التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب النحر في منحر النبي بمنى

          ░116▒ بَابُ: النَّحْرِ في مَنْحَرِ النَّبِيِّ صلعم بِمِنًى.
          1710- ذَكَرَ فيه حديثَ عُبَيدِ اللهِ بْنِ عمر عن نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ كَانَ يَنْحَرُ في المنْحَرِ، قال عُبَيدُ اللهِ: مَنْحَرِ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          1711- 1712- وعن نافعٍ أَنَّ عبدَ الله بْنَ عمر كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ الَليلِ حتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَر رسولِ اللهِ صلعم مَعَ حُجَّاجٍ فيهمُ الحُرُّ والْمَمْلُوكُ.
          الشَّرْحُ: هذانِ الحديثانِ مِنْ أفرادِه، ومَنْحَرُ رسولِ اللهِ صلعم هو عندَ الجَمْرَةِ الأولى الَّتِي تلِي مَسجدَ مِنًى، كما قاله ابنُ التِّينِ، وللنَّحَرُ فيه فضيلةٌ على غيرِه، ولذلك كَانَ ابنُ عمر يسابِقُ إليه، ((ومِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ)) كما نطَق به ◙، وفيه اقتَفاءُ ابنُ عمر آثارَه ◙ كما هو دأبُه، وكما كَانَ أبوه عُمَرُ يفعلُ، يُقال: أشبَهُ النَّاسِ في أفعالِه ◙ عمَرُ، وأشبَهُ أولادِ عمر بعمر عبدُ اللهِ، وأشبَهُ أولادِ عبدِ الله بهِ سالمٌ، وكَانَ يَبعثُ هديه حِينَئذٍ ولا ينحرُه إلَّا نهارًا.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: المَنْحَر في الحَجِّ بمِنًى إجماعٌ، فأمَّا العُمْرَةُ فلا طريقَ لمِنًى فيها، فمَنْ أرادَ أنْ يَنحَرَ في عُمْرَته أو سَاقَ هديًا تطوَّعَ به نَحَرهُ بمَكَّةَ حيثُ شاءَ، وهو إجماعٌ أيضًا، فمَنْ فعلَ هذا فقدْ أصابَ السُّنَّةَ.
          وبهذا قال مَالِكٌ وقال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ: إنْ نَحر في غيرِ مِنًى ومَكَّةَ مِنَ الحرَمِ أجزأَه، قالا: فإنَّما أُريدَ بذلك مساكِين الحَرمِ ومَكَّةَ، وقد أجمعوا أنَّه إنْ نَحَرَ في غيرِ الحَرَمِ ولم يكنْ مُحصَرًا بعدُوٍّ أنَّه لا يجزِئُه.
          وعندنا الأفضلُ في حقِّ المعتَمِر الذَّبحُ بالمَرْوةِ لأنَّها موضعُ تَحَلُّلٍ، وكذا حُكمُ ما سَاقَ هو، والحَجُّ مِنَ الهدي، ووقتُه وقتُ الأُضْحِيَّة على الصَّحيحِ، وحُجَّة مالِكٍ ما ذَكَره في «موطَّئِه»: أنَّه بلَغَه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال في حَجِّه بمِنًى: ((هَذَا الْمَنْحَرُ، ومِنًى كُلُّهَا مَنْحَر))، وقال في العُمْرَة: ((هَذَا الْمَنْحَرُ _يَعْنِي الْمَرْوةَ_ وكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ))، فدلَّ أنَّ غيرَهما ليسَ بمَنْحَرٍ لأنَّه كَانَ يكفِي أنْ يذكُرَ أحدَهما، وينبِّه بهِ على سائرِ الحَرَم، فلمَّا خصَّهما جميعًا عُلِم أنَّ مِنًى خُصَّت للحاجِّ لإقامتهم بها، فجعَلَ نحرَهم بها، وجعل مَكَّةَ منحرَ المعتمرين إذا فَرغوا مِنْ سعيِهم عندَ المَرْوةِ، وأَمَّا نَحرُه ◙ بالحُدَيبِيَةِ، وليسِ مِنْ مَكَّةَ ولا مِنًى، ولكنَّها مِنَ الحَرَم على خلفٍ فيه فلأنَّ الهديَ لم يكنْ بلغَ مَحِلَّه كما قال تعالى، وإِنَّمَا جاز ذلك كما جازَ له أنْ يَخرُج مِنْ إحرامِه في غير محِلِّه.
          ولمَّا قال تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25] علِمنا أنَّ محِلَّه مَكَّةَ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95].
          وصَدُّ النَّبيِّ صلعم لم يكنْ عنِ الحَرم، وإِنَّمَا كَانَ عنِ البيتِ لأنَّ الحُدَيبِيَةَ بعضُها حَرَمٌ، وبعضُها حِلٌّ، فمَكَّةُ مخصوصَةٌ بالبيتِ والطَّوافِ به دونَ سائرِ الحَرَم، ومِنًى مخصوصَةٌ بالتَّحلُّلِ فيها بالرَّمْي والمُقام بها لبقيَّةِ أعمالِ الحَجِّ، وليسَ كذلك سائرُ الحَرَمِ، خُصَّ هذان الموضعان بالنَّحْرِ فيهما لهذا التَّخصيص فيهما، وبذلك فَعَلَ الشَّارعُ وأصحابُه بعدَهُ.