التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما ذكر في الحجر الأسود

          ░50▒ بابُ مَا ذُكِرَ فِي الحَجَرِ الأَسْوَدِ /
          1597- ذَكَرَ فيهِ حديثَ عَابِسِ بنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ: (أَنَّهُ جَاءَ إلى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، وقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ).
          هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ أيضًا مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وعبدِ اللهِ بنِ سَرْجِسَ عن عُمَرَ، والنَّسَائيُّ مِنْ حديث ابنِ عبَّاسٍ عنه، وعندَه: ((قَبَّلَه ثلاثًا))، وعند الحاكمِ: ((وَسَجَدَ عَلَيهِ)) ثُمَّ صحَّحَ إسنادَه، وعند التِّرْمِذيِّ عنه: ((نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْودُ مِنَ الجنَّةِ أَشدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايا بَنِي آدَمَ)) ثُمَّ قَالَ: حسنٌ صحيحٌ، وعندَه عنه: ((إنَّ لهذا الحَجَرِ لِسَانًا وَشَفتينِ يَشْهَدُ لِمَن اسْتَلمُهُ يَومَ القِيَامَةِ بحقٍّ))، وقال: حسنٌ والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وله شاهدٌ صحيحٌ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو مرفوعًا: ((يَأْتي الرُّكْنُ والمَقَامُ يومَ القيامةِ أَعْظَمُ مِنْ أَبِي قُبَيسٍ، لَهُ لِسَانٌ وَشَفتانِ، يُكلِّمُ عمَّنِ استلمَهُ بالنِّيَّةِ، وَهُو يَمِينُ اللهُ الَّتي يصافِحُ بها عِبَادَه))، قَالَ: وقد رُوِيَ لهذا الحديثِ شاهدٌ مفسِّرٌ غير أنَّه ليس مِنْ شرطهما، فذكره مِنْ حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، وذكرَ عَلَى شرطِ مسلمٍ مِنْ حديثِ جابرٍ: ((بَدَأَ بِالحَجَرِ فَاسْتلمَهُ، وَفَاضَتْ عَيْناهُ بالبُكَاءِ وقَبَّلَه ووَضَعَ يَدهُ عَلَيهِ، وَمَسحَ بهما وَجْهَهُ)).
          وفي «فضائلِ مكَّةَ» للجَنَديِّ مِنْ حديثِ ابنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبَّادِ بنِ جعفرٍ عَنِ ابن عبَّاسٍ: ((إنَّ هَذَا الرُّكنَ الأَسْودَ هُوَ يَمِينُ اللهِ في الأَرْضِ يُصافِحُ بهِ عِبَادَهُ مُصَافحةَ الرَّجُلِ أَخَاه))، ومِنْ حديث الحَكَمِ بنِ أَبَانَ عن عِكْرِمَةَ عنه زيادة: ((فمَنْ لم يدركْ بيعةَ رَسُولِ اللهِ صلعم ثُمَّ استلمَ الحجرَ فقد بايع اللهَ ورسولَه)).
          وللطَّبَرَانيِّ مِنْ حديث إبراهيمَ بنِ يزيدَ المكِّيِّ زيادة: ((مَا حَاذَى بهِ عبدٌ مُسْلمٌ يَسْألُ الله خَيرًا إلَّا أَعْطاهُ إيَّاهُ))، ومِنْ حديثِ مَعْمَرٍ عن رجلٍ عَنِ المِنْهالِ بنِ عَمْرٍو عن مجاهدٍ أنَّه قَالَ: ((يأتي الحَجَرُ والمقامُ يومَ القيامةِ كلُّ واحدٍ منهما مثل أُحُدٍ، فيناديان بأعلى صوتهما، يشهدان لِمَنْ وافاهما بالوفاء))، وعن أنسٍ رفعه: ((الرُّكنُ والصَّفَا يَاقُوتَتانِ مِنْ يَاقُوتِ الجنَّةِ)) قَالَ الحاكم: صحيحُ الإسنادِ.
