التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة

          ░20▒ بابُ الإِهلاَلِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ.
          1541- ذَكَرَ فيه حديثَ سالمٍ أنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلعم إلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الحُلَيْفَةِ.
          هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ أيضًا بلفظين عَنِ ابنِ عُمَرَ:
          أحدُهما: ((بَاتَ رَسُولُ اللهِ صلعم بذي الحُلَيفَةِ مَبْدَأهُ وَصَلَّى في مَسْجِدِهَا)).
          ثانيهما: ((كَانَ إذا وَضَعَ رِجْلَهُ في الغَرْزِ، وانبَعَثَتْ بهِ رَاحِلَتُهُ قائمةً أَهَلَّ مِنْ ذِي الحُلَيفَةِ)).
          وسيأتي بابُ مَنْ أَهَلَّ حينَ استَوَتْ به راحلتُه، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ حديث نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: ((أَهلَّ النَّبيُّ صلعم حِينَ استَوَتْ بهِ رَاحِلَتُهُ قائمةً)) [خ¦1552]، ثمَّ قَالَ: بابُ الإهلالِ مستقبلِ القِبْلَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ حديثَ ابنِ عُمَرَ تعليقًا ومسندًا كما سيأتي [خ¦1553] [خ¦1554]، وأخرجاه مِنْ حديثِه أنَّه قيلَ له: رأيْتُكَ تصنعُ أربعًا فذَكَرَهُنَّ وفي آخرِه: ((وأمَّا الإهلالُ فإنِّي لَمْ أرَ رَسُولَ اللهِ صلعم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعثَ بهِ رَاحِلَتُهُ)) وقد سَلَفَ [خ¦166].
          وللبُخاريِّ مِنْ حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ: ((أنَّ إهلالَ رَسُولِ اللهِ صلعم مِنْ ذي الحُلَيفةِ حِينَ استَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ)) ثُمَّ قَالَ: رواه أنسٌ وابنُ عبَّاسٍ، ثُمَّ خَرَّجَه مِنْ حديثِ أنسٍ، وساقَه مسلمٌ مِنْ حديثِ جابرٍ الطَّويلِ وله ولمسلمٍ _والسِّياقُ له_ عن سالمٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ سَمِعَ أباه يقولُ: بيداؤُكم هذِه الَّتي تَكذِبُون عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فيها: ((مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلعم إلَّا مِنْ عِندِ المَسْجِدِ يعني ذَا الحُلَيفةِ)) ولمسلمٍ عن سالمٍ قَالَ: كَانَ ابنُ عُمَرَ إذا قيلَ له: الإحرامُ مِنَ البيداءِ قَالَ: البيداءُ الَّتي تكذبون عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم: ((مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلعم إلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرةِ حَتَّى قَامَ بهِ بَعِيرُهُ)).
          إذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فقدِ اختَلَفَ العلماءُ في الموضعِ الَّذي أحرمَ منه رَسُولُ اللهِ صلعم فقالَ قومٌ: إنَّه أهلَّ مِنْ مسجدِ ذي الحُلَيْفَةِ، وقالَ آخرون: لم يهلَّ إلَّا بعدَ أَنِ استَوَتْ به راحلتُه بعدَ خروجِه مِنَ المسجدِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابنِ عُمَرَ أيضًا وعن أنسٍ وابنِ عبَّاسٍ وجابرٍ وقد سَلَفَتْ.
          وقالَ آخرون: بل أحرمَ حينَ أَظَلَّ البيداءَ، وقالَ مَنْ خالفَهم: قد يجوزُ أن يكونَ النَّبِيُّ صلعم أحرمَ منها، لا لأنَّه قَصَدَ أن يكونَ إحرامُه منها لفضلٍ في الإحرامِ منها عَلَى الإحرامِ ممَّا سواها، وقد رأيناه فَعَلَ في حَجَّتِه أشياءَ في مواضعَ لا لفضلِها كنزولِه بالمحصَّبِ مِنْ منًى، لم يكن ذَلِكَ لأنَّه سُنَّةٌ، فكذلك أحرمَ حينَ صارَ عَلَى البيداءِ، لا لأنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ.
          وقد أنكرَ قومٌ أن يكونَ رَسُولُ اللهِ صلعم أحرمَ مِنْ ذَلِكَ، وقد أسلفنا ذَلِكَ مِنْ روايةِ ابنِ عُمَرَ، وإنَّما كَانَ ذَلِكَ بعدَ ما ركبَ راحلتَه، واحتجُّوا بحديثِ نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ السَّالفِ: ((وَكَانَ ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ)) قالُوا: وينبغي أن يكونَ ذلك بعدَ ما تتبَّعَت به راحلتُه، واحتجُّوا بحديثِ ابنِ عُمَرَ السَّالفِ في الخصالِ الأربعِ.
