التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج}

          ░33▒ بابُ قَوْلِ الله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ} [البقرة:197]
          وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ} [البقرة:89]
          وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: أَشْهُرُ الحَجِّ: شَوَّالٌ وَذُو القَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُحْرِمَ بِالحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ.
          1560- ثُمَّ ذَكَرَ حديثَ عائشةَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، وَلَيَالِي الحَجِّ وَحُرُمِ الحَجِّ...) الحديث بطولِه.
          أمَّا الآيةُ الأولى فقالَ الفرَّاءُ في «معانيه»: معناها وقتُ الحجِّ هذِه الأشهرُ، فهي وإن كانت «في» تصلح فيها، فلا يُقَالُ إلَّا بالرَّفعِ، وكذلك كلامُ العربِ يقولُون: البردُ شهران والحرُّ شهران لا ينصبون لأنَّه مقدار الحجِّ، ولو كانت الأشهرُ والشَّهرُ معرفةً عَلَى هذا المعنى لصلَح فيه النَّصبُ، ووجهُ الكلامِ الرَّفعُ.
          والمعلوماتُ: شوالٌ وذو القَعْدَةِ وعشرٌ مِنْ ذي الحِجَّةِ، وإنَّما جازَ أن يُقَالَ: أشهرٌ، وإنَّما هما شهران وعشرٌ مِنْ ثالثٍ، لأنَّ العربَ إذا كَانَ الوقتُ لشيءٍ يكونُ فيه الحجُّ وشبهُه جعلوه في التَّسميةِ للثَّلاثة أو الاثنين كما قَالَ تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة:203] وإنَّما يُتَعَجَّلُ في يومٍ ونصفٍ، وكذلك هو في اليومِ الثَّالث مِنْ أيَّامِ التَّشريقِ ليس معها شيءٌ تامٌّ، وكذلك تقولُ العربُ: له اليومَ يومان منذ لم أره وإنَّما هو يومٌ وبعض آخرُ، وهذا ليس بجائزٍ في غيرِ المواقيتِ.
          قُلْتُ: ومثله {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، وقد يُطلِّقُها في آخرِ الطُّهْرِ فيكون قرءان، والطَّعنُ في الثَّالثةِ مِنَ الحيضِ.
          وقالَ ابنُ المُنْذِرِ: كَانَ الفَرَّاءُ يقولُ: معناه وقتُ الحجِّ أشهرٌ معلوماتٌ، وقالَ غيرُه: تأويلُه أنَّ الحجَّ في أشهرٍ معلوماتٍ، وقال الزَّجَّاجُ في «معانيه»: قَالَ أكثرُ النَّاسِ: إنَّ أشهرَ الحجِّ شوَّالٌ وذو القَعْدَةِ وعشرٌ مِنْ ذي الحِجَّة، وقالَ بعضُهم: لو كانتِ الشُّهُورُ الَّتي هي أشهرُ الحجِّ شَوَّالًا وذَا القَعْدَةِ لَمَا جَازَ للَّذي منزله بينه وبين مَكَّةَ مسافةٌ أكثر مِنْ هذه الشُّهُورِ أن يَفرِضَ عَلَى نفسِه الحجَّ، وهذا حقيقتُه عندَنا أنَّه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعملٍ مِنْ أعمالِ الحجِّ قبل هذا الوقت نحو الإحرام، لأنَّه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت أضرَّ بنفسه، فأمرَ اللهُ تعالى أن يكونَ أقصى الأوقات الَّذي ينبغي للمرءِ ألَّا يتقدَّمها في عقدِ فرضِ الحجِّ عَلَى نفسِه شَوَّالًا.
          وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: معنى الحجِّ إنَّما هو في السَّنَةِ في وقتٍ بعينه، وإنَّما هو في الأيَّام الَّتي يأخذُ الإنسانُ فيها في عملِ الحجِّ لأنَّ العُمْرَةَ في طولِ السَّنَةِ، فينبغي له في ذَلِكَ الوقتِ ألَّا يَرْفُثَ ولا يَفْسُقَ.
