التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الخطبة أيام منى

          ░132▒ بَابُ: الخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى.
          ذَكر فيه أربعةَ أحاديثَ:
          1739- أحدها حديث ابن عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم خَطَبَ النَّاسَ يوم النَّحْرِ فَقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَومٍ هَذَا؟ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا...) الحديث.
          1740- ثانيها: حديثه أيضًا: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ، تَابَعَهُ _يعني شُعْبَةَ_ ابنُ عُيَينَةَ، عن عَمْرِو بن دينارٍ.
          1741- ثالثها: حديث أبي بَكْرَةَ: (خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلعم يوم النَّحْرِ...) الحديث بطوله.
          1742- رابعها: حديثُ ابن عمرَ قال: (قَالَ النَّبِيُّ صلعم بِمِنًى: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَومٍ هَذَا...) الحديث.
          وقال هِشَامُ بْنُ الغَازِ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابن عمرَ: (وقَفَ النَّبِيُّ صلعم يَوْمَ النَّحْرِ...) الحديث.
          الشَّرْحُ: هذه الأحاديث يُصدِّقُ بعضُها بعضًا إلَّا أنَّ حديث ابن عَبَّاسٍ بعرفاتٍ لا بمِنًى، فلا مدخلَ له هنا، ورواه ابنُ ماجَهْ مِنْ حَدِيثِ سفيانَ بن عُيَيْنةَ عن عمرٍو عن جابرٍ، عنهُ قال: ((سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ))، ولما أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طريق أبي عمرِو بن دينارٍ لم يذكر واحدٌ مِنْهُم: يخطب بعرفاتٍ، غيرَ شُعْبَة.
          وقوله: (قَالَ هِشَامُ..) إلى آخره، أسنده أبو داودَ، حَدَّثَنَا المؤمَّل بن الفَضْل، عن الوليدِ بن مسلمٍ عن هشامٍ به، وأجاب ابن المنيِّر بأنَّه سَاقَها ليردَّ على منكِر خطبة يوم النَّحْرِ، فإنَّ الرَّاويَ سمَّاها خطبةً كمَا سمَّى التَّذكرةَ يوم عَرَفَة خطبةً، وقد اتَّفقوا على خطبة عَرَفَة، فألحقَ المختلَفَ فيه بالمتَّفَقِ عليه، أو يكون لَمَّا ذَكَرَ حديثَ ابن عَبَّاسٍ في يوم النَّحْرِ أراد أن يذكُر أيضًا أنَّه رَوى خطبةَ يومِ عَرَفَة لئلَّا يتوهَّم متوهِّمٌ أنَّهما حديثٌ واحدٌ.
          وفِي حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ لمَّا سألهم: (أَيُّ يَومٍ هَذَا؟ قالوا: يَومٌ حَرَامٌ) وكذا أجابوه في البلد والشَّهر.
          وفي حديث أبي بَكْرَةَ فيها كلِّها: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فيحتمل أن يكون ذلك في موطنَين.
          وقوله: (أَيُّ يَومٍ؟ وَأَيُّ بَلَدٍ؟ وَأَيُّ شَهْرٍ؟) خرج مَخرَجَ الاستفهام، والمراد به التَّقريرُ لأنَّه أبلغ، وأتى فيها على معالم الدِّين كلِّها فيسمع الحاضر، ويبلَّغ الغائب، لتقومَ الحُجَّة وتنقطعَ المحَجَّة، وكرَّر تأكيدًا، ومثَّل باليوم، وبالشَّهر، وبالبلد، ليؤكِّد تحريم ما حرُم مِنَ الدِّماء والأموال والأعراض.
          و(ذُو الحَجَّةِ): فتح حَائه أَشهَر، والعِرْضُ ما يحميه الإنسان ويلزمُه القيام به، قاله أبو عمرٍو، وقال الأصْمَعِيُّ: هو ما يُمدح به ويُذمُّ، وهو في قول حسَّان:
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضي                     لعِرضِ محمَّدٍ مِنْكم وِقاءُ
          فقال ابن قُتَيبةَ: نفسُه، ورُدَّ عليه بأنَّ المراد آباؤه، ذَكَر العمومَ بعد الخصوص، وقال ابنُ التِّينِ في حَجَّة الوَداع: قيل العِرض: الحَسَبُ، وقِيلَ: النَّفْسُ.
          وقوله: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا) أي لا يستحلَّ بعضُكم مِنْ بعضٍ ما استحلَّ الكفَّار، قاله الدَّاوُدِيُّ، وقال أبو منصورٍ: فيه قولان:
          أحدُهما: لابسين السِّلاح، والكَفْر السَّتْر.
          والثَّانِي: أنَّه يُكَفِّر النَّاسَ فيَكْفُر كما تفعل الخوارجُ إذا استعرضوا النَّاس لقوله ◙: ((مَنْ قال لأخيه: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا)) ذكره الهَرَوِيُّ، ويحتمل كفَّارًا بغير حقٍّ، أو كُفر النِّعمة، أو حقيقةً، أو يقرب مِنْهُ، أو / للتَّشبيه بهم، وقِيلَ: هم أهل الرِّدة قتَلَهم الصِّدِّيقُ.
