التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ركوب البدن

          ░103▒ باب: رُكُوبِ البُدْنِ.
          لِقوله تعالى: {والْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} إلى قوله: {وبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36-37]، وقال مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ البُدْنَ لِبُدْنِهَا، {الْقَانِعَ} السَّائِلُ، و{الْمُعْتَرَّ} الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدنِ مِنْ غَنِيٍّ أَو فَقِيرٍ، و{شَعَائِرِ اللهِ} اسْتِعْظَامُ البُدْنِ واسْتِحْسَانُهَا، و{الْعَتِيقِ} عِتْقُهُ مِنَ الجَبَابِرَة، يُقال: {وجَبَتْ} سَقَطَت إِلَى الأرْضِ، ومِنْهُ وجَبَتِ الشَّمْسُ.
          1689- ثمَّ ذَكَرَ حديثَ أبي هُرَيرَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم رَأى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقال: ارْكَبْهَا، فَقال: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قال: اركَبْهَا، قال: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قال: ارْكَبْهَا ويلَكَ، في الثَّانِيةِ أَو الثَّالِثَةِ).
          1690- وحَدِيثَ أَنَسٍ: (أَنَ النَّبِيَّ صلعم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقال: ارْكَبْهَا، فَقال: إنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقال: ارْكَبَهَا، قال: إِنَّهَا بَدَنةٌ، قال: ارْكَبْهَا، ثَلَاثًا).
          الشَّرْحُ: (البَدَنَة) سلف الكلامُ عليها في الجمعة [خ¦881]، و{البُدْنَ} بإسكَانَ الدَّالِ، وقرِئَ بضَمِّها، سُمِّيَت لبَدانَتِها، أي لسِمَنِهَا، وقد ذَكَرَ البخاريُّ قولَ مُجَاهِد في ذَلِكَ، ويُقال: بَدُنَ _بضمِّ الدَّال_ وبَدَّنَ _بالتَّشديدِ_ إذا أَسنَّ، قال الدَّاوُدِيُّ: قِيل: إنَّ البَدَنَةَ تكُونُ مِنَ البَقَرِ، وهذا نُقِلَ عنِ الخَلِيلِ.
          {لَكُمْ فيها خَيرٌ} [الحج:36]. تُركَب إذا احتاج إليه.
          و{الْقَانِعَ} السَّائلُ في قولِ ابنِ عَبَّاسٍ وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ والحَسَنِ، قالوا: بِخِلَافِ {الْمُعْتَرَّ} الَّذِي يتعرَّضُ ولا يَسْألُ، وقال مَالِكٌ: أحسَنُ ما سَمعتُ فيه أنَّ {الْقَانِعَ} الفَقِيرُ، و{الْمُعْتَرَّ} الدَّائرُ، وقِيلَ: {الْقَانِعَ} السائلُ الَّذِي لا يَقنَعُ بالقَليلِ، وقرأ أبو رجاءٍ: القَنِعَ، وهو مُخالِفٌ للأوَّل، يُقال: قنِعَ إذا رَضِيَ، وبفتحِ النُّونِ إذا سأل، وقرأ الحَسَنُ: والمُعْتَرِي، ومعناه مِثْلُ {الْمُعْتَرَّ}، يُقال: اعترَّه واعتراه، وعرَّه وعراه، إذا تعرَّض لما عنده أو طلبه.
          وعبارة صاحب «العين»: القنوع التذلُّل للمسألة، إبراهيم قنع إليه: مال وخضع، وعنهُ القانعُ خادم القوم وأجِيرُهم، وقال الزجَّاج: {الْقَانِعَ} الَّذِي يقنع بما تعطيه، وقِيلَ: الَّذِي يقنع باليسير، وقال قُطْرُب: كَانَ الحَسَن يَقُولُ: هو السَّائل الَّذِي يقنع بما آتيته، ويصير القانع مِنْ معنى القناعة والرِّضا.
