التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب لا يعطى الجزار من الهدي شيئًا

          ░120▒ بَابٌ: لا يُعْطَى الجَزَّارُ مِنَ الهَدْيِ شَيئًا.
          1716- ذَكَرَ فيه حديثَ عليٍّ: (بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلعم فَقُمْتُ على البُدْنِ، فَأَمَرَنِي فَقَسَمْتُ لُحُومَهَا، ثمَّ أَمَرَنِي فَقَسَمْتُ جِلالَهَا وجُلُودَهَا).
          وفي روايةٍ عنهُ: أَمَرَنِي أَنْ أَقُومَ على البُدْنِ، ولَا أُعْطِيَ عليها في جِزارتها.
          ░121▒ بَابٌ: يُتَصَدَّقُ بِجُلُودِ الهَدْيِ.
          1717- ذَكَرَ فيه أيضًا حديثَ عليٍّ: (أنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ على بُدْنِهِ، وأنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا، لُحُومَهَا وجُلُودَهَا وجِلَالَهَا، ولَا يُعْطِيَ في جِزَارَتِهَا شَيئًا).
          ░122▒ بَابٌ: يُتَصَدَّقُ بِجِلَالِ البُدْنِ.
          1718- ذَكَرَ فيه حديثَ عَلِيٍّ أيضًا قال: (أَهْدَى النَّبِيُّ صلعم مِئَةَ بَدَنَةٍ، فَأَمَرَنِي بِلُحُومِهَا، فَقَسَمْتُهَا ثمَّ أَمَرَنِي بِجِلالِهَا فَقَسَمْتُهَا، ثمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا).
          هذه الأحاديثُ سلف أصلُها في بابِ: الجِلال للبُدْن، ونتكلَّم هنا على غيرِ ما سَبقَ.
          الجُزارَة _بضمِّ الجيمِ وفتحِها_ قال الخَطَّابِيُّ: هي اسمٌ لما يُجزر كالنُّشَارة والسُّقاطة، وأراد به أجر الجِزارة، لأنَّه كالبيع، قال ابنُ التِّينِ: والصَّحيح أنَّ الجِزارة _بكسرِ الجيمِ_ اسم الفعل، والجُزارة _بضمِّ الجيم_ اسمٌ للسَّواقِط الَّذِي يأخذها الجازر، وقال ابنُ الأثير: الجُزارة _بالضمِّ_ كالعُمالة ما يأخذه الجزَّار مِنَ الذَّبيحة عن أُجرتِه، وأصلُها أطرافُ البعيِر الرأسُ واليدانِ والرجلانِ، سُمِّيت بذلك لأنَّ الجزَّار كَانَ يأخذُها عن أجرتِه.
          وقال ابنُ الجَوزِيِّ: قال قومٌ: هي كالخِياطة يريدُ بها عملَه فيها.
          واختَلف العلماءُ في هذا البابِ، فَذَهَبَت طائفةٌ إلى الأخذِ بهذا الحديثِ وقالوا: لا يُعطى الجزَّار مِنْهَا شيئًا، هذا قولُ مالِكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ، وأجازَ الحَسَنُ البصريُّ أن يُعطى الجزَّارُ الجِلدَ.
          واختلفوا في بيعِ الجلدِ، فَرُوِيَ عَنِ ابنِ عمر أنَّه لا بأسَ به بأنْ يبيعَه ويتصدَّق بثمنه، وقاله أحمدُ وإسحاقُ.
          وقال أبو هُرَيرَةَ: مَنْ باعَ إهابَ أضحيَّتِه فلا أضحيَّةَ له، وقال ابنُ عَبَّاسٍ: يتصدَّق به أو ينتَفعُ به ولا يبيعُه، وعنِ القَاسِم وسالمٍ: لا يصلحُ بيعُ جلدِها، وهُو قَولُ مَالِكٍ.