          وقولُه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ} [البقرة:197] / قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: التَّلبِيَةُ، وقد سلفَ بالخُلْفِ فيه في بابها، وقالَ الضَّحَّاكُ: هو الإحرامُ، وقالَ عطاءٌ: مَنْ أَهَلَّ فيهنَّ بالحجٍّ، قَالَ: والفرضُ: التَّلبيةُ، وكذا قَالَ الزُّهْريُّ وإبراهيمُ وطاوسٌ وابنُ مسعودٍ وابنُ الزُّبَيرِ كما سلفَ، ونقلَ ابنُ التِّيْنِ عَنِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عُمَرَ معنى {فَرَضَ} لبَّى، وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ: أحرمَ، وحقيقتُه أوجبُ فيهنَّ.
          والرَّفَثُ: الجِمَاعُ، والفسوقُ: المعاصي، والجِدَالُ: المِرَاءُ حَتَّى يُغضِبَ صاحبَه، قاله ابنُ عبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ وعطاءٌ، وقال مجاهدٌ: {لَا جِدَالَ} لا شكَّ فيه أنَّه في ذي الحِجَّةِ، بخلافِ ما يعتقدُه مِنَ النَّسيءِ، وأنَّ الحجَّ في غير ذي الحِجَّةِ، ويقف بعضُهم _وهم قريشٌ_ بالمُزْدَلِفَةِ وبعضُهم بعرفةَ ويتمارَون في ذَلِكَ، فقالَ ◙: ((إنَّ الزَّمَانَ قَدِ استدَارَ كَيْومِ خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأَرْضَ، وإنَّ الحجَّ في ذي الحِجَّةِ)) وقال أبو عُمَرَ: وأرادَ: فلا يكون رفثٌ ولا فسوقٌ، أي: حَتَّى يخرجَ مِنَ الحجِّ ثُمَّ ابتدأَ فقَالَ: {وَلَا جِدَالَ}.
          وأمَّا الآيةُ الثَّانيةُ وهي قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] قَالَ الواحديُّ عن معاذٍ: يا رَسُولَ اللهِ إنَّ اليهودَ تَغْشَانَا ويُكثِرُونَ مسألتَنا، فأنزلَ اللهُ الآيةَ، وقالَ قتادةُ: ذُكِرَ لنا أنَّهُمْ سألُوا نبيَّ اللهِ: لم خُلِقَتْ هذه الأَهِلَّةُ؟ فنزلت، وقالَ الكلبيُّ: نَزَلَتْ في معاذٍ وثعلبةَ بنِ عَنَمَةَ الأنصاريَّيْنِ قَالَا: يا رَسُولَ اللهِ ما بالُ الهلالِ يبدو دقيقًا مثلَ الخيطِ ثُمَّ يزيدُ ثمَّ ينقصُ؟ فنَزَلَتْ.
          وقالَ الزَّجَّاجُ: أخبرني مَنْ أثق به مِنْ رواة البصريِّين والكوفيِّين أنَّ الهلالَ سُمِّي هلالًا لرَفع الصَّوتِ بالإخبار عنه، وقال بعضُهم: سُمِّي بذلك لليلتين مِنَ الشَّهر، ثُمَّ لا يُسمَّى هلالًا إلى أن يعودَ في الشَّهرِ الثَّاني، وهو الأكثرُ، وقال بعضُهم: يُسمَّى هلالًا ثلاثَ ليالٍ، ثُمَّ قمرًا، وقال بعضُهم: يُسمَّى هلالًا إلى أن يستديرَ، وقيلَ: إلى أنْ يُبهِرَ ضوءُه سوادَ اللَّيلِ، ثُمَّ قمرٌ، وهذا لا يكون إلَّا في اللَّيلةِ السَّابعةِ، وجمْعُهُ: أهلَّةٌ لأدنى العددِ وأكثرِه، ولا يُقَالُ: هَلَّ وحُكِيَ أيضًا، وقيلَ: هَلَّ: طلعَ.
