التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كيف كانَ بدء الرمل

          ░55▒ بَابُ كَيْفَ كَانَ بدو الرَّمَلِ
          1602- ذَكَرَ فيهِ حديثَ ابنَ عَبَّاسٍ: (قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ، وَفْدٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلعم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْواطَ الثَّلاَثَةَ، وأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ).
          وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجَه مسلمٌ أيضًا بزيادة: ((فَقَالَ المُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الحُمَّى وَهَنَتْهُمْ، هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا))، وفي لفظٍ لهما: ((إنَّما سَعَى وَرَمَل بالبَيْتِ، لِيُرِي المُشْرِكينَ قُوَّتَهُ)) [خ¦1649]، وللبُخَارِيِّ في عُمْرَةِ القَضَاءِ: ((والمُشْركِونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيقِعَان)) [خ¦4256]، ولمسلمٍ: ((وَكَانُوا يَحْسِدُونَهُ)) وفي لفظٍ: ((وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ قَوْمًا حُسَّدًا)).
          وللإسماعيليِّ: ((يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قَومٌ عُرَاةٌ، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ عَلَى مَا قَالُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا وأَنْ يَمْشُوا))، ولابنِ مَاجَهْ: قَالَ ◙ لأصحابِه حينَ أرادُوا دخولَ مَكَّةَ في عمرتِه بعدَ الحُدَيْبيَةِ: ((إنَّ قَومَكُمْ غدًا سَيَرَوْنَكُمْ، فَلَيَرَوْنَكُمْ جُلْدًا))، فلمَّا دخلُوا المسجدَ استلمُوا الرُّكْنَ، ورَمَلُوا وهو معهم.
          وللطَّبَرَانيِّ عن عطاءٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: ((مَنْ شَاءَ فَلْيَرْمُلْ، ومَنْ شَاءَ فَلَا رَمَلَ، إنَّما أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلعم بالرَّمَلِ ليُرِيَ المُشْركِينَ قوَّتَهُ)) وللطَّبَريِّ في «تهذيبِه»: لَمَّا اعتمرَ رَسُولُ اللهِ صلعم بَلَغَهُ أنَّ أهلَ مَكَّةَ يقولونَ: إنَّ بأصحابِه هزلًا، فقالَ لهم حينَ قَدِمُوا: ((شُدُّوا مَآزِرَكُمْ وَأَعْضَادَكُمْ، وارمُلُوا حَتَّى يَرَى قَومُكُمْ أنَّ بِكُمْ قُوَّةً))، قَالَ: ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلعم فلم يرملْ، قالوا: وإِنَّما رَمَلَ في عُمْرَةِ القَضِيَّةِ، في إسنادِه حَجَّاجُ بنُ أَرْطَأَةَ.
          ولأبي داودَ: ((أنَّه ◙ وَأَصْحَابَهُ اعتمرُوا مِنْ جِعِرَّانَةَ _يعني في عُمْرَةِ القضاءِ_ فرَمَلُوا بالبَيْتِ، وجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تحتَ آباطِهم، / ثُمَّ قَذَفُوها عَلَى عواتقِهم اليُسْرَى)) وفي لفظٍ: ((كَانُوا إذا بَلَغُوا الرُّكْنَ اليَمَاني، وتَغيَّبُوا مِنْ قُرَيش مَشَوا، ثُمَّ اطَّلَعُوا عَلَيهِمْ يَرمُلُونَ، تَقُولُ قُرَيشٌ: كأنَّهم الغِزلَانُ)).
          قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: كَانَتْ سُنَّةً، وفي لفظٍ: ((أنَّه لَمْ يَرْمُل في السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ)) صَحَّحَه الحاكمُ عَلَى شرطِ الشَّيخينِ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ، وله عَلَى شرطِهما أيضًا مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ وابنِ عبَّاسٍ: ((رَمَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم في حَجَّتِهِ، وفي عُمَرِهِ كُلِّهَا، وأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ والخُلَفَاءُ)).