          وعَنِ ابنِ عَمْرٍو مرفوعًا: ((الرُّكنُ والمَقَامُ يَاقُوتتانِ مِنْ يَاقُوتِ الجنَّةِ، طَمَسَ اللهُ نُورَهُما، وَلَولا ذَلِكَ لأَضَاءَ مَا بينَ المَشْرقِ والمَغْربِ)) ذكره شاهدًا، وأخرجَه البَيْهَقيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ بزيادة: ((وَلَولَا مَا مَسَّهما مِنْ خَطَايا بني آدم، ما مَسَّهما من ذي عَاهةٍ إلا شُفِي، وَمَا عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجنَّة غَيرُه))، وقَالَ ابنُ أبي حاتمٍ عن أبيه: وقفُهُ أشبه عَلَى عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو ورجاءِ بنِ صبيحٍ الَّذي رفعه ليس بقويٍّ.
          وعن عبدِ اللهِ بنِ السَّائِبِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم فيما بينَ ركن بني جُمَحٍ والرُّكن الأسود يقولُ: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))، قَالَ الحاكمُ: صحيحٌ عَلَى شرط مسلمٍ، وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ يرفعه كَانَ يدعو بينَ الرُّكنِ: ((ربِّ قنِّعني بِمَا رَزَقتَني، وَبَاركْ لي فِيهِ، واخلُفْ عَليَّ كلَّ غائبةٍ لي بخيرٍ)) وقال: صحيح الإسناد.
          وعن أبي هريرة يرفعه: ((وُكِّلَ بالحَجَرِ سَبْعُونَ ملَكًا فَمَن قَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قَالُوا: آمين))، ورواه ابنُ مَاجَهْ بإسنادٍ فيه: إسماعيلُ بنُ عيَّاشٍ بلفظ: ((مَن فَاوضَهُ _يعني الرُّكن الأَسْود_ فإنَّما يُفَاوِضُ يَدَ الرَّحمنِ)).
          وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا: ((مَا مَرَرتُ عَلَى الرُّكن إلَّا رَأَيْتُ عليه ملَكًا يقول: آمين، فإذا مَرَرْتُم عليه فقولوا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً...)) الحديثَ، ذكره ابنُ مردويه في «تفسيره»، وعَنِ ابنِ عُمَرَ: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم كَانَ إذا طافَ بالبيتِ مَسَحَ أو قَالَ: اسْتَلَمَ الحَجَرَ والرُّكْنَ في كلِّ طَوافٍ)) صحيح الإسناد، وعندَ الجَنَدِيِّ عن سعيدِ بنِ المُسيِّبِ: الرُّكنُ والمقامُ حجران مِنْ حجارةِ الجنَّةِ.
          وعَنِ ابنِ عُمَرَ: أنَّه ◙ أتى الحَجَرَ الأسودَ فاستلمَه، ووضعَ شفتيه عليه وبكى بكاءً طويلًا ثُمَّ التَفَتَ فإذا عُمَرُ يبكي خلفَه فقالَ: ((يَا أَبَا حَفْصٍ هَاهُنا تَسْكَبُ العَبَراتِ)) قَالَ الحاكم فيه: صحيح الإسناد وعنده _أعني الجَنَديَّ_ عن مجاهدٍ: الرُّكن مِنَ الجنَّة ولو لم يكن منها لفَنِي.
