التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في زمزم

          ░76▒ بابُ مَا جَاءَ فِي زَمْزَمَ
          1636- وَقَالَ عَبْدَانُ: أَخبَرَنَا عَبْدُ اللهِ أَخبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْريِّ قَالَ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: (فُرِجَ سَقْفُ بيتي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي...) الحديثَ.
          ثُمَّ ذكر حديثَ ابنِ عبَّاسٍ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، قَالَ عَاصِمٌ: فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ: مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إلَّا عَلَى بَعِيرٍ.
          الشَّرحُ: أمَّا الحديثُ المعلَّقُ فقد أسنده في أوائل الصَّلاة مطوَّلًا فذكر حديثَ المعراج [خ¦349]، ورواه الإسماعيليُّ عَنِ الحسنِ بنِ سفيانَ: حدَّثَنَا حَرمَلَةُ بنُ يحيى أخبرنا عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ أخبرنا يونسُ قَالَ: وأخبرنيه موسى: حدَّثَنَا أحمدُ حدَّثَنَا ابنُ وهبٍ أخبرَنا يونسُ، فذكرَهُ.
          وأمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ فأخرجَهُ مسلمٌ أيضًا بلفظ: ((اسْتَسْقَى، فَأَتيتهُ بِدَلوٍ وَهُو عِنْدَ البَيْتِ))، ولابنِ مَاجَهْ: ((سَقَيْتُهُ مِنْ زَمْزَمٍ فَشَرِبَ قائمًا)).
          إذا عرفتَ ذَلِكَ فمقصود البُخاريِّ بالحديث الأوَّل قوله: (ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ) وقد سلف الكلام عليه في أوَّل الصَّلاة واستشكالُه [خ¦349]، وجاء في فضل مائها عدَّةُ أحاديث لكنَّها ليست عَلَى شرطه، وبعضها عَلَى شرط مسلمٍ، ذَكَرْتُها في تخريجي لأحاديث الرَّافعيِّ وغيرِه، وصحَّحنا: ((مَاءُ زَمْزمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ))، ويكفي أنَّ الإمامَ أبا مُحَمَّدٍ سُفْيَانَ بنَ عُيَينَةَ سُئِلَ عنه فقالَ: حديثٌ صحيحٌ، كما أخرجَه عنه الدِّينَوَريُّ في «المجالسةِ»، وابنُ الجَوزِيِّ في «الأذكياء»، وقد شربَه العلماءُ لمقاصد كالشَّافعيِّ والخطيبِ البغداديِّ وغيرهما لمقاصد نالوها والحمدُ للهِ.
          وفي «صحيحِ مسلمٍ»: ((إنَّها طَعَامُ طُعْمٍ))، زادَ الطَّيالِسيُّ: ((وَشِفاءُ سُقْمٍ))، وفي الدَّارَقُطْنيِّ مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((وَهِي هَزْمةُ جِبْريلَ، وَسُقْيَا إسْمَاعيلَ))، ولابنِ مَاجَهْ بإسنادٍ جيَّدٍ: أنَّ ابنَ عبَّاسٍ قَالَ لرجلٍ: إذا شَرِبْتَ مِنْ زمزمَ فاستقبلِ الكعبةَ واذكرِ اسمَ اللهِ وتنفَّسْ ثلاثًا وتَضَلَّعْ منها، فإذا فرغتَ فاحمدِ اللهَ ╡، فإنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: ((آيةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ أنَّهُم لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمٍ)).
          وللدَّارَقُطْنيِّ: كَانَ عبدُ اللهِ إذا شرب منها قَالَ: اللَّهمَّ إنِّي أسألكَ عِلمًا نافعًا وَرِزقًا واسِعًا وَشِفاءً مِنْ كلِّ داءٍ، ولأحمدَ بإسنادٍ جيَّدٍ مِنْ حديث جابرٍ في ذِكْرِ حَجَّتِه ◙: ثُمَّ عادَ إلى الحِجْرِ، ثُمَّ ذَهَبَ إلى زمزمَ فَشَرِبَ مِنْهَا وصَبَّ عَلَى رَأَسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فاسْتَلمَ الرُّكْنَ، الحديثَ.
          وفي «شرفِ المصطفى» _المصنَّف الكبير_ عن أمِّ أيمنَ قَالَتْ: ما رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلعم شَكَا جوعًا قطُّ ولا عَطَشًا، كَانَ يغْدُو إذا أصبحَ فيشرب مِنْ ماءِ زمزمَ شربةً، فربَّما عَرَضْنا عليه الطَّعامَ فيقولُ: ((لَا أَنَا شَبْعَانُ))، وعن عَقِيلِ بنِ أبي طالبٍ قَالَ: كنَّا إذا أصبحنا وليس عندنا طعامٌ، قَالَ لنا أبي: ائتوا زمزمَ فنأتيها، فنشربُ منها فنجتزئ.