          إذا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فالرَّمَلُ: هو الإسراعُ، وحقيقتُه إسراعُ المشي مع تقاربِ الخُطَا، قَالَ صاحبُ «الأفعالِ»: رَمَلَ رَمَلًا: أسرعَ في الرَّمَلِ، وقالَ صاحبُ «العَيْنِ»: الرَّمَلُ ضَرْبٌ مِنَ المشي، وقالَ ابنُ سِيْدَهْ: يَرمُلُ رَمَلًا، ورَمَلَانًا: إذا مشى دونَ العَدْوِ، وقالَ القَزَّازُ: هو العَدْوُ الشَّدِيدُ، وقالَ ابنُ دُرَيدٍ: هو شبيهٌ بالهَرْوَلَةِ، وقالَ الجَوهَرِيُّ: هو الهرولةُ، وقالَ في «المغيثِ»: هو الخَبَبُ، وقيلَ: هو أنْ يَهُزَّ مَنْكِبَيهِ ولا يُسرِعَ العَدْوَ، وقالَ ابنُ العربيِّ في «مسالكِه»: هو مأخوذٌ مِنَ التَّحرِيكِ، وهو أنْ يُحَرِّكَ الماشي مَنْكِبَيهِ لشِدَّةِ الحركةِ في مشيه.
          والشَّوطُ: جَريُ مُدَّةٍ إلى الغَايَةِ، والجمعُ أشواطٌ، قَالَهُ صاحبُ «العَيْنِ»، مأخوذٌ مِنْ قولِهم: جَرَى الفَرَسُ شوطًا، إذا بَلَغَ مجراهُ ثُمَّ عَادَ، فكلُّ مَنْ أَتَى موضعًا ثُمَّ انصرفَ عنهُ فهو شوطٌ، وقالَ الطَّبَرِيُّ: يُقَالُ: شَاطَ يَشُوطُ شوطًا إذا عَدَا غلوةً بعيدةً.
          و(وَهَنَتْهُمْ) _بتخفيفِ الهاءِ المفتوحةِ_ أي: أضعفتْهم، وحكى ابنُ التَّيَّانيِّ: وَهِنَ _بالكسرِ_ وقالَ صاحبُ «العَيْنِ»: الوَهْنُ لغةٌ في الوَهَنِ.
          وقولُه: (إِلَّا الإِبْقَاءُ) _هو بكسرِ الهمزةِ ثُمَّ باءٍ مُوَحَّدَةٍ ممدودٌ_ أي: للرِّفْقِ بهم، قَالَ القُرْطُبِيُّ: رُوِّينَاهُ بالرَّفْعِ عَلَى أنَّه فاعلٌ يمنعهم، ويجوزُ النَّصبُ عَلَى أنْ يكونَ مفعولًا مِنْ أجلِه، قَالَ: ويكونُ في (مَنَعَهُمْ) ضميرٌ عائدٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم وهو فاعلُه، وقالُوه استهزاءً بهم، و(يَثْرِبَ) المدينةُ شرَّفها اللهُ تعالى.
          قولُه: (وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ) يُرِيدُ اليماني والحجرَ الأسودَ.
          وقوله: (وَفْدٌ) هو بالفاءِ، قَالَ صاحبُ «المطالعِ»: عندَ ابنِ السَّكَنِ بالقافِ، وللكافَّة بالفاءِ وهو الصَّوَابُ
          واختُلِفَ في الرَّمَلِ هل هو سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الحجِّ أم لا؟ لأنَّه كَانَ لِعِلَّةٍ ذهبت وزالت، فمَنْ شاءَ فعلَه اختيارًا، فرُوِيَ عن أبي بكرٍ وعُمَرَ وابنِ مسعودٍ وابنِ عُمَرَ الأوَّلُ، وهو قولُ الأربعةِ والثَّوريِّ وإسحاقَ، وقال آخرون: ليس بسُنَّةٍ فمَنْ شاءَ فعلَ ومَنْ شاءَ تركَه، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ وجماعةٍ مِنَ التَّابعين طاوسٍ وعطاءٍ والحسنِ والقاسمِ وسالمٍ، والأوَّلُ هو ما عليه الجمهورُ فإنْ تَرَكَه كُرِهَ، نصَّ عليه الشَّافعيُّ.
          ثُمَّ الجمهورُ عَلَى أنَّه يستوعبُ البيتَ بالرَّمَلِ، وفي قولٍ: لا يرملُ بينَ الرُّكنينِ اليمانيينِ بلْ بينَ الشَّاميَّين لأنَّ فيه كانوا ينكشفون للكفَّار فيَرَونَ جَلَدَهُمْ، إذْ سَبَبُ الرَّمَلِ والاضطباعِ إظهارُ القوَّةِ للكفَّار لَمَّا قالوا: (وَهَنَتْهُم حُمَّى يَثْرِب) كما سلف، لكنَّه في عمرةِ القضاءِ سنة سبعٍ، وحديثُ جابرٍ الطَّويلُ في مسلمٍ، وكذا حديثُ ابنِ عُمَرَ فيه كَانَا في حَجَّةِ الوداعِ سنة عشرٍ، فكان العملُ بهما أَوْلى لتَأَخُّرِهما، وابنُ عبَّاسٍ لم يكنْ عامَ القَضِيَّةِ، بخلافِ جابرٍ فإنَّه شاهدٌ، والحكمةُ فيه مع زوالِ المعنى الَّذي شُرِعَ لأجلِه قد قالَها الفاروقُ وهو الاتِّباعُ كما سيأتي، وأيضًا الفاعلُ له يستحضرُ سببه، وهو ظهورُ أمرِ الكفَّارِ خصوصًا في ذَلِكَ المكانِ الشَّرِيفِ، فيَتَذَكَّرُ نعمةَ اللهِ عَلَى إعزازِ الإسلامِ وأهلِه.