          ومعنى: (بَعْدِي) أي وفاتي أو فراقي مِنْ موقفي، أو خلافي فتخلفوني في أنفسكم بغير الَّذِي أمرتكم به.
          وقوله: (يَضْرِبُ) الرِّواية برفع الباء، وضبطه بعضُهم بسكونها، أي أن ترجعوا بعدي.
          وقوله: (أَلَيسَتْ بِالبَلْدَةِ) يريد البلدة المحرَّمة، ويُقال: البلدة اسمٌ خاصٌّ لمَكَّةَ وقد سلف أسماؤها [خ¦1587].
          وقوله: (هَلْ بَلَّغْتُ؟) سُمِّيَت حَجَّة البلاغ مِنْ أجل ذلك.
          وقوله: (هذا يَومُ الحَجِّ الأكْبَرِ) فيه دِلالةٌ واضحةٌ أنَّه يوم النَّحْرِ، وقد سلف ذكر ذلك [خ¦1622]، وقد أسلفنا فيما مضى خُطَبَ الحجِّ [خ¦1660]، وأنَّ مالكًا قال إنَّها ثلاثةٌ: يومَ التَّروية، ويومَ عَرَفَة، وثانيَ يومِ النَّحْرِ، وهو يوم القَرِّ لأنَّ النَّاس يَقِرُّون فيه بمِنًى، وهو قول أبي حنيفةَ وأصحابِه ووافقهم الشَّافعيُّ، إلَّا أنَّه أبدل ثانيَ النَّحر بثالثه، وزاد خطبةَ يوم النَّحْرِ بعد الزَّوال، يُعلِّمُهم فيها حُكمَ الرَّمي والمبيتِ والنَّحر، واحتجَّ الشَّافعيُّ لخُطبة يوم النَّحْرِ بأحاديث الباب، قال: وبالنَّاس حاجةٌ إلى هذه الخطبةِ، ليُعَلِّمهم أعمالَ اليوم مِنَ الرَّمي والذَّبح والحلق والطَّواف.
          وقال ابنُ القَصَّار: إِنَّمَا فعل ذلك لأجل تبليغ ما ذُكر، لكثرة اجتماعهم مِنْ أقاصي الدُّنيا فظنَّ أنَّه خَطب.
          قلتُ: وأيُّ خطبةٍ أبلغُ مِنْ هذه؟ وادَّعى الطَّحَاوِيُّ أنَّ هذه الخُطبةَ لم تكن مِنْ أسباب الحجِّ لأنَّه ذَكر فيها أمورًا لا يصلح لأحدٍ بعدَه ذِكْرُها، والخُطبةُ إِنَّمَا هي لتعليم الحجِّ، ولم يَنقل أحدٌ عنهُ أنَّه علَّمهم يوم النَّحْرِ شيئًا مِنْ سُنن الحجِّ، فعلِمْنا أنَّ خُطبة يوم النَّحْرِ لم تكن للحجِّ، وإِنَّمَا كَانَت لما سِواه، وهو عجيبٌ! فإنَّه ◙ نَبَّه على عِظم اليوم، وهو مِنْ مُهمَّات الحجِّ.
          وفيه إشعارٌ أنَّ المَناسك الَّتِي تُفعل فيه مِنَ المهمَّات كالرَّمي والإفاضة وغير ذلك مِنْ تمام الحجِّ.
          قال ابنُ القصَّار: وقوله يحتاج أن يعلِّمهم النَّحر، وقد تقدَّم تعليمُهم في خُطبة عَرَفَة وأعلَمَهُم بما عليهم فيه وكَانَت خُطَبُهُ ثلاثًا، كلُّ خطبةٍ ليومين.
          قالوا: والخُطبة الَّتِي ذكرها الشَّافعيُّ يمكن تعلُّمُ حكمِها ممَّا قبلَها، قال ابنُ المَوَّاز: وكلُّها لا يجلس فيها إلَّا عَرَفَة فيجلس في وسَطها، ولا يجهر بالقراءة في شيء مِنْ صلواتها.
          وفيه حرمةُ الدِّماء والأعراض والأموال، وإِنَّمَا وجَّه الخطابَ لهم إذْ كَانُوا أهلَ ملَّةٍ واحدةٍ، ونظيرُه: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النِّسَاء:29] فالأخوَّة واحدةٌ.
          وفيه أنَّ مستحِلَّ المال كمستحلِّ الدَّم ومستحلَّ العِرض كمستحلِّ المال، وفي الخبر: ((حُرْمَةُ مَالِ المسلم كَحُرْمَةِ دَمِهِ))، ولا يَرِدُ قُطَّاعُ الطَّريق والخوارجُ ومَنْ يجب قتلُه بحدٍّ لزمَهُ، فإنَّ دمَهُ يحِلُّ دون مالِه لأنَّ ذلك عقوبةٌ لجُرمِه دون مالِه، كما أمر بعقوبةِ آخر في ماله دون بدنه، وهذا بحقٍّ.