقصرِ، وقيل: بالعكسِ.
          وقال ابنُ التِّيْنِ: العليا بفتح الكاف، وضُبِطَتْ في بعض الأمَّهاتِ بالمدِّ مِنْ غير صرفٍ، والسُّفلى بالضمِّ، وقال الخَطَّابيُّ: الرُّواة قلَّما يقيمون هذين الاسمين، وإنَّما هو كَدَاءٌ وكُدًى وذكر ابنُ ولَّادٍ أنَّ كَدَاء _ممدودٌ_ جبلٌ أو موضعٌ، وكُدًى _بالضَّمِّ والقصرِ_ جمعٌ، قَالَ: وهو الموضع الغليظ الصُّلب، ورواية: ((دَخَلَ مِنْ كَدَاءٍ وَخَرجَ مِنْ كُدًى مِنْ أَعلَى مَكَّة)) فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وإنَّما أراد أنَّه دخل مِنْ أعلاها مِنْ كَدَاءٍ، وخرج مِنْ أسفلها مِنْ كُدًى، وما رُوِيَ عن عُرْوَةَ أنَّه كَانَ يدخلُ مِنْ كلتيهما فإنَّما أراد أن يُعرِّف أنَّ ذَلِكَ ليس بفرضٍ، وإنَّما هو سُنَّةُ، واقتصر ابنُ بَطَّالٍ مِنْ هذا الاختلاف عَلَى قوله: إذا فَتَحْتَ الكافَ مَدَدْتَ، وإذا ضَمَمْتَها قَصَرْتَ، وقد قيل: كُدًى _بالضَّمِّ_ هو أعلى مكَّة، وقيل: بل بالفتح وهو أصحُّ.
          وقال ابنُ حَزْمٍ: الممدود عند المحصَّب، وبضمِّ الكافِ وتنوين الدَّالِ عند ذي طُوًى وهي الثَّنيَّةُ السُّفْلَى، قَالَ الحازميُّ وغيره: تقول الثَّنيَّة السُّفْلَى هي كُدَيٌّ مصغَّرٌ.
          وقوله: (كِلاَهُمَا) كذا في الأصل، وفي نسخةٍ: <كِلَيْهِمَا> وقولُه قبله: (وَكَانَ عُرْوَةُ: يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا) هو الصَّوَابُ، وقالَ ابنُ التِّيْنِ في «الأمَّهَاتِ»: كلتاهما والصَّوابُ كلتيهما، والحكمةُ في الدُّخُولِ مِنَ العُليا والخروجِ مِنَ السُّفلَى أنَّ نداءَ أبينا إبراهيمَ كَانَ مِنْ جهةِ العلوِّ، وأيضًا فالعلوُّ مناسبٌ للمكانِ العالي الَّذي قصدَه، والسُّفلُ مناسبٌ لمكانِه الَّذي يذهبُ إليه لأنَّه سفلٌ بالنِّسبَةِ إليه، وقيلَ: إنَّ مَنْ جاءَ هذه الجهةِ كَانَ مستقبِلًا البيت، وقيلَ: لأنَّه ◙ لَمَّا خرجَ مُخْتَفِيًا أرادَ أن يدخلَها ظاهرًا عاليًا.
          وقالَ المُهَلَّبُ: إنَّما فعله ليَعلَمَ النَّاسَ السَّعة في ذَلِكَ، وأنَّ ما يمكن لهم منه فمجزئٌ عنهم، ألا ترى أنَّ عُرْوَةَ كَانَ يفعل ذلك، وقال غيرُه: ليَتبرَّكَ به الطَّريقان، أو ليغيظ المنافقين بظهور الدِّين وعزِّ الإسلام، أو تفاؤلًا بتغيُّر الحال، أو ليشهد له الطَّريقان كما في العيدِ.
          قُلْتُ: وروى الطَّبَرانيُّ في «الأوسط» عَنِ العبَّاسِ: ((أنَّهُ ◙ لَمَّا بُعِثَ قَالَ العبَّاسُ لِأَبي سُفْيانَ بنِ حَرْبٍ: أَسْلِم بِنَا فقالَ: لا واللهِ حَتَّى أَرَى الخَيْلَ تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءٍ، قَالَ العبَّاسُ: قُلْتُ لهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: شيءٌ طلعَ بِقلبي لِعِلْمِي أنَّ الله لا يُطلِعُ الخيل هُنَاكَ أبدًا، قَالَ: فلمَّا طلعَ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ هناك ذَكَّرْتُ أبا سفيانَ بِهِ فَذَكَرهُ))، وروى البَيْهَقيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عُمَرَ: أنَّه ◙ قَالَ لأبي بكرٍ: ((كيف قَالَ حَسَّانُ بنُ ثابتٍ؟ فأنشد:
عَدِمْتُ بُنَيَّتي إِنْ لَمْ تَرَوهَا                     تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَدَاءِ
          فتبسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلعم / وقال: ادْخُلُوها مِنْ حَيثُ قَالَ حَسَّان))، ومِنْ حديث عُرْوَةَ نحوه، وأجاب كعبُ بنُ مالكٍ أبا سفيانَ بقوله:
فَلَا تَعْجَلْ أَبَا سُفْيانَ وارقُبْ                     جِيادَ الخَيْلِ تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءِ