التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صوم يوم عرفة

          ░85▒ بابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
          1658- ذَكَرَ فيهِ حديثَ أمِّ الفَضْلِ: (شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِهِ صلعم، فَبَعَثْتُ إلى النَّبِيِّ صلعم بِشَرابٍ فَشَرِبَهُ).
          هذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ أيضًا وذكره في باب الصِّيام بهذه التَّرجمة [خ¦1988]، وزاد حديثًا آخرَ كما تقف عليه هناك [خ¦1989]، فثبت أنَّه أفطرَ يومَ عرفةَ بعرفةَ، وصحَّ في مسلمٍ: أنَّ صومَه يُكفِّرُ سنتين أخرجَه مِنْ حديثِ أبي قَتَادَةَ، وهو مِنْ أفراده، وهذا في غير الحَجيج أمَّا الحَجيج فينبغي لهم ألَّا يصوموه كيلا يضعفوا عَنِ الدُّعاءِ وأعمال الحجِّ اقتداءً بالشَّارع.
          وأطلق كثيرون مِنْ أئمَّة أصحابنا كونَه مكروهًا لهم لحديثِ أبي داودَ وغيرِه، في سنده جهالةٌ، فإن كَانَ الشَّخص بحيث لا يَضعُفُ بسبب الصَّومِ فقد قَالَ المتولِّيُّ: الأَوْلى أن يصومَ حيازةً للفضيلتين، ونسب غيرُه هذا إلى المذهب، وقال: الأَوْلَى عندنا ألَّا يصوم بحالٍ.
          وقال الرُّويانيُّ في «الحليةِ»: إنْ كَانَ قويًّا وفي الشِّتاء ولا يَضعُفُ بالصَّومِ عَنِ الدُّعاءِ فالصَّوم أفضل له، وبه قالت عائشةُ وجماعةٌ مِنْ أصحابنا.
          وقالَ البَيْهَقيُّ في «المعرفة»: قَالَ الشَّافعيُّ في القديمِ: لو علم الرَّجُلُ أنَّ الصَّومَ بعرفةَ لا يُضعِفُهُ فصامه كَانَ حسنًا، واختار الخَطَّابيُّ هذا، والمذهبُ عندنا استحبابُ الفِطْرِ مطلقًا وبه قَالَ جمهورُ أصحابِنا وصرَّحوا بأنَّه لا فرق، ولم يَذْكُرِ الجمهورُ الكراهةَ، بل قالوا: يُستحبُّ فِطْرُه كما قاله الشَّافعيُّ، ونقلَ الماوَرْديُّ وغيرُه استحبابُ الفِطْرِ عن أكثر العلماء، وحكى ابنُ المُنْذِرِ عن جماعةٍ منهم: استحبابُ صومِه، وحكى صاحبُ «البيان» عن يحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ: أنَّهُ يجب عليه الفِطْرَ بعرفةَ.
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: اختلفَ العلماءُ في صومِه، فقال ابنُ عُمَرَ: لم يصمه رَسُولُ اللهِ صلعم ولا أبو بكرٍ ولا عُمَرُ ولا عثمانُ، وأنا لا أصومُه، وقال ابنُ عبَّاسٍ يوم عرفةَ: لا يَصحَبْنا أحدٌ يريدُ الصِّيامَ، فإنَّه يوم تكبيرٍ وأكلٍ وشربٍ، واختار مالكٌ وأبو حنيفةَ والثَّوريُّ الفِطْرَ.
          وقال عطاءٌ: مَنْ أفطرَ يومَ عرفةَ ليتقوَّى به عَلَى الذِّكرِ كَانَ له مثلُ أجرِ الصَّائمِ، وكان ابنُ الزُّبَيرِ وعائشةَ يصومان يوم عرفةَ، ورُوِيَ أيضًا عن عُمَرَ، وكان إسحاقُ يميلُ إليه، وكان الحسنُ يعجبُه صومه ويأمرُ به الحاجَّ، وقال: رَأَيْتُ عثمانَ بعرفاتٍ في يومٍ شديدِ الحرِّ صائمًا، وهم يروحون عنه، وكان أسامةُ بنُ زيدٍ وعُرْوَةُ بنُ الزُّبَيرِ والقاسمُ بنُ مُحَمَّدٍ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ يصومون بعرفاتٍ، وقال قتادةُ: لا بأس بذلك إذا لم يَضعُفْ عَنِ الدُّعاء، وبه قَالَ الدَّاوُديُّ.
          وقال الشَّافعيُّ: أُحِبُّ صيامَه لغيرِ الحاجِّ، أمَّا مَنْ حجَّ فأُحِبُّ أن يفطرَ، ليقوِّيَه عَلَى الدُّعاءِ، وقال عطاءٌ: أصومُهُ في الشِّتاءِ ولا أصومُهُ في الصَّيفِ.
          وقال الطَّبَريُّ: إنَّما أفطرَ ◙ بعرفةَ ليدلَّ عَلَى أنَّ الاختيار في ذَلِكَ الموضع للحاجِّ الإفطارُ دون الصَّوم كيلا يَضْعُفَ عَنِ الدُّعاء وقضاءِ ما لزمه مِنَ المناسك، وكذلك مَنْ كره صومه مِنَ السَّلف، وإنَّما كَانَ لما بيَّنَّاه مِنْ إيثارهم الأفضلَ مِنْ ثقلِ الأعمالِ عَلَى ما هو دونه وإبقاءً عَلَى نفسه ليَقْوَى بالإفطارِ على الاجتهادِ في العبادةِ، ومِنْ آثر صومَهُ أراد أن يفوزَ بثوابه، ويدخُلَ مِنْ باب الرَّيَّان.
          وقال المُهَلَّبُ: في شربِه اللَّبنَ يومَ عرفةَ أنَّ العِيَانَ أقطعُ للحُجَجِ وأنَّه فوقَ الخَبَرِ، وقد / قَالَ ◙: ((لَيْسَ الخَبَرُ كَالعَيَانِ)).
          وفيه أنَّ الأكلَ والشُّربَ في المحافلِ مباحٌ، إذا كَانَ لتبيين معنًى أو دَعَتْ إليه ضرورةٌ كما فعل يوم الكَدِيد إذا عُلِمَ بما يريدُ بيانه مِنْ سُنَّتِه.
          وفيه جواز قَبول الهديَّة مِنَ النِّساء، ولم يسألها إنْ كَانَ مِنْ مالها أو مِنْ مال زوجها إذ كَانَ مثل هذا القدر لا يتشاحَحُ النَّاسُ فيه، وقال ابنُ التِّيْنِ: كَانَ ◙ يترك العملَ يُحِبُّ أن يعملَه لئلَّا يضيِّق عَلَى أمَّته.
          فرعٌ: يُستَحَبُّ أيضًا صوم ثامن ذي الحِجَّةِ وهو يومُ التَّروِيَةِ احتياطًا لعَرَفَةَ.