التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب رفع الصوت بالإهلال

          ░25▒ بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلاَلِ
          1548- ذَكَرَ فيه حديثَ أنسٍ السَّالِفَ في البابِ قبلَه وفي آخرِه: (وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جِمِيعًا).
          ولاشكَّ أنَّ الإهلالَ رفعُ الصَّوتِ بالتَّلْبيةِ، ومنه استهلالُ المولودِ وهو صياحُه إذا سَقَطَ مِنْ بطنِ أمِّه، ومنه قولُه تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة:173] يعني: ما رُفِعَ فيه الصَّوتُ عندَ ذبحِه للآلهةِ، وكلُّ رافعٍ صوتَه بشيءٍ فهو يُهلُّ به، ومنه استهلالُ المطرِ والدَّمعِ، وهو صوتُ وَقْعِه بالأرضِ، ويُقَالُ: أهلَّ القومُ الهلالَ إذا رأوه، وأرى أنَّ ذَلِكَ مِنَ الإهلالِ الَّذي هو الصَّوتُ، لأنَّه كَانَ تُرفَعُ عند رؤيته الأصواتُ إمَّا بدعاءٍ أو غيرِه، ولَمَّا كانت مِنْ شعائرِ الحجِّ أُعلِنَ بها كالأذانِ.
          وأوجبَ أهلُ الظاهرِ رَفْعَ الصَّوتِ بالإهلال قَالَ ابنُ حَزْمٍ: يرفعُ الرَّجلُ والمرأةُ صوتَهما بالإهلالِ ولا بدَّ، وهو فرضٌ ولو مرَّةً، واستدلَّ بحديثِ خَلَّادِ بنِ السَّائِبِ عن أبيه مرفوعًا: ((جَاءَني جِبْريلُ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرفَعُوا أَصْواتَهُم بالتَّلْبية))، وفي لفظٍ: ((فَأَمَرني أَنْ آمُر أَصْحَابي وَمَنْ مَعيَ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُم بالتَّلْبية)) قال: وهذا أمرٌ، والحديثُ أخرجَه أصحابُ «السُّنن» الأربعةُ، قَالَ التِّرْمِذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ وقال الحاكم: هذا إسنادٌ صحيحٌ وصحَّحَه ابنُ حِبَّانَ أيضًا وقال ابنُ المُنْذِرِ: ثابتٌ.
          ولعبدِ اللهِ بنِ وَهْبٍ في «مسندِه»: بالإهلالِ أو التَّلْبيةِ يريدُ أحدَهما، زادَ الكَجِّيُّ في «سُنَنِه»: ((فإنَّها مِنْ شَعَائِرِ الحَجِّ)) وفي التِّرْمِذيِّ والحاكمِ مِنْ حديثِ أبي بكرٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ قَالَ: ((العَجُّ والثَّجُّ)) استغربَه التِّرْمِذيُّ وأعلَّه بالانقطاع، وقال الحاكمُ: صحيحُ الإسنادِ.
          والعجُّ: رفع الصَّوت بالتَّلْبية، والثَّجُّ: النَّحْرُ، وقد صحَّ في فضلهما مِنْ طريق سهلِ بنِ سعدٍ، وَوَرَدَ مِنْ طريق عامرِ بنِ رَبِيعَةَ وجابرٍ، وفي ابنِ أبي شَيبَةَ عن المُطَّلِبِ بنِ عبدِ اللهِ قَالَ: ((كَانَ أصحابُ رَسُولِ اللهِ صلعم يَرْفَعُون أَصْوَاتَهُم بالتَّلْبية حَتَّى تُبحَّ أَصْوَاتُهُم)) وقال أبو حازمٍ: كان أصحابُ رَسُولِ اللهِ صلعم لا يبلغون الرَّوحاءَ حَتَّى تُبَحَّ حلوقُهم مِنَ التَّلبيةِ، وقال عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: ارفعوا أصواتَكم بالتَّلبيةِ، ورَفَعَ أيضًا، وعَنِ ابنِ الزُّبَيرِ مثله، قُلْتُ: ولْيكن الرَّفع بحيث لا يجهده، ولا يقطع صوته، وأرى ما وقع للصَّحابة للإكثار لا للرَّفع الجهيد.