          وقوله {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا} [الحج:37]. يُرْوى عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهم كَانُوا في الجَاهِلِيَّة يضحُّون بدماء البُدن ما حول البيت فأراد المسلمونَ فعلَ ذلك فأنزلها الله تعالى.
          وقوله {ولَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ} [الحج:37]، أي ما أُرِيدَ به وجْهُ اللهِ. والشَّعَائِرُ تَقدَّمَت، و{الْعَتِيق} عِتْقُهُ مِنَ الجَبَابِرَةِ، كما ذَكَرَهُ البخاريُّ، وقد رُوِيَ ذَلِكَ مرفوعًا بزيادَةِ: ((فلم يغلب عليه جبَّارٌ قَطُّ))، وقال الحَسَنُ: لِقِدَمِهِ، وحُجَّتُه {إنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ}الآية [آل عمران:96]، و{وجَبَتْ} كما ذكر.
          وحَديثُ أبي هُرَيرَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ولفْظُه: ((فَقال: ارْكَبْهَا في الثَّانِيةِ أَو الثَّالِثَةِ))، وفي لفْظٍ لَه: ((يَسُوقُ بَدَنَةً مُقَلَّدَةً قال لَهُ رسولُ اللهِ صلعم: ارْكَبْهَا، فَقال: بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ويلَكَ ارْكَبْهَا، ثَلَاثًا)). ولِلْبخاريِّ في بابِ: تَقليدِ النَّعْلِ قريبًا: ((قال: ارْكَبْهَا، قال: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قال: ارْكَبْهَا، قال: فَلَقَدْ رَأَيتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِر النَّبِيَّ صلعم والنَّعْلُ في عُنُقِهَا))، وحديثُ أَنسٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أيضًا بلفظِ: ((ارْكَبْهَا. مَرَّتَينِ أَو ثَلَاثًا))، وفي روايةٍ لِلْبخاريِّ: ((ارْكَبْهَا ويلَكَ، قالها في الثَّانِيةِ أَو في الثَّالِثَةِ)).
          ولمسلمٍ: ((مُرَّ عليه بِبَدَنَةٍ أَو هَدِيَّةٍ، فَقال: ارْكَبْهَا، قال: إِنَّهَا بَدَنَةٌ أَو هَدِيَّةٌ، فَقال: وإِنْ)) ولأحمد: ((يَسُوقُ بَدَنَةً وقَدْ جَهَدَهُ الْمَشْيُ))، وفيه قال: ((ارْكَبْهَا وإنَّها بَدَنَة))، وانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بحديثِ ابنِ الزُّبَيرِ قال: سمعْتُ جابِرَ بْنَ عبدِ اللهِ يَسأَلُ عن رُكوبِ الهَدْيِ، فقال: سمعْتُ رسولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: ((ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ، إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيهَا حتَّى تَجِدَ ظَهْرًا))، ولأحمد مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ سُئِلَ: ((يَرْكَبُ الرَّجُلُ هَدْيَهُ؟ قال: لَا بَأْسَ بِهِ، قَدْ كَانَ رسولُ اللهِ صلعم يَمُرُّ بِالرِّجَال يَمْشُونَ، فَيَأْمُرُهُمْ بِرُكوبِ هَدْيِهِم، ثمَّ قال: ولَا تَتَّبِعُونَ شَيئًا أَفْضَلَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكُمْ)).