          وعن ابن عبَّاسٍ رفعه: ((لَوْلَا مَا طَبَع الله الرُّكْن مِنْ أَنْجاسِ الجاهليَّة وأوساخِها وأَيْدي الظَّلمةِ والأَثَمَةِ لاستُشفِي بهِ مِنْ كلِّ عَاهةٍ، ولَأَلْفاهُ اليومَ كَهَيئةِ يَومَ خَلَقَه اللهُ تعالى وإنَّما غيَّرَه اللهُ بالسَّوادِ، لئلَّا ينظر أهل الدُّنيا إلى زِينةِ الجنَّةِ، وإنَّهُ لَيَاقُوتةٌ مِنْ يَاقُوتِ الجنَّةِ بَيْضاءُ وَضَعَه لآدمَ حيثُ أَنْزلَهُ في مَوضعِ الكَعْبةِ قَبْلَ أَنْ تكونَ الكعبةُ والأَرْضُ يومئذٍ طاهرةٌ، لم يُعمل فِيْها بِشَيءٍ مِنَ المَعَاصِي، وَلَيس لَهَا أهلٌ ينجِّسونها، ووَضَع لها صفًّا مِنَ الملائكةِ عَلَى أطرافِ الحرمِ يحرسونهُ مِنْ جانِّ الأرضِ، وسكَّانُها يومئذٍ الجنُّ، ولَيَس يَنْبغي لهم أن ينظرُوا إليه لأنَّه شيءٌ مِنَ الجنَّةِ، ومَنْ نَظَرَ إلى الجنَّة دَخَلها، فهُمْ عَلَى أطراف الحرم حيثُ أعلامُه اليوم، مُحْدِقُون به مِنْ كلِّ جانبٍ بَيْنَه وَبَينَ الحَرَمِ))
          وللطَّبَرَانيِّ عن عائشةَ مرفوعًا: ((اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذَا الحَجَرِ الأَسْودِ قَبْلَ أَنْ يُرفع فإنَّه خَرَجَ مِنَ الجنَّةِ وإنَّهُ لا ينبغي لشيءٍ خَرجَ مِنْها ألَّا يَرْجعَ إَليْهَا قَبْل يَومِ القِيَامةِ)) ولأحمد عن عمرَ أنَّه ◙ قَالَ له: ((إنَّكَ رَجُلٌ قَويٌّ فلا تُزاحِمْ عَلَى الحَجَرِ فَتُؤذِي الضَّعِيف، إِنْ وَجَدتَ خَلَوةً فَاسْتلِمْهُ وإلَّا فَاسْتقبلْ وكبِّر وهلِّل)).
          وللدَّارَقُطْنيِّ عن عطاءٍ قَالَ: رَأَيْتُ أبا سعيدٍ وأبا هريرةَ وابنَ عُمَرَ وجابرًا إذا استلمُوا الحجرَ قبَّلُوا أيديهم، ولمسلمٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ يرفعه: ((يَسْتلمُ الرُّكْن بِمِحْجَنٍ، وَيُقَبِّلُ المِحْجَنَ)) وللطَّبَرَانيِّ: أنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ إذا استلمَ الرُّكنَ قَالَ: بسم الله والله أكبر، وعنده: مِنْ حديثِ / الحارثِ عن عليٍّ أنَّه كَانَ إذا استلمَ الحجرَ قَالَ: اللَّهمَّ إيمانًا بكَ وتصديقًا بكتابكَ وسُنَّة نبيِّكَ صلعم.
          إذا تقرَّرَ ذَلِكَ: فإنَّما قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ لأنَّ النَّاسَ كانُوا حديثِ عهدٍ بعبادة الأصنام فخشي عُمَرُ أن يَظنَّ الجهَّالُ أنَّ استلامَ الحجرِ هو مثل ما كانَتِ العربُ تفعله في الجاهليَّة فأراد أن يُعلَمَ أنَّ استلامه لا يقصد به إلَّا تعظيم الله تعالى والوقوف عند أمر نبيِّه إذ ذاك مِنْ شعائرِ الحجِّ الَّتي أمر الله تعالى بتعظيمها وأنَّ استلامَه مخالفٌ لفعلِ الجاهليَّةِ في عبادتهم الأصنام لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تقرِّبهم إلى اللهِ زُلفَى، فنبَّه عُمَرُ على مجانبةِ هذا الاعتقاد وأنَّه لا ينبغي أن يُعبَدَ إلَّا مَنْ ملكَ الضَّرَّ والنَّفعَ وهو اللهُ تعالى، وقد قال عليٌّ: إنَّه يضرُّ وينفعُ فإنَّ الله لَمَّا أخذ العهد على الذُّرِّيَّة كَتَبَه في رَقٍّ وكان لهذا الحجرِ عينان ولسانٌ، فقالَ له: افتح، ففتح فاه فألقمه ذلك الرَّقَّ، فقال: اشهد لِمَنْ وافاك بالموافاة يوم القيامة، أخرجه الحاكمُ مِنْ حديث أبي سعيدٍ شاهدًا.
