التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التلبية

          ░26▒ بابُ: التَّلْبِيَةِ.
          1549- 1550- ذَكَرَ فيهِ حديثَ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم: (لَبَّيْكَ اللَّهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ).
          وحديثُ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ: (إِنِّي لأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُلَبِّي: لَبَّيْكَ اللَّهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ) تَابَعَهُ أَبُو مَعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ.
          وَقَالَ شُعْبَةُ: أَخبَرَنَا سُلَيْمَانُ سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ.
          الشَّرحُ: حديثُ ابنِ عُمَرَ أخرجَه مسلمٌ والأربعةُ، وحديثُ عائشةَ مِنْ أفرادِه، زاد مسلمٌ في الأوَّل: وكان ابنُ عُمَرَ يزيدُ مع هذا: لبَّيكَ وَسَعديكَ، والخيرُ بيديك لبَّيك، والرَّغباءُ إليك، والعمل.
          وله: وكان ابنُ عُمَرَ يقولُ: كَانَ عُمَرُ يُهلُّ بإهلالِ رَسُولِ اللهِ صلعم مِنْ هؤلاء الكلمات، ويقولُ: لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ، لبَّيكَ وسَعْدَيكَ، والخيرُ في يديكَ لبَّيكَ... إلى آخرِه.
          وفي «مسند ابنِ وَهْبٍ»: وكان ابنُ عُمَرَ يزيدُ: لبَّيكَ لبَّيكَ لبَّيكَ وسَعدَيكَ، وكذا ذكرها أبو قُرَّةَ، زاد الدَّارِميُّ بعدَ والعمل: لبَّيك لبَّيك، وأخرجَه النَّسَائيُّ مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ إلى قولِه: إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك، وكذا هو عن جابرٍ عند مسلمٍ، زاد أبو داود بسند مسلمٍ: والنَّاسُ يزيدون: ذا المعارج، ونحوه مِنَ الكلام، والنَّبيُّ صلعم يسمع فلا يقول لهم شيئًا.
          ولأحمدَ: ((أنَّ سَعدًا سمع رجلًا يقول: لبَّيك ذا المَعَارج، فقال: إنَّه لذو المَعَارج، ولكنَّا كنَّا مع رَسُول الله صلعم لَا نَقُول ذَلِكَ)) لأنَّ هذا إخبارٌ عن نفسه، وللحاكم مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ: لبَّيك إنَّما الخيرُ خيرُ الآخرةِ قاله بعرفات، وللشَّافعيِّ: العيشَ بدل الخيرَ، وللحاكم مِنْ حديث أبي هريرة: ((لبَّيك إلهَ الحقِّ لبَّيك)) ثُمَّ صحَّحه عَلَى شرط الشَّيخين.
          وأصلُ التَّلْبيَةِ الاقتداءُ بإبراهيمَ صلعم حين قَالَ له تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ} الآية [الحجِّ:27] وأصلها إمَّا مِنْ أَلَبَّ بالمكانِ: إذا أقامَ به أو مِنَ الإجابةِ أو مِنَ اللُّبِّ وهو الخالصُ أو المحبَّة أقوالٌ إجابةً لإبراهيم لَمَّا دعا النَّاسَ / إلى الحجِّ عَلَى أبي قُبَيسٍ، أو عَلَى حَجَرِ المقامِ، أو ثنيَّةِ كَدَاءٍ، وقالَ ابنُ حَزْمٍ: لا علَّة لها إلَّا {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [تبارك:2].
          و(إنَّ الحَمْدَ) بكسرِ الهمزةِ عَلَى المختارِ عَلَى الاستئنافِ، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وكذا هو في البُخاريِّ، والوجهان في «الموطَّأِ»، ويجوزُ فتحُها عَلَى معنى: لأنَّ، والمشهورُ: نصبُ النِّعمةِ، ويجوزُ رفعُها عَلَى الابتداءِ وحذف الخبرِ، وإن شئت جعلت خبر (إنَّ) محذوفًا تقديره: إنَّ الحمدَ لك والنِّعمةُ مستقرَّةٌ لك.
