التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين

          ░59▒ بابُ مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إلَّا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَينِ
          1608- وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ بَكْرٍ: أَخبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ البَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كلَّها، فَقَالَ لَهُ ابنُ عبَّاسٍ: إِنَّهُ لا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابنُ الزُّبَيرِ يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ.
          1609- ثمَّ ذَكَرَ حديثَ سالمٍ عن أبيهِ قَالَ: (لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلعم يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إلَّا الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ).
          الشَّرح: هذا التَّعليقُ أسنده الإمام أحمدُ مِنْ وجهٍ آخر فقال: حَدَّثَنَا عبدُ الرَّزَّاقِ حدَّثَنَا مَعْمَرٌ والثَّورِيُّ ح وحَدَّثَنَا رَوْحٌ حدَّثَنَا الثَّورِيُّ عَنِ ابنِ خُثَيْمٍ عن أبي الطُّفَيلِ قَالَ: كُنْتُ مع ابنِ عبَّاسٍ ومعاويةَ، فكان معاويةُ لا يمرُّ بركنٍ إلَّا استَلَمَه، فقال له عبدُ اللهِ... الحديثَ، وحَدَّثَنَا رَوحٌ حدَّثَنَا سعيدٌ وعبدُ الوَهَّابِ عن شُعْبَةَ عن قَتَادَةَ عن أبي الطُّفيلِ، وحَدَّثَنَا مروانُ بنُ شُجَاعٍ حَدَّثَنِي خُصَيفٌ عن مجاهدٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ فذكره، وأخرجَه مسلمٌ مِنْ حديث عَمْرِو بنِ الحارثِ عن قَتَادَةَ دون قصَّة معاويةَ بلفظ: ((لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلعم يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ)).
          وفي «سؤالات عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ»: حَدَّثَنَا أبي حَدَّثَنَا يحيى بنُ سعيدٍ عن شُعْبَةَ حَدَّثَنِي قَتَادَةَ عن أبي الطُّفيلِ قَالَ: حَجَّ معاويةُ وابنُ عبَّاسٍ، فجَعَلَ ابنُ عبَّاسٍ يستلمُ الأركانَ كلَّها، فقالَ معاويةُ: إنَّما استَلَمَ رَسُولُ اللهِ صلعم هذين الرُّكْنَيْنِ الأيمنين، فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: ليس مِنْ أركانه شيءٌ مهجورٌ وقال حنبلٌ: سَمِعْتُ أبا عبدِ اللهِ يقولُ: شُعْبَةُ قَلَبَ حديثَ معاويةَ وابنِ عبَّاسٍ، قلبَ الفِعْلَ والكلامَ، قَالَ: وقالَ شُعْبَةُ: النَّاسُ يخالفوني في هذا الحديثِ، ولكنِّي سَمِعْتُه مِنْ قَتَادَةَ هكذا.
          وأمَّا أثرُ ابنِ الزُّبَيرِ فأخرجَه ابنُ أبي شَيبَةَ عن عبدِ الأعلى عَنِ ابنِ إسحاقَ عن يحيى بنِ عَبَّادٍ عن أبيه: أنَّه رأى ابنَ الزُّبَيرِ استلمَ الأركانَ كلَّها، وقالَ: إنَّه ليس شيءٌ منه مهجورٌ، ورواه الشَّافعيُّ في «مسنده»: أخبرنا سعيدٌ أخبرنا مُوسَى الرَّبَذِيُّ عن مُحَمَّدِ بنِ كعبٍ: أنَّ ابنَ عبَّاسٍ كَانَ يمسحُ عَلَى الرُّكنين اليماني والحَجَرِ، وكان ابنُ الزُّبَيرِ يمسحُ الأركانَ كلَّها ويقولُ: لا ينبغي لبيتِ اللهِ أن يكونَ شيءٌ منه مهجورًا، وكانَ ابنُ عبَّاسٍ يقول: لقد كَانَ لكم في رَسُولِ اللهِ صلعم أسوةٌ حسنةٌ.