          وروى ابنُ إسحاقَ عن عليٍّ قَالَ عبدُ المطَّلِبِ: إنِّي لنائمٌ في الحِجْر / إذ أتاني آتٍ، فقال: احفرْ طَيبَةَ، قُلْتُ: وما طَيبَة؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عنِّي، فلمَّا كَانَ الغد نمتُ فيه، فجاءني فقال: احفر بَرَّةً، قَالَ: قُلْتُ: وما بَرَّة؟ قَالَ: ثُمَّ ذهب عنِّي، فلمَّا كَانَ الغد رَجَعْتُ إلى مضجعي فنمتُ فيه فجاءني فقال لي: احفر المضنونةَ، قَالَ: قُلْتُ: وما المضنونة؟ قَالَ: ثُمَّ ذهب عنِّي، فلمَّا كَانَ الغد رجعتُ إلى مضجعي فنمتُ فيه، فجاءني فقال: احفرْ زمزمَ، قَالَ: قُلْتُ: وما زمزم؟ قَالَ: لا تُنزَف أبدًا ولا تُذَمُّ، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفَرْثِ والدَّمِ، عند نقرة الغرابِ الأعصمِ عند قريةِ النَّملِ.
          وذَكَرَ الزَّمَخشريُّ في «ربيعِه»: أنَّ جبريلَ أنبطَ بئرَ زمزمَ مرَّتين: لآدمَ حينَ انقَطَعَتْ زمنَ الطُّوفان، ومرَّةً لإسماعيلَ.
          قَالَ السُّهَيلِيُّ: كَانَ الحارثُ بنُ مُضَاضٍ الجُرْهُمِيُّ لَمَّا أُخرِجَ مِنْ مَكَّةَ عَفَّى أثرَها، فلم تزلْ دَارِسَةً إلى أيَّامِ عبدِ المُطَّلِبِ وسُمِّيَتْ طَيْبَةَ لأنَّها للطَّيِّبِينَ والطَّيِّبَاتِ وفي إنباطِ جبريلَ إيَّاها بعقِبِه دونَ يدِه إشارةٌ إلى أنَّها لعقِبِه وراثةٌ.
          وسُمِّيَتْ بَرَّةَ لأنَّها فاضت للأبرار عَنِ الأشرارِ، والمضنونةُ لأنَّه ضُنَّ بها عَلَى غير المؤمنين فلا يتضلَّع منها منافقٌ، قاله وَهْبُ بنُ منبِّهٍ، وفي كتاب الزُّبَيرِ: قيل لعبدِ المطَّلِبِ: احفر المضنونة، ضننتُ بها عَن النَّاس لا عليك.
          وقوله: ((عندَ نُقْرةِ الغُرَابِ)) الغُرَابُ عندَ أهلِ التَّعبِيرِ: فاسقٌ وهو أسودُ، فدلَّت نقرته عند الكعبةِ عَلَى نقرةِ الأسودِ الحبشيِّ بمعولِه يهدمُها حجرًا حجرًا في آخرِ الزَّمانِ، ونُعِتَ بذي السُّويقتين، كما نُعِتَ الغرابُ بصفةٍ في ساقيه، وكونها عند الفَرْثِ والدَّم لأنَّ ماءها طعامُ طُعمٍ وشفاءُ سُقْمٍ ولِمَا شُرِبَ له كما سلف، فهي كاللَّبنِ الخارجِ مِنْ بين فَرْثٍ ودمٍ خالصًا سائغًا لشاربه، وكونها عند قرية النَّمل لأنَّها هي عينُ مكَّةَ الَّتي يَرِدُها الحاجُّ مِنْ كلِّ جانبٍ، فيحملون إليها البُرَّ والشَّعيرَ وغير ذلك، وهي لا تُحرَثُ ولا تُزرَعُ، وكذلك قريةُ النَّملِ تُجلب الحبوبُ إلى قريتها مِنْ كلِّ جانبٍ.
          وسُمِّيَتْ زمزمَ لِمَا ذكرَ الكلبيُّ في «بلادِه» عَنِ الشَّرْقيِّ: لأنَّ بابكَ بنَ ساسانَ حيثُ سارَ إلى اليمنِ دفنَ سُيُوفًا قلعيَّةً وحُلِيَّ الزَّمَازِمَةِ في موضعِ بئرِ زمزمَ، فلمَّا احتفرَها عبدُ المُطَّلِبِ أصابَ السُّيُوفَ والحُلِيَّ، فبِهِ سُمِّيَتْ زمزم.
          وفي «الاشتقاقِ» للنَّحَّاسِ عن أبي زيدٍ: الزُّمْزَةُ مِنَ النَّاسِ: خمسون ونحوهم، وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: سُمِّيَتْ زمزمَ لأنَّها زُمَّتْ بالتُّرَابِ لئلَّا يأخذَ الماءُ يمينًا وشمالًا، ولو تُرِكَتْ لسَاحَتْ عَلَى وجهِ الأرضِ حَتَّى تملأَ كلَّ شيءٍ.
          وعَنِ ابنِ هشامٍ: الزَّمزَمَةُ عندَ العربِ: الكثرةُ والاجتماعُ، وذكرَ المسعوديُّ: أنَّ الفُرسَ كانت تحجُّ إليها في الزَّمن الأوَّلِ، والزَّمزمةُ صوتٌ يخرجه الفُرس مِنَ خياشيمها، وقال الحربيُّ: سُمِّيتْ بزمزمة الماء وهو حركته.
