التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك

          ░67▒ بابٌ: لا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلا يَحُجُّ مُشْرِكٌ
          1622- ذَكَرَ فيه حديثَ أبي هريرةَ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِي الحَجَّةِ الَّتي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلعم قَبْلَ حَجَّةِ الوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ، يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ ألَّا يَحُجّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوف بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ).
          هذا الحديثُ ذكره في أوائلِ الصَّلاة كما سلف، وفي آخره قَالَ حُمَيدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: ((ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ...)) الحديثَ [خ¦369].
          وفي المغازي قَالَ أبو عبدِ اللهِ: وذَلِكَ في سنة تسعٍ [خ¦4363]، وفي لفظٍ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فكان حمَُيدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ يقول: يوم النَّحر يوم الحجِّ الأكبر، مِنْ أجلِ حديث أبي هريرة [خ¦4657].
          وفي الجزية: فنبذَ أبو بكرٍ إلى النَّاس في ذَلِكَ العامِ، فلم يحجَّ في العام المقبل مشركٌ [خ¦3177]، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التَّوبة:28] وكان المشركون يوافون بالتِّجارةِ، فقالَ تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التَّوبة:28]، الآيةَ، ثُمَّ أحلَّ في الآيةِ الَّتي فيها تتبعها الجزية، ولم تُؤخَذْ قبلَ ذَلِكَ فجعلها عوضًا ممَّا منعهم مِنْ موافاة المشركين بتجاراتهم فقال: {قَاتِلُوا الَّذينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ} الآية [التَّوبة:29] فلمَّا أحلَّ اللهُ ذَلِكَ للمسلمين عَلِمُوا أنَّه قد عاضهم أفضل ممَّا خافوا، ووجدوا عليه ممَّا كَانَ المشركون يوافون به مِنَ التِّجارة وقد سلف فقهُ الباب هناك، وأنَّه حُجَّةٌ لاشتراط سَتر العورة في الطَّواف.
          قَالَ السُّهيليُّ: كَانَ سيِّدنا رَسُول اللهِ صلعم حين قَدِمَ مِنْ تبوكَ أراد الحجَّ، فذكر مخالطة المشركين للنَّاس في حجِّهم وتلبيتَهم بالشِّرك، وطوافَهم عراةً بالبيت _وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا كما وُلِدُوا بغيرِ الثِّيَابِ الَّتي أذنبُوا فيها وظلموا_ فأمسكَ عَنِ الحجِّ في ذَلِكَ العامِ، وبعثَ أبا بكرٍ بسُورةِ براءةَ لينبذَ إلى كلِّ ذي عهدٍ عهدَه مِنَ المشركين إلَّا بعض بني بكرٍ الَّذين كَانَ لهم عهدٌ إلى أجلٍ خاصٍّ، ثُمَّ أردف بعليٍّ فرجع أبو بكرٍ إلى رَسُولِ الله صلعم فقال: هل أُنزِلَ فيَّ قرآنٌ؟ قَالَ: ((لَا، وَلَكْنْ أَرَدْتُّ أن يُبَلِّغَ عنِّي مَنْ هو مِنْ أَهْلِ بَيْتِي)).
          قَالَ أبو هريرةَ: فأمرني عليٌّ أن أطوفَ في المنازلِ مِنْ مِنًى ببراءةَ، فكُنْتُ أصيحُ حَتَّى ضَحَلَ حلقِي فقيل له: بِمَ كُنْتَ تُنَادِي؟ قَالَ: بأربعٍ: ألَّا يدخُلُ الجنَّةَ إلَّا مؤمنٌ، وألَّا يحجَّ بعد العامِ مشركٌ، وألَّا يطوفَ بالبيتِ عُريانٌ، ومَنْ كَانَ له عهدٌ فله أجلُ أربعةِ أشهرٍ ثُمَّ لا عهدَ له، وكان المشركون إذا سمعوا النِّداء ببراءةَ يقولون لعليٍّ: سترَون بعد الأربعةِ الأشهرِ أنَّه لا عهدَ بيننا وبين ابنِ عمِّكَ إلَّا الطَّعن والضَّرب، ثُمَّ إنَّ النَّاس في تلك المدَّة رغبوا في الإسلام حَتَّى دخلوا فيه طوعًا وكرهًا.
