التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته

          ░63▒ بابُ مَنْ طَافَ بِالبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا
          1614- 1615- ذَكَرَ فيهِ حديثَ مُحَمَّدَ بنَ عبدِ الرَّحمَنِ: (ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ، قَالَ: فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلعم أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ...) الحديثَ.
          1616- وحديثَ ابنِ عُمَرَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ إذا طَافَ فِي الحَجِّ أَوِ العُمْرَةِ أَوَّلَ ما يَقْدَمُ سَعَى ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ).
          1617- وحديثَه أيضًا: (كَانَ إِذَا طَافَ بِالبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشِي أَرْبَعَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ).
          الشَّرحُ: أمَّا الحديثُ الأوَّلُ: فقوله: (ذَكَرْتُه لِعُرْوَةَ) فالبُخاريُّ اختصره مِنْ حديثٍ طويلٍ، أخرجه مسلمٌ مِنْ حديث عَمْرٍو عن مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ: أنَّ رجلًا من أهل العراق قَالَ له: سل لي عُرْوَةَ عن رجلٍ مهلٍّ بالحجِّ، فإذا طافَ بالبيتَ أيحلُّ أم لا؟ فإن قَالَ: لا يحلُّ، فقل له: إنَّ رجلًا يقولُ ذَلِكَ، ثُمَّ ساقه بطوله.
          وأمَّا حديثُ ابنِ عُمَرَ فقد سلف بعضُه، وهو في مسلمٍ أيضًا.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فالكلام عليه مِنْ أوجهٍ:
          أحدُها: أوَّل الحديث قول عائشةَ إلى قوله: (ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ مِثْلَهُ) وقوله: (ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيرِ) إلى آخره، / لعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ ومذهبه الإفرادُ لأنَّه قَالَ عن عائشةَ: إنَّها لم تكن عُمْرَةً، ففيه حُجَّة عليٍّ عليها فيما ذكرت: أنَّه ◙ فسخ، إلَّا أن يؤوَّل أنَّه أمر به أو يكون وَهْمًا مِنَ المحدِّث عنها.
          وقوله: (ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيرِ) كذا لأبي الحسنِ ولأبي ذرٍّ: <مَعَ ابنِ الزُّبَيرِ> والصَّواب الأوَّل، والضَّمير عائدٌ إلى عُرْوَةَ، أي: أنَّه حجَّ مع والده الزُّبَيرِ، فافهمْه.
          ثانيها: غرض البُخاريِّ في هذا الباب أن يبيِّن أنَّ سُنَّة مَنْ قَدِمَ مكَّةَ حاجًّا أو معتمرًا أن يطوف بالبيت ويسعى بين الصَّفا والمروة، فإنْ كَانَ معتمرًا حلَّ وحلق، وإن كَانَ حاجًّا ثبت عَلَى إحرامه، حَتَّى يخرج إلى منًى يوم التَّروية لعمل حَجِّهِ، وكذلك قَالَ العلماء: إذا دخل مكَّة فلا يبدأ بشيءٍ قبل الطَّواف للاتِّباع، أو لأنَّه تحيَّة المسجد الحرام، واستثنى الشَّافعيُّ مِنْ هذا المرأةَ الجميلة والشَّريفة الَّتي لا تبرز للرِّجال، فيُستحبُّ لها تأخيره ودخول المسجد ليلًا لأنَّه أسترُ لها وأسلم مِنَ الفتنة.
          فرعٌ: الابتداء بالطَّواف مستحبٌّ لكلِّ داخلٍ وإن لم يكن مُحرِمًا، إلَّا إذا خاف فوت مكتوبةٍ أو سُنَّةٍ راتبةٍ أو مؤكَّدةٍ أو جماعةٍ مكتوبةٍ، وإن وسع الوقتُ أو كَانَ عليه فائتةٌ، فإنَّه يقدِّم ذَلِكَ كلَّه عَلَى الطَّواف، ثُمَّ يطوف.