          وفي «مَراسِيلِ أبي دوادَ» مِنْ حَدِيثِ ابنِ جُرَيجٍ عن عَطاءٍ قال: ((كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَأْمُرُ بِالبَدَنَة إِذَا احْتَاجَ إِلَيهَا سَيِّدُهَا أَنْ يُحْمَلَ عليها ويَرْكَبَ غَيرَ مَنْهُوكَةٍ، قُلْتُ: مَاذَا؟ قال: الرَّجُلُ الرَّاجِل والْمُتَّبِع اليَسِير، وإِنْ نُتِجَتْ حُمِلَ عليها ولَدُهَا وعَدْلُهُ)). /
          إذا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، ففيه استعمالُ ما وُجِّه للهِ تعالى إذا احتِيجَ إليه على خِلافِ ما كَانَتِ الجَاهِلِيَّةُ عليه مِنْ أَمْرِ البَحِيرَةِ والسَّائِبَةِ والوصِيلَةِ والحام، فأعلَمَ الشَّارعُ أنَّ ما أُهِلَّ به لله إِنَّمَا هو دِماؤُها، وأَمَّا لُحومُها والانتِفاعُ بها قَبْلَ نَحْرِها وبَعدَه فغَيرُ مَمْنُوعٍ، بَلْ هو مُباحٌ بِخِلَافِ سُنَنِ الجَاهِلِيَّةِ.
          وقدِ اختَلف العلماءُ في رُكُوبِ الهَدْيِ الواجِبِ والتَّطوُّعِ، فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلى أنَّ ذَلِكَ جائزٌ مِنْ غَيرِ ضَرُورَةٍ، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ، وبعضُهم أوجَبَ ذَلِكَ، واحتَجَّ بحَديثَي البابِ، وكَرِهَ مَالِكٌ وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ وأكثرُ الفُقَهاءِ _فيما حَكَاهُ صاحِبُ «الاسْتِذْكَار» _ رُكوبَها مِنْ غَيرِ ضَرُورَةٍ، وكَرِهوا شُرْبَ لَبَنِ النَّاقَةِ بعْدَ رِيِّ فَصِيلِها، وقال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ: إنْ نقَصَها الرُّكوبُ والشُّربُ فعليه قيمةُ ذلك، واحتجُّوا أنَّ ما أُخرِجَ لله فغَيرُ جائزٍ الرُّجوعُ في شيءٍ مِنْهُ والانتفاعُ به إلَّا عندَ الضَّرورةِ.
          ورُكوبُها يحتمل أنْ يَكونَ لِغيرِ ضَرورةٍ، وأنْ يكونَ لها، وروايةُ جابِرٍ السَّالِفةُ تَشْهَدُ له، وكذا روايةُ أحمدَ: ((وقَدْ جَهَدَهُ الْمَشْيُ))، فأباح ركوبَها لِلضَّرورةِ، وقد روى نافِعٌ عَنِ ابنِ عمر أنَّه كَانَ يَقُولُ في الرَّجُلِ إذا سَاقَ بَدَنة وأَعْيا ركِبَها: وما أنتم بمُسْتَنِّينَ سنَّةً هي أهدى مِنْ سُنَّةِ مُحمَّدٍ صلعم، وكما لا يجوزُ بَيعُ منافعها إجماعًا.
          وقد قال مُجَاهِدٌ في قوله تعالى: {لَكُمْ فيها مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج:33]، قال: في ظهورِها وألبانِها وأصوافِها وأوبارِها حتَّى تَصيرَ بُدْنًا، وبه قال النَّخَعِيُّ وعُرْوةُ، واختُلفَ متى ذلك؟ فقال عُرْوةُ: بعْدَ أنْ يُقلِّدَها، وقال مُجَاهِدٌ: قبْلَه، وهو أَولَى لأنَّ الأجَلَ المُسَمَّى أنْ يُقلَّدَ ولم يُوجد، وقال ابنُ القَاسِمِ: فإنْ رَكِبَها مُحتاجًا فَلَيسَ عليه أنْ يَنزِلَ إذا استراحَ، وقال إسماعِيلُ: مَذْهَبُ مَالِكٍ يدُلُّ على أنَّه إذا استراحَ نَزَلَ، وبه قال ابنُ الجَلَّابِ، وإذا نزَلَ لحاجَتِه أو لِلَيلٍ لم يَركَبْها حتَّى يَحتاجَ إلى ذَلِكَ كأوَّلِ مَرَّةٍ، وعن بعْضِ الشَّافعيَّةِ والحنفيَّةِ فيما حَكَاهُ ابنُ التِّينِ إنْ نقَصَها رُكوبُه ضَمِنَ النُّقْصانَ إنْ رَكِبَ ركوبًا فادحًا.