          والجماعة كلُّهم عَلَى خلافِ ما قاله أهلُ الظَّاهِر، وإنَّما هو مستحبٌّ، وكان ابنُ عبَّاسٍ يرفع صوته بها ويقول: هي قرينةُ الحجِّ، وبه قَالَ أبو حنيفةَ والثَّوريُّ والشَّافعيُّ.
          وعندنا أنَّ التَّلبيةَ المقترنةَ بالإحرامِ لا يُجهَرُ بها، صَرَّحَ به الجُوَيْنيُّ مِنْ أصحابِنا ثُمَّ هذا في الرَّجلِ، أمَّا المرأةُ فتخفضُ صوتَها بحيث تقتصرُ عَلَى إسماعِ نفسها لما في الرَّفْعِ مِنْ خشيةِ الافتتانِ وهو إجماعٌ فإن رَفَعَتْ فالأصحُّ عدمُ التَّحريمِ والخُنْثَى مُلحَقَةٌ بها.
          واختَلَفَتِ الرِّوايةُ عن مالكٍ فقالَ ابنُ القاسمِ عنه: لا يرفع الصَّوت إلَّا في المسجدِ الحرامِ ومسجدِ منًى، زاد في «الموطَّأِ»: ولا يرفعُ صوتَه في مساجدِ جماعاتٍ، وروى ابنُ حَزْمٍ عنه الكراهة وروى ابن نافعٍ عنه أنَّه يرفع صوته في المساجد الَّتي بين مَكَّةَ والمدينةِ، واحتجَّ إسماعيلُ للقَولين فقالَ: وجهُ الأوَّلِ أنَّ مساجدَ الجماعاتِ إنَّما بُنيت للصَّلاة خاصَّةً، فَكُرِه رفعُ الصَّوت فيها، وليس كذلك المسجدُ الحرام ومسجد مِنًى لأنَّ المسجد الحرام جُعل للحاجِّ وغيره وكان الملبِّي إنَّما يقصد إليه، فكان له فيه مِنَ الخصوص ما ليس في غيره، ومسجد منًى هو للحاجِّ خاصَّة، ووجه الثَّاني أنَّ المساجد الَّتي بين مكَّة والمدينة إنَّما جُعلت للمجتازين، وأكثرهم مُحْرِمون، فهم مِنَ النَّحو الَّذي وصفنا، وما أسلفناه مِنَ الإجماع في حقِّ المرأة، هو ما حكاه ابنُ بَطَّالٍ ويعضُدُه ما رواه ابنُ أبي شَيبَةَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: لا ترفعُ المرأةُ صوتَها بالتَّلْبيةِ، وعن إبراهيمَ وعطاءٍ كذلك وعَنِ ابنِ عُمَرَ: ليس عَلَى النِّسَاءِ أن يرفعنَ أصواتَهُنَّ / بالتَّلْبيةِ وعن معاويةَ أنَّه سمع تلبيةَ عائشةَ، وعن إبراهيمَ بنِ نافعٍ قَالَ: قدمَت امرأةٌ أعجميَّةٌ فخَرَجَتْ مع النَّاسِ ولم تهلَّ، إلَّا أنَّها كانت تذكر اللهَ فقالَ عطاءٌ: لا يجزئُها.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ في «إشرافِه»: ورُوِّينا عن ميمونةَ أمِّ المؤمنين أنَّها كانت تجهر بها، وأمَّا حديث زينب الأحمسيَّة أنَّ رَسُول الله صلعم قَالَ لها في امرأةٍ حَجَّتْ معها مصمتةٍ: ((قُولِي لَهَا تَكَلَّمْ فإنَّه لَا حَجَّ لِمَنْ لم يَتَكلَّمْ)) فلا تعرُّضَ فيه للتَّلبيةِ، قَالَ ابنُ القَطَّانِ: وليس هو خبرٌ، إنَّما هو أثرٌ عَنِ الصِّدِّيقِ، ومع ذَلِكَ ففيه مجهولان.