          وفي كتاب أبي عُبيدٍ قَالَ بعضهم: إنَّها مشتقَّةٌ مِنْ قولِهم: ماءٌ زمزومٍ وزمزامٍ أي: كثيرٌ، وهو ما في «المُوعَبِ»: زمزمٌ وزمازمٌ، وهو الكثير.
          قَالَ البكريُّ في «معجمِه»: وهي بفتحِ الأوَّل وسكون الثَّاني وفتح الزَّاي الثَّانية، ويُقَالُ: بضمِّ الأوَّل وبفتح الثَّاني مخفَّفًا ومشدَّدًا وكسر الزَّاي الثَّانية فهذه ثلاثة أوجهٍ، وقال الأَزهَريُّ في «تهذيبه» عَنِ ابنِ الأعرابيِّ: زَمْزَم، وزَمَّم، وَزُمَّزِم.
          قُلْتُ: ولها أسماءٌ أُخرُ: رَكْضَةُ جبريلَ، وهزمةُ الملَكِ، والشَّبَّاعةُ _وحكى الزَّمَخْشريُّ ضمَّ الشِّين_، وهمزةُ جبريلَ بتقديم الميم وتأخيرها بعد الزَّاي، وتَكْتم، ذكره صاعدٌ في «الفصوص» وغير ذَلِكَ.
          ومقصود البُخاريِّ أنَّ شربَ ماء زمزمَ مِنْ سُنَنِ الحجِّ لفضله وبركته، وقد نصَّ أصحابنا عَلَى شُرْبِه.
          قَالَ وَهْبُ بنُ منبِّهٍ: نجدها في كتاب اللهِ: شرابُ الأبرارِ، وطعامُ طُعمٍ وشفاءُ سُقمٍ، لا تُنزحُ ولا تُزَمُّ، مَنْ شرب منها حَتَّى يتضلَّع أحدَثَتْ له شفاءً وأخرَجَتْ منه داءً.
          وروى ابنُ جُرَيْجٍ عن نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ: أنَّه كَانَ لا يشربُ منها في الحجِّ، ولعلَّه لئلَّا يُظنَّ أنَّ شُرْبَه مِنَ الفرضِ اللَّازم، وقد فعله أوَّلًا مع أنَّه كَانَ شديد الاتِّباع للآثار بل لم يكن أحدٌ أتبعَ لها منه.
          قَالَ مَعمَرٌ عَنِ الزُّهْريِّ: إنَّ عبدَ المطَّلبِ لَمَّا أنبط ماء زمزم بنى عليها حوضًا فطَفِق هو وابنه الحارث ينزعان فيملآن ذَلِكَ الحوض، فيشرب منه الحاجُّ، فيكسِرُه أناسٌ مِنْ حَسَدَةِ قريشٍ باللَّيل، ويُصلحه عبدُ المطَّلِبِ حين يصبحُ، فلمَّا أكثروا إفسادَه دعا عبدُ المطَّلِبِ ربَّه، فأُرِي في المنام فقيل له: قل: اللَّهمَّ إنِّي لا أُحلُّها لمغتسلٍ، ولكن هي للشَّارب حلٌّ وبلٌّ، ثُمَّ كُفيتَهم، فقام فنادى بالَّذي أُرِيَ، فلم يكن أحدٌ يُفسد عليه حوضه ليلًا إلَّا رُمِيَ بداءٍ في جسده، ثُمَّ تركوا له حوضه وسقايتَه، قَالَ سفيانُ: بل حِلٌّ محلٌّ.
          وفيه الشُّربُ قائمًا كما سلف [خ¦5615] [خ¦5617]، وحلف عِكْرِمَةُ عَلَى نفيه، وقد ثبت شُرْبُه قائمًا.
          وقولُه: (فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ) وفي روايةٍ أخرى: ((فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ)) ومحلُّ الخوض فيه الإسراء، وقد سلف.
          فرعٌ: يُكرَهُ أن يستعملَ ماء زمزم في نجاسةٍ، وقالَ الماوَرْديُّ: يَحْرُم الاستنجاءُ به، وفي غسلِ الميِّتِ به قولان عند المالكيَّةِ، قَالَ ابنُ شعبانَ منهم: لا يُستَعمَلُ في مرحاضٍ، ولا يخلطُ بنجسٍ، ولا يُزَالُ به نجسٌ، ويتوضَّأُ به، ويتطهَّرُ مَنْ ليس بأعضائِه نجسٌ، ولا يُغَسَّلُ به ميِّتٌ _بناءً عَلَى أصلِه في نجاسةِ الميِّت_ ولا يقربُ ماء زمزم بنجاسةٍ، ولا يُستنجى به، وذُكِرَ أنَّ بعضَ النَّاسِ استعملَه في بعضِ ذَلِكَ فحدثَ به الباسور، والنَّاسُ وأهلُ مَكَّةَ وغيرُهم عَلَى إبقاءِ ذَلِكَ إلى اليومِ.