          ووجهُ الاختلافِ في ذَلِكَ ما رواه ابنُ إسحاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي خُصَيفٌ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لابنِ عبَّاسٍ: عَجِبْتُ لاختلافِ أصحابِ رَسُولِ الله صلعم في إهلالِه فقالَ: إنَّي لأعلَمُ النَّاسِ بذلكَ، إنَّما كانَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم حَجَّةٌ واحدةٌ، فمِنْ هناكَ اختلفُوا ((خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلعم حَاجًّا فلمَّا صَلَّى في مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفَةِ ركعتينِ أَوجَبَ في مَجْلِسهِ فأَهَلَّ بالحجِّ حينَ فَرَغَ مِن رَكْعتيهِ فسَمِعَ ذَلِكَ منه أقوامٌ فَحَفِظُوه عنهُ، ثُمَّ ركبَ فلمَّا استقلَّتْ به ناقتُهُ أَهَلَّ، وأدركَ ذَلِكَ منه أقوامٌ لم يشهدُوه في المرَّةِ الأولى لأنَّ النَّاسَ كانُوا يأتون أرسالًا فَسَمِعُوه حينَ ذاكَ يُهِلُّ فقالُوا: إنَّما أَهَلَّ حِينَ استقلَّتْ به ناقتُه، ثُمَّ مضى رَسُولُ اللهِ صلعم فلمَّا علا شَرَفَ البيداءَ أَهَلَّ، وأدركَ ذَلِكَ منه أقوامٌ لم يشهدُوه في المرَّتين، فنَقَلَ كلُّ واحدٍ منهم ما سَمِعَ، فإنَّما كَانَ إهلالَه في مُصلَّاه وايْمُ اللهِ، ثُمَّ أَهَلَّ ثانيًا ثُمَّ ثالثًا)) أخرجَه الحاكمُ في «مستدركِه» وغيرُه، ثُمَّ قَالَ: هذا حديثٌ صحيحٌ عَلَى شرطِ مسلمٍ مفسَّرٌ في البابِ، ثمَّ أخرجَ مِنْ حديثِ يعقوبَ بنِ عطاءٍ عن أبيه عَنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ: ((اغتَسَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابهُ فلمَّا أَتَى ذَا الحُلَيفَةِ صَلَّى ركعتين، ثُمَّ قَعَدَ عَلَى بعيرِه فَلَمَّا استوى بهِ عَلَى البيداءِ أَحْرمَ بالحجِّ)) ثُمَّ قَالَ: صحيحُ الإسنادِ فإنَّ يعقوبَ بنِ عطاءٍ مِمَّنْ جمعَ أئمَّةُ الإسنادِ حديثَه.
          وله شاهدٌ صحيحٌ عَلَى شرطِهما فذَكَرَه في الغسلِ، وعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم / إذا أَخَذَ طَرِيقَ الفَرعِ أَهَلَّ إذا استقلَّتْ بهِ رَاحِلَتُهُ)) ثُمَّ قَالَ: صحيحٌ عَلَى شرطِ مسلمٍ.
          فينبغي لمريدِ الإحرامِ بعدَ الاغتسالِ له أن يصلِّيَ ركعتين ثُمَّ يحرمَ في دبرِهما كما فعلَ رَسُولُ اللهِ صلعم، وهو قولُ جمهورِ العلماءِ، لكنَّ الأظهرَ في مذهبِنا أنَّه حينَ انبعاثِ دابَّتِه أو توجُّهِه إذا كَانَ ماشيًا، ونَقَلَه ابنُ العربيِّ عن مالكٍ والشَّافعيِّ وأكثرِ الفقهاءِ.
          وقالَ أبو حنيفةَ: يُهِلُّ عندَ السَّلامِ، وعَنِ الحسنِ يصلِّيهما بعدَ صلاةِ فرضٍ، وكانَ ابنُ عُمَرَ يُحرِمُ في دبرِ صلاةٍ مكتوبةٍ، وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ، واستَحَبَّ ذَلِكَ عطاءٌ والثَّوريُّ وطاوسٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثَورٍ، واستَحَبَّ مالكٌ أن يكونَ بإثْرِ صلاةِ نافلةٍ لأنَّهُ زيادةُ خيرٍ، وهو ظاهرُ حديثِ هشامٍ عن أبيه فإن كانَ في وقتٍ لا يُتَنَفَّلُ فيه كوقتِ الصُّبحِ أوِ العصرِ أجزأَه أن يكونَ بإثرِ الفريضةِ فإن لم يكن وقتها انتظرَه، إلَّا أن يخافَ فواتَ أصحابِه فيُحرِمُ مِنْ غيرِ صلاةٍ.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: وإن أَحرَمَ مِنْ غيرِ صلاةٍ تتقدَّمُ إحرامَه أجزأَه، لأمرِ الشَّارِعِ أسماءَ بنتَ عُمَيْسٍ وهي نُفَسَاءُ بالاغتسالِ والإحرامِ، وهي غيرُ طاهرٍ، ومحالٌ أن تُصَلِّيَ في تلك الحالِ، ولنا وجهٌ آخرُ يجمعُ هذا الاختلاف، وهو ما رواه ابنُ إسحاقَ عن أبي الزِّنَادِ عن عائشةَ بنتِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قالَتْ: قَالَ سعدٌ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إذا أَخَذ طَرِيقَ الفَرعِ أَهَلَّ إذا استقلَّتْ بهِ رَاحِلَتُه، وإذا أَخَذ طَرِيقَ أُحُدٍ أَهَلَّ إذا عَلَا عَلَى شَرَفِ البَيْداءِ)).