          وكانوا بالبيت عَلَى أصنافٍ ثلاثةٍ: فالحُمْسُ فيما ذكر ابنُ إسحاقَ: أنَّ قريشًا ابتدعت بعد الفيل أو قبلَه ألَّا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أوَّل طوافهم إلَّا في ثياب الحُمْسِ، فإنْ لم يجدوا منها شيئًا طافوا عُراةً، فإن تلوَّمَ منهم متلوِّمٌ مِنْ رجلٍ أو امرأةٍ ولم يجد ثيابَ أحمسَ فطافَ في ثيابه الَّتي جاء بها مِنَ الحِلِّ ألقاها إذا فرغ مِنْ طوافِه، ثُمَّ لم ينتفع بها ولم يمسَّها، أمَّا الرِّجال فيطوفون عُراةً، وأمَّا النِّساءُ فتضع إحداهُنَّ ثيابَها إلَّا دِرعًا مفرَّجًا عليها ثُمَّ تطوفُ فيه، فقالت امرأةٌ وهي تطوف:
اليَوَمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ                     وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
          والحِلَّة: وهم ما عدا الحُمْسِ، كانوا يطوفون عُراةً إن لم يجدوا ثياب أحمس، والطُّلْسُ: كانوا يأتون مِنْ أقصى اليمن طُلْسًا / مِنَ الغُبَارِ، فيطوفون بالبيت في تلك الثِّياب الطُّلْسِ، قَالَ ابنُ حَبِيبٍ: فسمُّوا بذلك، وروى المطَّلِبُ بنُ أبي وَدَاعَةَ: أنَّ قائلةَ هذا البيت: ضُبَاعَةُ بنتُ عامرٍ، وأنَّها طافَتْ عُريانةً واضعةً يديها عَلَى فخذيها، وقريشٌ قد أَحدَقَتْ بها، وعند الرِّيَاشيِّ زيادةٌ فيه:
كَمْ مِنْ لَبِيبٍ لبُّه يُضِلُّهُ                     وَنَاظرٍ يَنْظُرُ مَا يُمِلُّهُ
جَهْمٌ مِنَ الجثمِ عظيمٌ ظِلُّهُ
          فطافت أسبوعًا وفي «تاريخِ ابنِ عساكر»: كانت تغطِّي جسدَها بشعرِها، وكانت إذا جلسَت أخذت مِنَ الأرضِ شيئًا كثيرًا لعِظَمِ خَلْقِها.
          وقد أسلفنا أنَّ هذِه الحجَّة كانت سنة تسعٍ، وحجَّ صلعم في العاشرة، وسيأتي في البُخاريِّ في باب الخطبة أيام منًى: أنَّه ◙ لَمَّا وَقَفَ يوم النَّحر بين الجمرات في حجَّتِه وقال: ((هَذَا يَوْمُ الحجِّ الأَكْبَرِ)) [خ¦1742]، وهو نصٌّ أخذ به مالكٌ وهو قول عليٍّ والمغيرة وابن عبَّاسٍ وابن عمرَ.
          ورُوِيَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قَالَ: هو يوم عرفةَ، وقاله طاوسٌ ومجاهدٌ، وقال ابنُ سِيرِين: الحجُّ الأكبر: العام الَّذي حجَّ فيه رَسُولُ اللهِ صلعم اتَّفقَ فيه جميعُ الملل، وأراد صلعم أن ينظِّفَ البيتَ مِنَ المشركين والعُراة، ويكون حَجُّهُ له عَلَى نظافةٍ مِنْ هاتين الطَّائفتين، فبعث الصِّدِّيق أوَّلًا و أردفه بعليٍّ يؤذِّن ببراءةَ، ثُمَّ حجَّ.
          وقد اختلف النَّاسُ في حَجَّةِ أبي بكرٍ هذِه إن كانت حَجَّة الإسلام بعد نزولِ فَرضه، وإن كانت عَلَى حجِّ الجاهليَّة ومواسمها، والَّذي يعطيه النَّظرُ الأوَّلُ، لأنَّ وقوفه كَانَ بعرفةَ مع النَّاسِ كافَّةً، وإنَّما كَانَ الحُمْسُ _وهم قريشٌ_ يقفون بالمشعَرِ الحرامِ، فلمَّا خالف أبو بكرٍ العادةَ لقريشٍ وأخرجهم مِنَ الحرم إلى عرفاتٍ، دلَّ أنَّه إنَّما وقف بأمره، وأنَّه ◙ امتثلَ قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] يعني العربَ كافَّةً، وقوله تعالى هذا هو متقدِّمٌ بفرض الحجِّ، ووصف شرائعه كلّها، فثبت بهذا ما ذكرناه مع أنَّه أيضًا حَجَّ في ذي الحِجَّة، وكانت العربُ لا تتوخَّى بحجِّها إلَّا ما كانت عليه مِنَ النَّسِيء يُحلُّونه عامًا ويُحرِّمُونه عامًا آخرَ.
          وقد اختلف النَّاسُ في الحجِّ هل هو عَلَى الفور أم لا؟ كما سلف في أوَّلِ الحجِّ [خ¦25/1-2388].