          فرعٌ: لا فرقَ في استحبابِ الرَّمَلِ بينَ الرَّاكِبِ والمحمولِ وغيرِهما عَلَى الأظهرِ، فيرمُلُ به الحاملُ ويُحَرِّكُ هو الدَّابَةَ، وعندَ المالكيَّةِ أنَّ طوافَ الإفاضةِ ونحوَه وطوافَ المُحرِمِ مِنَ التَّنعيمِ وشبهِه في مشروعيَّةِ الرَّمَلِ ثلاثةُ أقوالٍ فيها، ثالثُها المشهورُ مشروعٌ دونه، وفي الرَّمَلِ بالمريضِ والصَّبيِّ قولانِ، وعندَ الحنفيةِ أنَّه إذا طافَ للرُّكنِ رَمَلَ إن لم يَسْعَ ولم يَرمُلْ في طوافٍ سالفٍ فيه.
          فرعٌ: لو تركَ الرَّمَلَ في الطَّوفاتِ الثَّلاثِ لم يقضِه في الأربعِ الأخيرةِ لأنَّ هيئتَها السَّكِينَةُ فلا تتغيَّر، ولو تذكَّر عن قُربٍ ففي الإعادةِ قولانِ عن مالكٍ، والمشهورُ عندَهم أنَّه لا دمَ عليه، وعندَ أحمدَ: مَنْ نَسِيَ الرَّمَلَ لا إعادةَ عليه.
          فرعٌ: يختصُّ الرَّمَلُ بطوافٍ يعقبُه سعيٌ، وفي قولٍ: يختصُّ بطوافِ القدومِ، وبه قَالَ أحمدُ.
          فائدةٌ: المختارُ أنَّه لا يكرَه تسميةُ الطَّوافِ شوطًا كما نطقَ به ابنُ عبَّاسٍ كما سلف، ولأنَّ الكراهةَ إنَّما تثبت بنهي الشَّرعِ ولم تثبت، وأمَّا الشَّافعيُّ والأصحابُ فقالوا بالكراهةِ، وسببُها _كما قَالَ القاضي_ أنَّ الشَّوطَ هو الهلاكُ، قَالَ الشَّافعيُّ في «الأمِّ»: لا يُقَالُ: شَوْطٌ ولا دَوْرٌ، وكَرِهَ مجاهدٌ ذَلِكَ، قَالَ: وأنا أكرَه ما كَرِهَ مجاهدٌ، وعن مجاهدٍ: لا تقولوا شوطًا ولا شوطين، ولكن قولوا: دورًا أو دورين.
          فائدةٌ أخرى: قَالَ المُهَلَّبُ: فيه مِنَ الفقهِ أنَّ إظهارَ القوَّةَ للعَدُوِّ في الأجسامِ والعُدَّةِ والسِّلاحِ، ومفارقةُ الهدوءِ والوَقَار في ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ، كما أمرَ الشَّارعُ بالرَّمَلِ في الثَّلاثةِ الأُوَلِ، قَالَ: ومثلُه إباحتُه اللَّعِبَ للحبشةِ في المسجدِ بالحرابِ لهذا المعنى، والمسجدُ ليسَ بموضعِ لَعِبٍ بل هو موضعُ وقارٍ وخشوعٍ لله لَمَّا كَانَ مِنْ بابِ القوَّةِ والعُدَّةِ والرَّهبَةِ عَلَى المنافقين وأهلِ الكتابِ المجاورين لهم أَبَاحَهُ في المسجدِ لأنَّه أمرٌ مِنْ أمرِ جماعةِ المسلمين، / والمسجدُ لجماعتِهم.
          فرعٌ: المرأةُ لا تَرمُلُ بالإجماعِ لأنَّه يقدحُ في السَّترِ وليست مِنْ أهلِ الجَلَدِ، ولا هرولة أيضًا في السَّعي، ورواه الشَّافعيُّ عَنِ ابنِ عُمَرَ وعائشةَ وعطاءٍ.