          وأمَّا قوله: (يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا) فقد يُستدلُّ به عَلَى أنَّه ◙ كَانَ قارنًا.
          وقال المُهَلَّبُ: إنَّما سمع أنسٌ مَنْ قرَن خاصَّةً لثبوتِ الإفرادِ وليسَ في حديثِه أنَّه سمعَ رَسُولَ اللهِ صلعم يصرخ بهما، وإنَّما أخبر بذلك عن قومٍ فعلُوه، وقد يمكن أن يسمع قومًا يصرخون بحجٍّ، وقومًا يصرخون بعُمْرَةٍ، وقد روى أنسٌ عن رَسُولِ اللهِ صلعم ما يردُّ روايته هذِه، وهو قولُه: ((لَوْلا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ)) كما سيأتي بعدُ [خ¦1558].
          وفيه ردُّ قولِ أهلِ الظَّاهرِ في إجازتِهم تقصير الصَّلاةِ في مقدارِ ما بين المدينة وذي الحُلَيفة، وفي أقلَّ مِنْ ذَلِكَ لأنَّه ◙ إنَّما قصر بها لأنَّه كَانَ خارجًا إلى مَكَّةَ، فكذلك قصرها بها بدليلِ قولِه: (وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا) يعني: بالحجِّ والعُمْرَةِ وبينَ المدينةِ وبين ذي الحُلَيفَةِ سِتَّةُ أميالٍ.
          فائدةٌ: قامَ الإجماع عَلَى مشروعيَّةِ التَّلْبيةِ ثُمَّ فيها ثلاث مذاهبَ:
          أحدها: أنَّها سنَّةٌ، قاله الشَّافعيُّ والحسنُ بنُ حيٍّ.
          ثانيها: أنَّها واجبةٌ يجبُ بتركها دمٌ، قاله أصحاب مالكٍ لأنَّها نُسُكٌ، ومَنْ تركَ نسكًا أراقَ دمًا، وقال بعضهم: هي كالأوَّلِ حكاه ابنُ التِّيْنِ.
          ثالثها: أنَّها مِنْ شروطِ الإحرامِ، لا يصحُّ إلَّا بها، قاله الثَّوريُّ وأبو حنيفةَ، قَالَ أبو حنيفةَ: لا يكون محرِمًا حَتَّى يلبِّي أو يذكر ويسوق هَدْيَه قالا: كالتَّكبيرِ للصَّلاةِ لأنَّ ابنَ عبَّاسٍ قَالَ: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197] قَالَ: الإهلالُ، وعن عطاءٍ وعكرمةَ وطاوسٍ: هو التَّلْبيَةُ.
          وعندنا قولٌ أنَّه لا ينعقدُ إلَّا بها، لكن يقومُ مَقَامَها سوقُ الهَدْي والتَّقليد والتَّوجُّه معه، وحُكِيَ في الوجوبِ دونَ الاشتراطِ، فعليه دمٌ إذا ترك وقيل: لا بدَّ مِنَ التَّلْبية مع النِّيَّة، وظاهره اشتراط المقارنة، وقولُ ابنِ الجَلَّابِ: إنَّها في الحجِّ مسنونةٌ غيرُ مفروضةٍ يريد أنَّها ليست مِنْ أركان الحجِّ، واختُلِفَ إذا لبَّى حين أحرمَ ثُمَّ تركَها فالمعروفُ مِنْ مذهب مالكٍ أنَّه لا شيء عليه، وقيل: عليه دمٌ، قاله ابن التِّيْنِ.