          قال النَّخَعِيُّ والحَكَمُ: لا بأسَ أنْ يشتريَ بهِ الغِربالَ والْمُنخلَ، وبه قال النَّخَعِيُّ والأَوزَاعِيُّ وابن حَبِيبٍ قالوا: لا بأسَ أنْ يشتريَ الغِربالَ والمُنخلَ والفأسَ والميزانَ ونحوها، وقال عَطاءٌ: إنْ كَانَ الهدي واجبًا تصدَّقَ بإهابه، وإن كَانَ تطوُّعًا باعه إنْ شاء في الدَّين.
          وأمَّا مَنْ أجازَ بيعَ جلودِها فإنَّما قال ذلك _والله أعلم_ قياسًا على إباحةِ الله الأكلَ مِنْهَا بمكَانِ بيعِ الجلدِ والانتفاع به تبعًا للأكلِ، وهذا ليسَ بِشيء لأنَّه يجوزُ أكلُ لحمِها ولا يجوزُ بيعُه بإجماعٍ، والأصلُ في كلِّ ما أُخرجَ للهِ أنَّه لا يجوزُ الرجوعُ في شيءٍ مِنْهُ، ولولا إباحةُ اللهِ الأكلَ مِنْهَا لمَا جازَ أنْ يُستباحَ، فوجبَ ألَّا يَتعدَّى الأكلَ للبيعِ إلَّا بدليلٍ لا معارضَ لها.
          قال المهلَّبُ: وإعطاءُ الجازرِ مِنْهَا في جِزارته عوضًا مِنْ فعلِه وذبحِه لأنَّه بيعٌ، ولا يجوزُ بيعُ شيءٍ مِنْ لحمها فكذا الجِلدُ، وقال: لا يخلو الإهابُ مِنْ أنْ يكونَ مَعَ سائرِ الشَّاةِ بإيجابِها وذبحِها فقد صارَ مسبَّلًا فيما سُبِّلت به الأُضْحِيَّة، ولم يصر مسبَّلًا إذا كَانَ عليه دَينٌ.
          فإنْ كَانَ قد صارَ لما جعلِه له فغيرُ جائزٍ صرفُه ولا صرفُ شيء مِنْهُ إلَّا فيما سَبَّله، أو لم يصرْ ذلك فيما جعلَه له إذ كَانَ عليه دينٌ، فإيجابُه الشَّاةَ أضحيَّةً أو هديًا باطلٌ، وله بيعُها في دَينه، فأمَّا أنْ يكونَ لحمُها لحمَ أُضحيَّة وجلدُها غيرَ جلدِ أُضحيَّة فكذا ما لا يُعقل في نظرٍ ولا خبرٍ.
          والصَّوابُ إنْ كَانَ الدَّينُ على صاحبِ الأُضْحِيَّةِ والبَدَنَةِ قبْلَ إيجابِها ولم يكن عندَه ما يقضِي غريَمه سِوى الشَّاة أو البَدَنَة فإيجابُه / لها عندنا باطِلٌ وملكُه عليها ثابتٌ، وله بيعُها في دَينه، إذ ليسَ لأحدٍ عليه دَينٌ إتلافُ مالِه ولا صرفُه في غير قضاءِ دَينِه.
          قال ابنُ التِّينِ: لمَّا ذكرَ إعطاءَ الجازِر، قال: هذا أصلٌ في أنَّ مَنْ وجب عليه شيءٌ لله تعالى عليه تخليصُه كالزَّرع يعطي عُشرَه ولا يحسُبُ شيئًا مِنْ نفقته على المساكينِ، وكذا مؤنةُ حَملِه، وقِيلَ: إنَّه مِنْ جملتِه.
          والزَّيتونُ يؤدَّى مِنْ زيتِه على المشهورِ عندَ المالكيَّةِ، وعندهم في الجُلْجُلان ثلاثةُ أقوالٍ: مِنْ حَبِّه، مِنْ زيتِه إذا كَانَ يُعصَر، ويعطي ثمنه.