          والرَُّغَبَاءُ _ممدودٌ مفتوحٌ ومقصورٌ بفتحِ الرَّاءِ وضمِّها_: اتِّساعُ الإرادةِ.
          وقولُه: (وَالعَمَلُ) أي: إليك القصدُ به لتجازي عليه، ويحتملُ: والعملُ لكَ، وقولُه: ((وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ)) هو مِنْ بابِ حُسْنِ المخاطبةِ.
          وقولُه: (أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ الله صلعم كَذَا) أي: الَّتي كَانَ يواظبُ عليها، قَالَ الشَّافعيُّ وأصحابنا: يُستَحَبُّ ألَّا يُزَادَ عليها، بل يكرِّرُها ثلاثًا نسقًا، وأن يقف وقفةً لطيفةً عند قولِه: (والمُلْكَ)، وقيل: تُكرَهُ الزِّيادةُ حكاه في «البيانِ»، وهو غلطٌ فقد صَحَّ: ((لبَّيكَ إلهَ الحَقِّ)) كما تقدَّمَ.
          وعندَ الحنفيَّةِ: ينبغي ألَّا يُخلَّ بشيءٍ مِنْ هذِه الكلماتِ، وإن زادَ فحَسَنٌ، وعندَ بعضِهم: وإن نَقَصَ أجزأَه ولا يضرُّه، وهي مَرَّةً شرطٌ وما زادَ فسُنَّةٌ.
          قَالَ أبو عُمَرَ: أجمعَ العلماءُ عَلَى القولِ بهذه التَّلْبيةِ، واختلفُوا في الزِّيادة فيها، فقال مالكٌ: أكره الزِّيادة عَلَى تلبية رَسُولِ اللهِ صلعم وهو قولُ الشَّافعيِّ، وقد رُوِيَ عن مالكٍ أنَّهُ لا بأس أن يُزَادَ فيها ما كَانَ ابنُ عُمَرَ يزيدُه، وقال الثَّوريُّ وأبو حنيفةَ وأصحابُه وأحمدُ وأبو ثَورٍ: لا بأس بالزِّيادةِ عملًا بزيادةِ ابنِ عُمَرَ، وحديثُ جابرٍ السَّالفُ: وكان عُمَرُ يقولُ بعدَها: لبَّيكَ ذا النَّعماء والفضل والثَّناء الحسن، لبَّيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك، وكان أنسٌ يقولُ: لبَّيك حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورقًّا، ورُوِيَ رفعُه.
          وتُستَحَبُّ للمُحرِمِ وإن كَانَ جُنُبًا أو حائضًا لقولِه ◙ لعائشةَ: ((اصْنَعِي كَمَا يَصْنَعُ الحَاجُّ، غيرَ ألَّا تَطُوفي بَالبَيْتِ)).
          ونقلَ ابنُ القَصَّارِ عَنِ الشَّافعيِّ: الاقتصارُ عَلَى تلبيةِ سيِّدنا رَسُولِ الله صلعم إلَّا أن يزيدَ عليها ثنتين: ((لبَّيكَ إِلَهَ الحقِّ)) لأنَّ أبا هريرةَ رواه عن رَسُولِ اللهِ صلعم، والثَّاني: أن يقولَ إذا رأى شيئًا فأعجبَه: ((إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخرةِ)) كما فَعَلَ ◙ حين رأى النَّاسَ يزدحمُون في الطَّوافِ، قُلْتُ: لا بل بعرفةَ لَمَّا أعجبَه ما رأى، وإذا زاد هذين كَانَ كمَنِ اقتصرَ عَلَى تلبيةِ رَسُولِ اللهِ صلعم واحتجَّ بأثرِ سعدٍ السَّالف، وحكاه ابنُ التِّيْنِ أيضًا عَنِ الشَّافعيِّ.