          الثَّالثُ: فيه مطلوبيَّة الوضوء للطَّواف، واختلفوا هل هو واجبٌ أو شرط؟ فعند أبي حنيفةَ أنَّه ليس بشرطٍ، فلو طاف عَلَى غير وضوءٍ صحَّ طوافُه، فإن كَانَ ذَلِكَ للقدوم فعليه صدقةٌ، وإن كَانَ طواف الزِّيارة فعليه شاةٌ.
          الرَّابعُ: قوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً) كذا هو في البُخاريِّ _بعينٍ مهملةٍ_ مِنَ الاعتمارِ، قالوا: وهذا هو الصَّحيح، ووقع في جميع روايات مسلمٍ: ((غيره)) _بالغين المعجمة ثُمَّ ياءٍ_ وهو تصحيفٌ كما قاله القاضي، وكأنَّ السَّائلَ إنَّما سأله عن فسخ الحجِّ إلى العُمْرةِ عَلَى مذهب مَنْ يراه، واحتجَّ بأمر النَّبِيِّ صلعم لهم في حجَّة الوداع، فأعلمه عُرْوَةُ أنَّه لم يفعل ذَلِكَ بنفسه ولا مَنْ جاء بعده قَالَ: ويدلُّ عَلَى صحَّة ذَلِكَ قوله في الحديث نفسه: ((وآخِرُ مَنْ فَعَل ذَلِكَ ابنُ عُمَرَ وَلَمْ يَنْقُضْهَا بِعُمْرَةٍ)).
          وأمَّا النَّووِيُّ فقالَ: ((غيره)) صحيحةٌ وليست تصحيفًا لأنَّ قوله: ((غيره)) يتناول العُمْرَةَ وغيرها، والتَّقدير: ثُمَّ حجَّ أبو بكرٍ فكان أوَّل ما بدأ به الطَّوافَ بالبيت، ثُمَّ لم يكن غيره أي: لم يغيِّر الحجَّ ولم ينقله ولم يفسخه إلى غيره، لا عُمْرَة ولا قِرَان.
          قَالَ القُرْطُبيُّ: وأفادهم ذَلِكَ أنَّ طوافهم الأوَّل لم يكن للعُمْرَةِ بل للقدوم.
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: قوله: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً) يعني أنَّه ◙ طاف بالبيت، ثُمَّ لم يحلَّ مِنْ حجَّه بعُمْرَةٍ مِنْ أجل الهدي، وكذلك أبو بكرٍ وعُمَرُ أفردا الحجَّ.
          وقال ابنُ المُنْذِرِ: سنَّ الشَّارِعُ للقادمين المحرمين بالحجِّ تعجيل الطَّواف، والسَّعي بين الصَّفا والمروة عند دخولهم، وفَعَل هو ذَلِكَ عَلَى ما رَوَتْهُ عائشةُ، وأَمَرَ مَنْ حلَّ مِنْ أصحابه أن يُحرِمُوا إذا انطلقوا إلى مِنًى، فإذا أحرم مَنْ هو منطلقٌ إلى مِنًى فغير جائزٍ أن يكون طائفًا وهو منطلقٌ إلى منًى، فدلَّ هذا الحديث عَلَى أنَّ مَنْ أحرم مِنْ مكَّة مِنْ أهلها أو غيرهم أن يؤخِّروا طوافهم وسعيَهم إلى يوم النَّحر، بخلاف فعل القادمين لتفريق السُّنَّة بين الفريقين، وأيضًا فإنَّ هذا هو طواف القدوم، وليس مِنْ إنشاءِ الحجِّ مِنْ مكَّة واردًا بحجِّه عليها، فسقط بذلك عنهم تعجيلُه.
          وكان ابنُ عبَّاسٍ يقول: يا أهل مكَّةَ، إنَّما طوافكم بالبيت وبين الصَّفا والمروة يوم النَّحر، وأمَّا أهل الأمصار فإذا قَدِمُوا، وكان يقول: لا أرى لأهل مكَّةَ أن يُحرِموا بالحجِّ حَتَّى يخرجوا، ولا أن يطوفوا بين الصَّفا والمروة حَتَّى يرجعوا، هذا قول ابنِ عُمَرَ وجابرٍ، وقالوا: مَنْ أنشأ الحجَّ مِنْ مكَّةَ فحكمُه حُكْمُ أهل مكَّةَ، قال ابنُ المُنْذِرِ: هذا قول مالكٍ وأهل المدينة وطاوسٍ، وبه قَالَ أحمدُ وإسحاقُ.