          وأمَّا حديثُ ابنِ عُمَرَ فأخرجَه مسلمٌ أيضًا، ولابنِ أبي شَيبَةَ مِنْ حديث ابنِ أبي ليلى عن عطاءٍ عن يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ ورآه عُمَرُ يستلمُ الأركانَ كلَّها، يا يَعْلَى ما تفعَلُ؟ قَالَ: أستَلِمُها كلَّها لأنَّهُ ليسَ شيءٌ مِنَ البيتِ يُهجَرُ، فقال عُمَرُ: أَمَا رَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلعم يستلمُ منها إلَّا الحَجَرَ، قَالَ يَعْلَى: بلى، قَالَ: فما لكَ فيَّ أسوةٌ، قَالَ: بلى، ثُمَّ روى عن مجاهدٍ قَالَ: الرُّكنَانَ اللَّذَانِ يليانِ الحَجَرَ لا يُستَلَمَانِ.
          وعن عطاءٍ قَالَ: أَدرَكْتُ مشيختنا ابنَ عبَّاسٍ وجابرًا وأبا هريرةَ وعُبَيدَ بنَ عُمَيرٍ لا يستلمون غيرهما مِنَ الأركانِ يعني: الأسودَ واليماني، وممَّن كَانَ يستلمُ الأركانَ كلَّها بإسنادٍ جيِّد: سُوَيدُ بنُ غَفَلَةَ وجابرُ بنُ زيدٍ وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيرِ، زاد ابنُ المُنْذِرِ: وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ والحسنُ والحسينُ وأنسٌ، قَالَ: وقالَ أكثر أهل العلم: لا يُسنَّ استلامهما، يعني الرُّكنين الشَّاميَّين.
          وقال الشَّافعيُّ: إذا استلمَ الحَجَرَ واليماني استُحِبَّ له أن يُقَبِّلَه بعد استلامهما، وقد سلف ما فيه.
          وفي البَيْهَقيِّ مضعَّفًا مِنْ حديثِ جابرٍ: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم استلمَ الحَجَرَ وقَبَّلَه، واستلمَ الرُّكْنَ اليَمَانيَ وقَبَّلَ يَدَه))، ومِنْ حديث ابنِ عبَّاسٍ: ((كَانَ ◙ إذا استلمَ الرُّكْنَ اليَمَانيَ قبَّلَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ عليهِ))، وقال: لا يثبت مثله، تفرَّد به عبدُ اللهِ بنُ مسلمِ بنِ هُرْمُزَ وهو ضعيفٌ.
          وقال الشَّافعيُّ في «مسنده»: أخبرنا سعيدٌ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ: قلتُ لعطاءٍ: هل رأيت أحدًا مِنَ الصَّحابة إذا استلموا قبَّلُوا أيديهم؟ فقال: نعم رَأَيْتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ وابنَ عُمَرَ وأبا سعيدٍ وأبا هريرةَ إذا استلمُوا قبَّلُوا أيديهم، قُلْتُ: وابنُ عبَّاسٍ؟ قَالَ: نعم، قُلْتُ: هل تَدَعُ أنت إذا استلمت لأن تُقبِّلَ يدكَ؟ قَالَ: فلِمَ أستلمه إذًا؟!
          وأجابَ الشَّافعيُّ عن قول معاويةَ فقال: لم يدَعْ أحدٌ استلامهما هجرًا للبيت، ولكنَّا نستلم ما استلمه رَسُولُ اللهِ صلعم ونمسكُ عمَّا أمسكَ عنه، وجمهور الصَّحابة عَلَى أنَّهما لا يُستلمان ولا يُقبَّلان، وأمَّا اليماني الَّذي لا حَجَرَ فيه، فيُستلَمُ ولا يُقبَّلُ.
          وروى الدَّارَقُطْنيُّ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((أنَّه ◙ كَانَ يُقبِّلُ اليَمَانيَ ويَضَعُ خَدَّهُ عَلَيهِ))، ورواه الحاكمُ أيضًا في «مستدركِه» بلفظ: ((أنَّه قبَّلهُ وَوَضعَ خدَّهُ عليهِ)) ثُمَّ قَالَ: هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، ورواه البُخَارِيُّ في «تاريخِه» بلفظ: ((أنَّهُ كَانَ إذَا استلمَ الرُّكْنَ اليَمَانيَ قبَّلهُ))، وأمَّا البَيْهَقيُّ فضَعَّفَه كما سلفَ، ثُمَّ قَالَ: والأخبارُ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ في تقبيلِ الحجرِ الأسودِ والسُّجُودِ عليه إلَّا أن يكونَ أرادَ بالرُّكْنِ اليماني الحجرَ الأسودَ، فإنَّه أيضًا يُسمَّى بذلك فيكون موافقًا لغيره.