          وقال المُهَلَّبُ: حديث عُمَرَ هذا يردُّ قولَ مَنْ قال: إنَّ الحجرَ يمينُ اللهِ في الأرض يصافح بها عباده ومَعَاذَ الله أن يكون لله جارحةٌ مجسَّمةٌ، وإنَّما شَرَعَ النَّبيُّ صلعم تقبيلَه على ما كانت شريعةُ إبراهيمَ مع أنَّ معناه التَّذَلُّل والخضوع والائتمار بما أمرَ به على لسانِ نبيٍّ مِنْ أنبيائِه وليعلم عيانًا ومشاهدةً طاعةَ مَنْ أطاع أمره وعصيان مَنْ أبى امتثاله وهي شبيهةٌ بقصَّةِ إبليس فيما أُمِرَ به مِنَ السُّجُودِ لآدمَ اختبارًا له، وقد تقدَّم ما أنكرَه عَنِ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ بإسنادٍ جيِّدٍ، وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ أيضًا: أنَّ استلامَ الحجرِ مبايعةُ الله ╡.
          وقالَ ابنُ الجَوزِيِّ: السُّنَنُ تُتَّبَعُ وإن لم تُفهَمْ معانيها كما قال عُمَرُ: (لَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ)، وليزيلَ بذلك الوهمَ الَّذي ترتبَ في أذهانِ الجاهليَّةِ، وتحقيق عدم الانتفاع بالأحجار مِنْ حيثُ هي.
          قال القُرْطُبيُّ: وفيه دَفْعُ ما وقعَ لبعضِ الجُهَّالِ مِنْ أنَّ للحجر الأسود خاصِّيَّةٌ تَرجِعُ إلى ذاته كما توهَّمَه بعض الباطنيَّة، وذلك أنَّ أبا طاهرٍ القرمطيَّ قال بسُوءِ رأيه: هذا الحجرُ مغنطيسُ بني آدم فقَلَعَهَ وقَلَعَ البابَ وأصعدَ رَجُلًا مِنْ أصحابِه ليَقْلَعَ الميزابَ فتردَّى على رأسِه إلى جهنَّم وبئس المآب، وأخذ أسلابَ مكَّةَ والحاجَّ وألقى القتلى في بئر زمزم فهلكَ تحت الحجرِ مِنْ مكَّةَ إلى الكوفةِ أربعون جملًا، فعلَّقه _لعنه الله_ على الأسطوانةِ السَّابعةِ مِنْ جامعِ الكوفةِ مِنَ الجانبِ الغربيِّ ظنًّا منه أنَّ الحجَّ ينتقلُ إلى الكوفةِ، قال ابنُ دِحيَةَ: ثُمَّ حَمَلَ الحجرَ إلى هجرٍ سنةَ سبعَ عشرةَ وثلاثمئةٍ، وبقي عندَ القَرامِطَةِ اثنتين وعشرين سنةً إلَّا شهرًا، ثُمَّ رُدَّ لخمسٍ خلونَ مِنْ ذي الحجِّةِ سنةَ تسعٍ وثلاثين وثلاثمئةٍ، وكان بجكمُ التُّركيُّ بذل له في ردِّه خمسين ألف دينارٍ فما فعلوا، وقالوا: أخذناه بأمرٍ ولا نردُّه إلَّا بأمرٍ.