          واختَلف العلماءُ في جوازِ أكلِ لحومِ الهديِ، فقال أبو حنيفةَ: لا يؤكل إلَّا مِنْ هديِ التَّمتُّع والقِرانِ والتَّطوُّع إذا بلغَ محِلَّه، ومنعُ الأكلِ ممَّا وجبَ بالإحرامِ، وهو إحدى الرِّوايتين عن أحمدَ، والأخرى لا يُؤكل مِنَ النَّذرِ وجزاءِ الصيدِ ويُؤكلُ مِنَ الباقي، وهو قولُ ابنِ عمر وطاوسٍ والحَسَنِ وإسحاقَ، وعنِ الحَسَن أيضًا أنَّه لا بأسَ أنْ يأكلَ مِنْ جزاءِ الصَّيد ونَذْرِ المساكين، وهو قولُ الحَكَمِ في الجزاءِ.
          وقال مَالِكٌ: يُؤكلُ مِنَ الهديِ كلِّه إلَّا مِنْ جزاءِ الصَّيد وفديةِ الأذى وما نذرَه للمساكين.
          ونُقِل عن طاوسٍ وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، ونقلَ أبو عمرَ أنَّه لا يأكلُ مِنْ جزاءِ الصَّيد عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ وعليٍّ وإبراهيمَ وبزيادةِ: ولا ما جُعل للمساكين.
          وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ لا يُؤكلُ مِنَ النَّذرِ ولا مِنَ الكفَّارة ولا ممَّا جُعل للمساكين، وقال الشَّافعيُّ: لا يُؤكل إلَّا مِنَ التَّطوُّع خاصَّةً لأنَّه عندَه واجبٌ، وهو قولُ أبي ثَورٍ.
          وعندنا لا يجوزُ بيعُ جلودِ الهديِ والأُضْحِيَّةِ ولا شيءٍ مِنْ أجزائها لا بما يُنتفعُ به في البيتِ ولا بغيرِه سواءٌ كَانَ تطوُّعًا أو واجبًا، لكنْ إذا كَانَت تطوُّعًا فله الانتفاعُ بالجلد وغيرِه باللُّبس وشبهِه، ولا يجوزُ إعطاء الجزَّار مِنْهَا شيئًا بسببِ جِزارته، وبه قال عطاءٌ وإبراهيمُ ومالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ. وفي «الإشراف» لابنِ المنذِرِ، عَنِ ابنِ عمر، وأحمدَ وإسحاقَ: لا بأسَ ببيعِ جلدِ هديِه ويتصدَّق بثمنه.
          قال: ورخَّص في بيعِه أبو ثورٍ، وقال الحَسَنُ: لا بأسُ أنْ يعطيَ الجَّزارَ جلدَها، وحَكَاهُ القُرْطُبِيُّ أيضًا، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبيدِ بنِ عُميرٍ، قال: وقد اتُّفِقَ على أنَّ لحمها لا يُباعُ، وكذلك الجلودُ والجِلال، وكَانَ ابنُ عمر يكسو جِلالها الكعبةَ، فلما كُسِيَت الكعبةُ تصدَّق بها.
          وفي «مُسْنَدِ أحمدَ» مِنْ حَدِيثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، أنَّ قَتَادَةَ بنَ النعمانِ أخبره أنَّ رسول الله صلعم قال: ((إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِنَ الأضَاحِيِّ فَوقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَسَعَكُمْ، وإِنِّي أُحِلُّهُ لَكُمْ، فَكُلُوا مِنْهُ مَا شِئْتُمْ، ولَا تَبِيعُوا لُحُومَ الْهَدْيِ والأضَاحِيِّ، وكُلُوا وتَصَدَّقُوا واسْتَمْتِعُوا بِجُلُودِهَا ولا تَبِيعُوا، وإِنْ أُطْعِمْتُمْ مِنْ لُحُومِهَا فَكُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ)).