          وفي «البدائع» مِنْ كتب الحنفيَّةِ: لا خلاف أنَّ تقبيل الرُّكن اليماني ليس بسُنَّةٍ، وقال في «الأصل»: إن استلمه فحسنٌ وإن تركه لا يضرُّه، هذا عند أبي حنيفةَ، وقال مُحَمَّدٌ: يستلمه ولا يتركه، وفي «المحيط»: يستلمه ولا يقبِّلُه، وعن مُحَمَّدٍ: يستلمه ويقبِّلُه، وعنه: يُقبِّل يدَه ولا يستلم الرُّكنين الباقيين عند أئمَّة الحنفيَّة لأنَّ الأوَّلَين عَلَى القواعد.
          وقال الخِرَقيُّ: الصَّحيح عن أحمدَ أنَّه لا يُقبِّل الرُّكن اليماني، قَالَ ابنُ قُدَامَةَ: وهو قول أكثر أهل العلم، وزعم ابنُ المنيِّرِ: أنَّ اختصاصَ الرُّكن مرجَّحٌ بالسُّنَّة، ومستند التَّعميم الرَّأي والقياس، وهو قول معاويةَ السَّالف، وهذا يُقالُ بموجبه وليس ترك الاستلام هجرانًا، وكيف يهجرها وهو يطوف؟ فالحُجَّة مع ابنِ عُمَرَ وغيرِه.
          وفي كتاب الجنديِّ / مِنْ حديث النَّخَعِيِّ عن عائشةَ مرفوعًا: ((مَا مَرَرتُ بالرُّكْن اليَمَاني قطُّ إلَّا وَجَدتُ جِبْريلَ قائمًا عِنْدَه))، ومِنْ حديث الحَكَمِ بنِ أَبَانَ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ مثُله بزيادة: ((فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ادنُ فاسْتَلِم))، وفي حديثِ أبي هريرةَ: ((وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ ألفَ مَلَكٍ)).
          وفي حديث ابنِ عُمَرَ مرفوعًا: ((مسْحُهُما كفَّارةٌ للخَطَايا)) رواه الحاكمُ، وقال: صحيحُ الإسنادِ عَلَى ما بيَّنتُه مِنْ حال عطاءِ بنِ السَّائِبِ، وكذا قَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّما لم يَستلم إلَّا اليمانيين لأنَّهما مبنيَّان عَلَى مُنتهى البيت ممَّا يليهما بخلاف الآخرين لأنَّ الحِجْرَ وراءهما وهو مِنَ البيتِ، وقام الإجماع عَلَى الأوَّلين، ومنهم الأربعةُ وإسحاقُ، وقد نزع ابنُ عُمَرَ بذلك، حيث قَالَتْ له عائشةُ كما سلف في باب فضلِ مكَّةَ [خ¦1583].
          وقد رُوِيَ عن أنسٍ وجابرٍ ومعاويةَ وابنِ الزُّبَيرِ وعُرْوَةَ أنَّهم كانوا يستلمون الأركان كلَّها كما سلف، والحجَّةُ عند الاختلاف في السُّنَّة، وكذلك قَالَ ابنُ عبَّاسٍ لمعاويةَ حين قَالَ له معاويةُ: ليس شيءٌ مِنَ البيت مهجورًا قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: لقد كَانَ لكم في رَسُولِ اللهِ أسوةٌ حسنةٌ.
          وقال ابنُ التِّيْنِ: إنَّما كَانَ ابنُ الزُّبَيرِ يستلمهنَّ كلَّهنَّ لأنَّه استوفى القواعدَ، والَّذي في «الموطَّأ» أنَّه عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيرِ، وقال الدَّاوُديُّ: جعلهما عِوضًا مِنَ الرُّكنين الَّلذين بقيا في الحِجْرِ، قَالَ: وظنَّ معاويةُ أنَّهما هما رُكنا البيتِ الَّذي وضعَ عليه من أوَّل.