التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الاغتسال عند دخول مكة

          ░38▒ بابُ الاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
          1573- ذَكَرَ فيهِ عَنْ نَافِعٍ: (كَان ابن عُمَرَ إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلبِيَةِ، ثُمَّ يَبِيْتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ).
          هذا الباب سلف فقهُه في بابِ الإهلالِ مستقبلَ القبلة [خ¦1553] [خ¦1554].
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: الاغتسالُ لدخول مكَّة مستحبٌّ عند جميع العلماء، إلَّا أنَّه ليس في تركه عامدًا عندهم فديةٌ، وقال أكثرهم: الوضوء يجزئ منه، وكان ابنُ عُمَرَ يتوضَّأ أحيانًا ويغتسلُ أحيانًا، وروى ابنُ نافعٍ عن مالكٍ أنَّه استَحَبَّ الأخذ بقول ابنِ عُمَرَ في الغسلِ للإهلال بذي الحُلَيفَةِ وبذي طُوًى لدخول مكَّةَ، وعند الرَّواح إلى عرفةَ، قال: ولو تركه تاركٌ مِنْ عُذرٍ لم أر عليه شيئًا، وقال ابنُ القاسمِ عن مالكٍ: إن اغتسل بالمدينة وهو يريد الإحرام، ثُمَّ مضى في فوره إلى ذي الحُلَيفَةِ فأحرم فإنَّ غُسْلَه يجزئ عنه، قَالَ: وإن اغتسل بالمدينة غُدوةً، وأقام إلى العشيِّ، ثُمَّ راح إلى ذي الحُلَيفَةِ فأحرم فلا يجزئه، وأوجبه أهلُ الظَّاهر فرضًا عَلَى مريد الإحرام، والأمَّةُ عَلَى خلافِهم، ورُوِيَ عَنِ الحسنِ: إذا نسي الغُسْلَ للإحرامِ يغتسلُ إذا ذكر، واختُلِفَ فيه عن عطاءٍ فقال مرَّةً: يكفي منه الوضوءُ، وقال مرَّةً: غير ذَلِكَ.
          ومِنَ الفوائد الجليلة أنَّ الغُسْلَ لدخول مكَّة ليس لكونه محرِمًا وإنَّما هو لحرمتها، حَتَّى يُستحبُّ لِمَنْ كَانَ حلالًا أيضًا وقد اغتسل لها ◙ عام الفتح، وكان حلالًا كما أفاده الشَّافعيُّ في «الأمِّ».
          فرعٌ: / لو خرج مِنْ مكَّةَ فأحرم بالعُمْرَةِ واغتسل لإحرامه ثُمَّ أراد دخولها، فإن كَانَ أحرم مِنْ بُعدٍ كالجِعِرَّانَةِ أعاد وإلَّا فلا.
          فرعٌ: يكون الغُسْلُ بذي طُوًى للاتِّباع، ويُسمَّى اليوم أبيار الزَّاهرِ، وإنَّما أمسكَ ابنُ عُمَرَ عَنِ التَّلبيةِ في أوَّل الحرم، وكان مُحرِمًا بالحجِّ كما في «الموطَّأ»، لأنَّه تأوَّل أنَّه قد بلغ إلى الموضع الَّذي دُعِيَ إليه، ورأى أن يكبِّر الله ويعظِّمه ويسبِّحه، إذ سقط عنه معنى التَّلبية بالبلوغ، وكره مالكٌ التَّلبيةَ حولَ البيتِ، وقالَ ابنُ عُيَينَةَ: ما رَأَيْتُ أحدًا يُقتَدَى به يلبِّي حولَ البيتِ إلَّا عطاءَ بنِ السَّائبِ، ورُوِيَ عن سالمٍ أنَّه كَانَ يلبِّي في طوافه، وبه قَالَ ربيعةُ وأحمدُ وإسحاقُ، وكلٌّ واسعٌ، وعندنا: لا يُستَحَبُّ في طوافِ القدومِ لأنَّ له أذكارًا تخصُّه، وفي القديم: يُستَحَبُّ فيه بلا جهرٍ، والخلافُ جارٍ في السَّعي بعده.
          أمَّا طوافُ الإفاضةِ: فلا يُستَحَبُّ فيه جزمًا لأنَّه قد أخذ في أسباب التَّحلُّل، وكذا الطَّوافُ المتطوَّعِ به في أثناء الإحرام، ولا يبعد جَريُ خلافٍ فيه، وحكى ابنُ التِّيْنِ خلافًا عن مالكٍ: هل يقطعها أوَّل الحَرَمِ، أو إذا دخلَ مَكَّةَ؟ وخلافًا متى يعودُ إليها؟ هل هو بعدَ الطَّواف؟ أو بعدَ فراغِه مِنَ السَّعي؟ وكان ابنُ عُمَرَ إن كَانَ معتمرًا قطعها إذا دخل الحرم، قَالَ مالكٌ: فإن أحرم مِنَ الجِعِرَّانَةِ قطعها عند الدُّخول، وإن كَانَ مِنَ التَّنعيم قطعها عند رؤية البيت.
          قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وأصحابُنا ذكروا الغُسْلَ في الحجِّ في ثلاثة مواضعَ: للإحرام والطَّواف والوقوف، وأضاف البُخاريُّ في تبويبه: لدخول مكَّة، وكذا فسَّره نافعٌ في «الموطَّأ»، وإنَّما ذَلِكَ يُفعَلُ عند دخول مكَّة، فالغُسْلُ في الحقيقة للطَّواف، وعبارة الجلَّابِ يغتسل لأركان الحجِّ، وظاهره الغُسْلُ للسَّعي، وعن عائشةَ أنَّها كانت تغتسلُ لرمي الجِمَارِ.
          وفي «الموطَّأ» عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّه كَانَ لا يغسلُ رأسه وهو مُحرِمٌ إلَّا مِنِ احتلامٍ، وظاهره أنَّ غسله لدخول مكَّةَ، ووقوف عرفةَ يختصُّ بجسده دون رأسه، وقال ابنُ حَبِيبٍ: إذا اغتسل المُحرِمُ لدخولها يغسل جسده دون رأسه واحتجَّ بذلك، وقال الشَّيخُ أبو مُحَمَّدٍ: لعلَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ لا يغسل رأسه إلَّا مِنْ جنابةٍ يعني: في غير هذه المواطن الثَّلاثة، كأنَّه خصَّصَ ذلك، وحكى مُحَمَّدٌ عن مالكٍ: أنَّ المُحرِمَ لا يتدلَّك في غُسْلِ دخول مكَّةَ ولا الوقوف بعرفةَ، ولا يغسل رأسه إلَّا بالماء وحدَه يصبُّه صبًّا، ولا يُغَيِّبُ رأسه في الماء.