          وقوله: (ويلَكَ) مَخرَجُه مَخرَجُ الدُّعاءِ عليه مِنْ غيرِ قصْدٍ إذْ أبى مِنْ رُكُوبها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وقال له: (إِنَّهَا بَدَنَةٌ) وكَانَ صلعم يَعْلَمُ ذَلِكَ، فخَافَ ألَّا يكونَ عَلِمَه، وكَأنَّه قال: لكَ الويلُ في مُراجَعَتِكَ إيَّايَ فيما لا تَعرِفُ وأَعرفُ، وفي روايةٍ: ((ويحَكَ)) ذَكَرَها ابنُ التِّينِ، وكَانَ الأصْمَعِيُّ يَقُولُ: ويل كَلِمَةُ عَذابٍ، وويح كَلِمَةُ رَحْمةٍ، وقال سِيبَويهِ: ويح زَجْرٌ لِمَنْ أَشْرَفَ على هَلَكَةٍ، وفِي الحَدِيثِ أنَّه وادٍ في جَهَنَّمَ.
          فَرْعٌ: يجوزُ إهداءُ الذَّكَرِ والأنثى مِنَ الإِبِلِ، وهو مَذهَبُنا، وقولُ جماعةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، ونَقَلَ ابنُ التِّينِ عَنِ الشَّافعيِّ أنَّه قال: لا يُهدَى إلَّا الإِناثُ، ثمَّ قال: دَليلُنا ما رواه في «مُوطَّئِه» عن نافعٍ عن عبدِ اللِه بنِ أبي بكر: ((أنَّهُ ◙ أَهْدَى جَمَلًا، كَانَ لأبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ))، ثمَّ قال: وهذا نَصٌّ في مَحَلِّ النِّزاعِ، ولا يُسَلَّمُ له ذلك، ومِنْ جِهةِ القِياسِ أنَّ الهَدْيَ جِهةٌ مِنْ جِهاتِ القُرَبِ، فلم تَختصَّ بالذُّكورِ كالضَّحايا والزَّكاةِ والعِتْقِ والكَفَّاراتِ.
          فَرْعٌ: فيه مِنَ العِلمِ تَكريرُ العالِمِ الفَتوى، وتَوبيخُ مَنْ لا يأتمرُ بها، وقوله: (ارْكَبْهَا ويلَكَ في الثَّانِيةِ، أَوِ الثَّالِثَةِ) يحتمل أنْ يريدَ في الثَّانِية مِنْ قوله: (ارْكَبْهَا) ابتداءً، فيَقُولُ له ذلك زجْرًا عن مُراجَعتِه عن أمرٍ قدْ كَانَ له في التَّعليقِ بما أَمرَه به، وحمْلُه على عُمُومِه في الأحوال سَعَةٌ، ويحتمل أنْ يريدَ الثَّانِية مِنْ جَوابِه له عن قوله: (إِنَّهَا بَدَنَةٌ)، فيكونَ في ذلك زجْرٌ عن تكريرِ سؤالِه عن أمْرٍ قدْ بيَّنَه، ولم يُقيِّدْ أمرَه برُكوبِها بحالِ الإعياءِ دونَ حالِ الإراحةِ، ولا قال له: فإذا اسْتَطَعْتَ المشيَ فانزِل، فاقتَضَى ذلك استِدامَةَ رُكوبِها، وإنْ زالَ تعبُه كما سلف.
          فَرْعٌ: بوَّبَ البخاريُّ عليه أنَّ مَنْ حبس شيئًا يَنتفِع به، وأنكره الدَّاوُدِيُّ عليه، وقال إِنَّمَا جعلها لله إذا بَلَغت مَحِلَّها، وفيه نَظَرٌ.