          فائدةٌ: قَالَ الباجيُّ في «المنتقى»: كَانَ إحرامُه بعدَ صلاةِ الصُّبحِ، وسيأتي ما يخالفُه في بابِ ما يلبسُ المُحرِمُ مِنَ الثِّيابِ [خ¦1545]، وفي «الاستذكارِ»: ((رَكَعَ رَكْعتينِ بَعْد طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ أَحْرَمَ بإثرِهما)) وفي أبي داودَ: ((أنَّهُ ◙ صلَّى في مَسْجِدِ ذِي الحُلَيفَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ لَبَّى دُبُرَ الصَّلَاةِ)).
          فائدةٌ: الرِّوايةُ السَّالفةُ أوَّلَ البابِ: ((بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ الَّتي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فِيهَا، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلعم إلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ يَعْنِي ذَا الحُلَيْفَةِ)) يريدُ ما ذَكَرَه ابنُ عبَّاسٍ وأنسٌ في حديثِهما ووَصَفَهُ بالكَذِبِ لأنَّه الإخبارُ بالشَّيءِ عَلَى خلافِ ما ليسَ به قصده المخبرُ أم لا، وقد ذُكِرَ عن أنسٍ غيرُ هذا، ورُوِيَ خلافُه عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه أَهَلَّ إثرَ السَّلامِ مِنَ الصَّلاةِ.
          قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وأصحُّ هذِه الرِّوايات ما وافقَ روايةَ ابنِ عُمَرَ لأنَّه لم تختلفْ روايتُه في ذَلِكَ، وهو أحفظُ النَّاسِ للمناسكِ، وابنُ عبَّاسٍ صغيرٌ في حَجَّةِ الوداعِ ولأنَّه اختَلَفَتْ روايتُه في هذا الحُكْمِ، ولم تختلفْ روايةُ ابنِ عُمَرَ ولأنَّ حديثَه لم يُختَلَفْ في صِحَّتِه، وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ فيه ابنُ إسحاقَ وخُصَيفٌ، وروى مالكٌ عن نافعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّه كَانَ إذا استَوَتْ به راحلتُه أحرَمَ وهو ممَّن يقتفي آثارَ رَسُولِ اللهِ صلعم ولا يخالفُ ما رواه، فإنَّ معنى: انبَعَثَتْ مِنَ الأرضِ إلى القيامِ، وهذا تخالفٌ فيه، وفي «المُدَوَّنَةِ» عَنِ ابنِ نافعٍ: أنكرَ مالكٌ الإحرامَ مِنَ البيداءِ وقالَ: ما البيداءُ؟ وقالَ الكِرمَانيُّ: البيداءُ فوقَ عَلَمَي ذي الحُلَيفَةِ إذا صَعِدْتَ مِنَ الوادي، وفي أوَّلِ البيداءِ بئرُ ماءٍ.
          فائدةٌ أخرى: قولُه: (مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلعم إلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ) يعني مسجدَ ذي الحُلَيفَةِ، مقتضاه أنَّه أفضلُ للاتِّبَاعِ، ومَنْ أحرَمَ مِنْ غيرِ ذَلِكَ الموضعِ مِنْ ذي الحُلَيفَةِ أجزأَه لأنَّه يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ إحرامُهم مِنْ مكانٍ واحدٍ، وقد سُئِلَ مالكٌ: أيُحرِمُ مِنَ الجُحْفَةِ مِنْ أوَّلِ الوادي أو وسطِه أو آخرِه؟ فقالَ: هو مُهَلٌّ كلُّه، وقالَ: سائرُ المواقيتِ كذلك وأحبُّ إليَّ أنْ يُحرِمَ مِنْ أوَّلِ الوادي حَتَّى يأتيَ عَلَى ذَلِكَ كلِّه وهو مُحرِمٌ، فالمواقيتُ ضربان: ميقاتٌ أحرَمَ الشَّارِعُ منه، فهو أفضلُه وميقاتٌ لم يُحرِمْ منه، فأفضلُه أوَّلُهُ.
          فائدةٌ: مِنْ غرائبِ ابنِ حَزْمٍ أنَّ الغُسْلَ عندَ الإحرامِ مستحبٌّ وليس بفرضٍ إلَّا عَلَى النُّفَسَاءِ وحدَها، قَالَ: ومِنْ حيث أَهَلَّ أجزأَه لأنَّه ◙ فَعَلَ ولم يأمرْ.