          وقيلَ: إنَّ القِرمِطِيَّ باع الحَجَرَ مِنَ الخليفةِ المقتدرِ بثلاثين ألف دينارٍ، ولَمَّا أرادَ أن يسلِّمَه إلى الرَّسُولِ أحضر أهلَ الكوفةِ وقال: اشهدُوا أنَّهم تسلَّمُوا الحجرَ الأسودَ فشَهِدُوا، فقال لهم بعد الشَّهادة: يا مَنْ لا عقلَ لهم مِنْ أينَ لكم أنَّ هذا هو الحجرُ الأسودُ ولعلَّنا أحضرنا حجرًا أسودَ مِنْ هذه البرِّيَّةِ عِوَضَه، فسكت النَّاسُ وكان فيهم عبدُ اللهِ بنُ عُكَيمٍ المحدِّثُ فقال: لنا في الحجرِ الأسودِ علامةٌ فإن كانت موجودةً فهو هو، وإن كانت معدومةً فليس هو إيَّاه، ثُمَّ رفعَ حديثًا غريبًا: أنَّ الحجرَ الأسودَ يطفو على الماءِ ولا يسخنُ بالنَّارِ إذا أُوقِدَتْ عليه، فأحضر القِرمِطيُّ طِسْتًا فيه ماءٌ ووضعَ الحجرَ فيه فطفا على الماءِ، ثُمَّ أُوقِدَت عليه النَّارُ فلم يحم منها، فمدَّ عبدُ اللهِ المحدِّثُ يدَه وأخذَ الحجرَ وقَبَّلَه وقال: أشهدُ أنَّه الحجرُ الأسودُ، فتَعَجَّبَ القِرمِطيُّ مِنْ ذلك وقال: هذا دينٌ مضبوطٌ بالنَّقل، وأرسلَ الحجرَ إلى مكَّةَ على قَعُودٍ أعجفَ فَسَمِنَ تحتَه وزادَ جسمُه إلى مكَّةَ.
          واعترضَ ابنُ دِحْيَةَ فقالَ: عبدُ اللهِ هذا لا يُعرَفُ، والحجرُ الأسودُ صَلْدٌ لا تخلخلَ فيه، والَّذي يطفو على الماء يكون فيه بعض التَّخلخلِ كالخفَّاف وشبهه.
          وللحجرِ الأسودِ علاماتٌ غير ذلك، وما أخذَ إلَّا بعدَ الكسرِ الَّذي فيه، وعرضُه وطولُه معلومٌ عندَ جميعِ مَنْ أَلَّفَ في أخبارِ مكَّةَ ولا يمكنُ التَّدليسُ فيه، والنُّقطَةُ البيضاءُ الَّتي فيه مِنْ أكبرِ العلاماتِ، وذكرنا هذه الحكايةَ ليُعلَمَ سقمُها وكم مرَّةً أزيلَ عن موضعِه، ثُمَّ ردَّه اللهُ إليه، فَعَلَتْ ذلك جُرهمُ وإيادُ والعماليقُ وخُزَاعَةُ ومَنْ سخطَ اللهُ عليه، وقيل: إنَّه أقام عند القرامطة ثمانيًا وعشرين سنةً.
          فائدةٌ: كره مالكٌ السُّجودَ على الحَجَرِ الأسودِ وقال: إنَّه بدعةٌ، وكأنَّه لم يطَّلع على النَّص السَّالف والجمهورُ على استحبابه.
          فائدةٌ ثانيةٌ: فُضِّلَ الحجرُ الأسودُ على سائر الحجارة كما فُضِّلَتْ بقعتُه على سائر البقاعِ، قالَ الأَزهَريُّ: وارتفاعُه مِنَ الأرضِ ثلاثة أذرعٍ إلَّا سبعَ أصابع.
          ثالثةٌ: في قولِ عُمَرَ تسلُّم الحُكْمِ في أمورِ الدِّين وحُسْنُ الاتِّباعِ فيما لم يُكشف مِنْ معانيها.
          رابعةٌ: قال مالكٌ إذا استقبلَ الرَّكنَ حمدَ اللهَ وكبَّرَ، وقيلَ: أيرفع يدَهُ عنده؟ قال: ما سمعت، ولا عند رؤية البيتِ، وقال مكحولٌ: كانَ النَّبيُّ صلعم إذا رأى البيتَ رفعَ يديه وقال: اللَّهمَّ زدْ هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا ومهابةً، وزدْ مَنْ شرَّفه وعظَّمه ممَّن حجَّ إليه واعتمرَ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا، ويُقَالُ عند استلامِ الرُّكنِ: بسم الله والله أكبر، اللَّهمَّ إيمانًا بك وتصديقًا بما جاء به نبيُّكَ.
          فرعٌ: إذا لم يستطعِ التَّقبِيلَ أشارَ بيدِه أو بمِحْجَنٍ ووضعَه على فيهِ، وفي تقبيلِه روايتانِ للمالكيَّةِ. /