          واختلف قول مالكٍ فيمن طاف وسعى قبل خروجه، فكان يقول: يعيدُ إذا رجَعَ ولا يجزئه طوافُه الأوَّل ولا سعيُه، وقال أيضًا: إن رجعَ إلى بلاده قبل أن يعيدَ فعليه دمٌ، ورخَّصت طائفةٌ في ذَلِكَ، ورأت المكِّيَّ ومَنْ دخل مكَّةَ إن طافَا وسعيَا قبل خروجهما أنَّ ذَلِكَ جائزٌ، هذا قول عطاءٍ والشَّافعيِّ، غير أنَّ عطاءً كَانَ يرى تأخيره أفضلَ، وقد فعل ذَلِكَ ابنُ الزُّبَيرِ، أهلَّ لَمَّا أهلَّ هلالُ ذي الحِجَّة، ثُمَّ طاف وسعى وخرج، وأجازه القاسمُ بنُ مُحَمَّدٍ، وقال عطاءٌ: منزلةُ مَنْ جاور بمنزلة أهل مكَّة إنْ أحرم أوَّل العشر طاف حين يحرِم، وإن أخَّرَ إلى يوم التَّرويةِ أخَّر الطَّواف إلى يوم النَّحر.
          واختلفوا فيمن قَدِمَ مكَّةَ فلم يطف حَتَّى أتى مِنًى، فقالت طائفةٌ: عليه دمٌ، هذا قول أبي ثَورٍ، واحتجَّ بقول ابنِ عبَّاسٍ: مَنْ ترك مِنْ نُسُكه شيئًا فليهرق لذلك دمًا، وحكى أبو ثَورٍ عن مالكٍ: أنَّه يجزئه طواف الزِّيارة لطوافِ الدُّخولِ والزِّيارةِ والصَّدَرِ، وحكى غيرُه عن مالكٍ أنَّه إن كَانَ مراهقًا فلا شيء عليه، فإن دخل غير مراهقٍ فلم يطف حَتَّى مضى إلى عرفاتٍ، فإنَّه يُهَريق دمًا لأنَّه فرَّط في الطَّواف حين قَدِمَ حَتَّى أتى إلى عرفاتٍ، وقال أبو حَنيفةَ والشَّافعيُّ وأشهبُ: لا شيء عليه إن ترك طواف القدوم.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: أجمع أهل العلم عَلَى أنَّ مَنْ ترك طواف القدوم وطاف للزِّيارة ثُمَّ رجَع إلى بلده أنَّ حَجَّهُ تامٌّ، ولم يوجبوا عليه الرُّجوعَ كما أوجبوه عليه في طواف الإفاضة، فدلَّ إجماعهم عَلَى ذَلِكَ أنَّ طواف القدوم ليس بفرضٍ، وفي وجهٍ بعيدٍ عندنا أنَّه يلزمه بتركه دمٌ، فإنْ أخَّره ففي فواته وجهان حكاهما إمامُ الحرمين لأنَّه يشبه تحيَّة المسجد، وكان ابنُ عُمَرَ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ ومجاهدٌ والقاسمُ بنُ محمَّدٍ لا يرَون بأسًا إذا طاف الرَّجلُ أوَّل النَّهار أن يؤخِّر السَّعي حَتَّى يُبرِد، وكذا قَالَ أحمدُ وإسحاقُ إذا كانت به علَّةٌ، وقال الثَّوريُّ: لا بأس إذا طاف أن يدخل الكعبةَ فإذا خرج سعى.
          خامسُها: قوله: (وأَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا) يُريد بأختها عائشةَ، وأمِّه أسماءَ ☻.
