التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب السير إذا دفع من عرفة

          ░92▒ بابُ السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَة.
          1666- ذَكَرَ فيهِ عن أسامةَ أنَّه سُئِلَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: (كَانَ يَسِيرُ العَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ) قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فوقَ العَنَقِ.
          {فَجْوَةٍ} [الكهف:17]: مُتِّسَعٌ، وَالجَمْعُ فَجَوَاتٌ وفِجَاءٌ، وَكَذَلِكَ رَكْوَةً وَرِكَاءٌ، {مَنَاصٍ} [ص:3] لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ.
          الشَّرح: هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ أيضًا والأربعةُ خلا التِّرْمِذِيَّ / ويأتي في الجهاد [خ¦2999] والمغازي [خ¦4413].
          والعَنَقُ _بفتح العين المهملة والنُّون_ سيرٌ فوق المشي أو أدنى المشي أو أوَّلُه، أو المشي السَّريع الَّذي يتحرَّكُ فيه عُنُقُ البعيرِ، أو سيرٌ سهلٌ دون الإسراعِ، أقوالٌ متقاربةٌ.
          والفجْوَةُ _بفتح الفاءِ وحُكِيَ ضمُّها_ الفُرجَةُ السِّعةُ، ومنه قولُه تعالى: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف:17] وقيل: ما اتَّسعَ منها وانخفضَ، حكاه ابنُ سِيدَهْ.
          والنَّصُّ: أرفعُ السَّيرِ، ومنه قيل لمنصَّةِ العروسِ منصَّةٌ لارتفاعها، فإذا ارتفعَ عن ذَلِكَ وصار إلى العَدْوِ فهو الخَبَبُ، فإذا ارتفعَ عن ذَلِكَ فهو الوَضْعُ والإيضاع، وقال أبو عُبَيدٍ: النَّصُّ أصله منتهى الأشياءِ وغايتُها ومبلغ أقصاها، ومنه حديث عليٍّ: إذا بلغ النِّساءُ نَصَّ الحِقَاقِ فالعَصَبَةُ أَوْلَى، ونصُّ الحِقَاقِ: غايةُ البلوغِ.
          وقال ابنُ المباركِ: هو بلوغُ العقلِ، وقال ابنُ أبي خالدٍ في كتابه «الاحتفال»: النَّصُّ والنَّصيصُ: السَّيرُ، أن تُسار الدَّابَّةُ أو البعيرُ سيرًا شديدًا، حَتَّى يستخرجَ أقصى ما عنده، والحاصل أنَّهما ضربان مِنَ السَّيرِ.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فتعجيل الدَّفع مِنْ عرفةَ إنَّما هو لضيق الوقت لأنَّهم إنَّما يدفعون مِنْ عرفةَ إلى المُزْدَلِفةِ عند سقوط الشَّمس، ومِنْ عرفةَ إلى مُزْدَلِفةَ نحو ثلاثة أميالٍ، وعليهم أن يجمعوا المغرب والعشاء بالمُزْدَلِفةِ، وذَلِكَ سببها، فتعجَّلوا السَّيرَ لاستعجالِ الصَّلاةِ.
          قَالَ الطَّبَرِيُّ: وبهذا قَالَ العلماءُ في صِفَةِ سَيْرِهِ ◙ مِنْ عرفةَ إلى المُزْدَلِفَةِ ومنها إلى منًى، وبذلك عمل السَّلفُ، قَالَ الأسودُ: شَهِدْتُ مع عُمَرَ الإفاضتين جميعًا، لا يزيد عَلَى العَنَقِ، لم يوضِع في واحدةٍ منهما، وكان ابنُ عُمَرَ سَيْرَه العَنَقَ، وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ مثله، وقال آخرون: الإفاضةُ مِنْ عرفاتٍ وجَمْعٍ إيضاعٌ دونَ العَنَقِ، وروى مَعْرُورٌ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رجلًا أصلعَ عَلَى بعيرٍ يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ أوضِعُوا فإنَّا وَجَدْنَا الإفاضةَ للإيضاع.
          ورُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ أنَّه وَقَفَ عَلَى قُزَحَ وقالَ: أيُّها النَّاسُ أصيخُوا أصيخُوا، ثُمَّ دفعَ فكأنِّي أنظرُ إلى فخذِه قد انكشفَ ممَّا يَخْرِشُ بعيرَه بِمِحْجَنِه، ومعنى يَخْرِشُ بعيرَه: يَخْدِشُهُ بالِمِحْجَنِ، ومنه تخارشُ السَّنانيرُ والكلابُ.
          قَالَ الطَّبَريُّ: والصَّوابُ في صفةِ السَّيرِ في الإفاضتين جميعًا ما صَحَّتْ به الآثار أنَّه كَانَ يسير العَنَق إلَّا في وادي مُحسِّرٍ، فإنَّه يوضِعُ فيه، ولو أوضع أحدٌ في الموضع الَّذي ينبغي أن يُعْنِقَ فيه أو عكس لم يلزمه شيءٌ لإجماع الجميع عَلَى ذَلِكَ، غير أنَّه يكونُ مخطئًا سبيلَ الصَّوابِ.
          وما ذكره مِنْ تفسير {فَجْوَةٍ} و{مَنَاصٍ} هو كذلك في بعض النُّسخ، وقال ابنُ التِّيْنِ: فَجْوةٌ: مُتَّسعٌ لا أحد فيه.
          فرعٌ: قرَّرنا أنَّ السُّنَّةَ الإسراعُ، وإنَّما يميل عن بعضِه لمانع زحامٍ أو غيرِه، وأمَّا ما رُوِيَ عنه ◙ أنَّه أَمَرَ بالسَّكينةِ والوقارِ فمعناه: لا تخرجوا مِنْ حدِّهما بالزَّجر والإيضاع، وأمَّا سرعةٌ لا تخرجُ عن حدِّ الوقارِ فغير ممنوعٍ بل هو سنَّةٌ.
          فائدةٌ: سُمِّيت حَجَّة الوداعِ لأنَّه ◙ ودَّعَ النَّاس فيها، وقال: ((لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُم بَعْدَ عَامِي هَذَا))، وغَلِطَ مَنْ كرهَ تسميتها بذلك وقد سلف، وتُسمَّى البلاغَ أيضًا لأنَّه قَالَ فيها: ((هَلْ بَلَّغْتُ؟)) [خ¦105]، وحَجَّةَ الإسلامِ لأنَّها الَّتي حجَّ فيها بأهلِ الإسلامِ، ليس فيها مشركٌ.