          وقوله: (فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا) يريد: بعد أن سعوا بين الصَّفا والمروة، لأنَّ العُمْرَةَ إنَّما هي / الطَّواف والسَّعي، ولا يحلُّ مَنْ قَدِمَ مكَّة بأقلَّ مِنْ هذا، فخشي البُخاريُّ أن يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّ قوله: (لَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا) أنَّ العُمْرَةَ إنَّما هي الطَّواف بالبيت فقط، وأنَّ المعتمر يحلُّ به دون السَّعي، وهو مذهبُ ابنِ عبَّاسٍ، ورُوِيَ عنه أنَّه قَالَ: العُمْرَةُ الطَّوافُ، وقال به إسحاقُ بنُ راهويه، ويمكن أن يحتجَّ مَنْ قَالَ هذا بقراءة ابنِ مسعودٍ: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ إِلَى البَيْتِ} أي: أنَّ العُمْرَةَ لا يُجَاوَزُ بها البيتُ، فأراد البُخاريُّ بيانَ فسادِ هذا التَّأويل بما أردف في آخر البابِ مِنْ حديث ابنِ عُمَرَ: ((أنَّهُ ◙ كَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ أَو العُمْرَةِ طَافَ بِالبَيْتِ وَسَعَى))، وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار.
          وقال ابنُ التِّيْنِ: يُريد بالرُّكن ركنَ المروة، وأمَّا ركنُ البيتِ فلا يحلُّ بمسحه حَتَّى يسعى ولا بأس بما ذكره، ثُمَّ قَالَ: إن كَانَ يريد أنَّها أخبرته عن حَجَّةِ الوداع فغلطٌ، لأنَّ عائشةَ لم تدخل بعُمْرَةٍ، وكان الزُّبَيرُ وأسماءُ ممَّن فسخ الحجَّ في عُمْرَةٍ ذَلِكَ العام، وإن كَانَ غيرَها بعد رَسُولِ اللهِ صلعم فلعلَّةٍ، وهذا قليلٌ.
          سادسُها: في حديث ابنِ عُمَرَ: أنَّه بعد أن سجد سجدتين سعى بين الصَّفا والمروة وثبت في «صحيح مسلمٍ» مِنْ حديث جابرٍ الطَّويل: ((أنَّه ◙ لَمَّا فَرغَ مِنْ رَكْعَتي الطَّوافِ رَجَعَ إلى الرُّكْنِ فاستلمَهُ، ثُمَّ خَرجَ إلى الصَّفا والسَّعْي بينهما سَبْعًا، ذهابُه مِنَ الصَّفا إلى المَرْوة مرَّة، وَعَودُهُ منها إلى الصَّفا أُخْرى، وَهَكذا سَبْعًا يَبْدأُ بالصَّفا وَيَختمُ بالمَرْوةِ)) وقيل: إنَّ الذَّهاب والإياب مرَّةٌ واحدةٌ، قَالَه ابنُ بنتِ الشَّافعيِّ وأبو بكرٍ الصَّيْرفيُّ مِنْ أصحابنا.
          وقولُه: (وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ المَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ) هذا هو المشهور مِنْ فعله ◙ وعليه جماعة الفقهاء، وُروِيَ عن ابنِ عُمَرَ التَّخيير في ذَلِكَ وقال: ((إنْ مَشَيْتُ فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلعم يَمْشِي))، ورُوِيَ عنه: ((طُفْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فَلَمْ أَرهُ يَسْعَى وَرَأيْتُهُم سَعَوا، ولا أَرَاهُم سَعَوا إلَّا لِسَعْيهِ)) ويحتمل أن يكون ذَلِكَ في موطنٍ.
          فرعٌ: موضع السَّعي بينهما معروفٌ، وقد عملَتِ الخلفاءُ ذَلِكَ حَتَّى صار إجماعًا، وصفة السَّعي أن يكون سعيًا بين سعيين وهو الخَبَبُ.
          فرعٌ: لو تركه فقال مالكٌ مرَّةً: عليه الدَّم، ثُمَّ رجع.
          فرعٌ: المرأة لا تسعى بل تمشي لأنَّه أسترُ لها، وقيل: إن سعت في الخلوة باللَّيل سعت كالرَّجل، وفروع السَّعي محلُّها الفروع.