          وأمَّا أثرُ ابنِ عُمَرَ فأخرجه ابنُ أبي شَيبَةَ عن وكيعٍ عن شَرِيكٍ عن إبراهيمَ بنِ مهاجرٍ عنه، وأخرجَه البَيْهَقيُّ مِنْ حديث عُبَيدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن نافعٍ عنه، قَالَ البَيْهَقيُّ: ورُوي ذَلِكَ أيضًا عَنِ ابنِ عُمَرَ عن أبيه وهو قولُ ابنِ مسعودٍ وابنِ الزُّبَيرِ، وقال ابنُ المُنْذِرِ: اختُلِفَ عَنِ ابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ في ذَلِكَ، فرُوِيَ عنهما كما قَالَ ابنُ مسعودٍ، ورُوي عنهما أنَّها ثلاثةٌ كاملة، قُلْتُ: وهو ما ذكره البُخاريُّ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ في باب قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة:196] كما سيأتي [خ¦1572]، وفي ليلة النَّحر عندنا وجهٌ، وفي قولٍ أنَّ ذا الحجَّة كلَّه وقتٌ للإحرام وهو شاذٌّ، وحُكِيَ عن مالكٍ وعُمَرَ، وحكى ابنُ حَبِيبٍ عنه كالأوَّل، وحكى القُرْطُبيُّ عنه: آخرُ أيامِ التَّشرِيقِ.
          قَالَ ابنُ القَصَّارِ: والأوَّلُ هو المشهور عنه وقال أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ وأحمد في جماعةٍ مِنَ الصَّحابة والتَّابعين بالأوَّل، فلو أحرمَ به في غيرِ وقتِه انعقدَ عُمْرَةً عَلَى الصَّحيحِ، وبه قَالَ عطاءٌ وطاوسٌ ومجاهدٌ وأبو ثَورٍ، ونقلَه الماوَرْدِيُّ عن عُمَرَ وابنِ مسعودٍ وجابرٍ وابنِ عبَّاسٍ، وقيلَ: لا ينعقدُ عُمْرَةً بل يتحلَّلُ بعملها، ونقلَه ابنُ المُنْذِرِ عَنِ الأوزاعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ، وقالَ داودُ: لا ينعقدُ أصلًا، وقال مالكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ والنَّخَعيُّ وأهلُ المدينةِ والثَّوريُّ: يجوز قبلَه بكراهةٍ.
          وفائدةُ الخلافِ تعلُّق الدَّمِ بمن أخَّرَ طوافَ الإفاضةِ عَلَى الزَّمَنِ الَّذي هو عنده آخر الأشهر، احتجَّ مَنْ منع بقوله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] فلو انعقدَ الإحرامُ بالحجِّ في غيرِها لم يكن لتخصيصها فائدةٌ، وبحديث الباب، واحتجَّ مَنْ ألزم بأنَّ ذِكْرَ اللهِ في هذِه الأشهرِ إنَّما معناه عندهم عَلَى التَّوسعةِ والرِّفقِ بالنَّاسِ والإعلامِ بالوقتِ الَّذي فيه يتأدَّى الحجُّ، فأخبرَهم تعالى بما يقرب منه، وبيَّن ذَلِكَ نبيُّه بقوله: ((الحجُّ عَرَفَة)) وبنحرِه يوم النَّحر، ورميِه الجمارَ في ذَلِكَ اليوم، فمَنْ ضيَّقَ عَلَى نفسِِه وأحرمَ به قبل أشهُرِه فهو في معنى مَنْ أحرمَ مِنْ بلدِه قبل الميقات، ويَعضُدُه قولُه تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمَّد:33] وقوله: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، ولم يخصَّ محرِمًا مِنْ مُحرمٍ، ولا يمتنع أن يجعلَ الله الأشهر كلَّها وقتًا لجواز الإحرامِ فيها، ويجعل شهورَ الحجِّ وقتًا للاختيار.
          وأثرُ ابنِ عبَّاسٍ أخرجه البَيْهَقيُّ مِنْ حديث يحيى بنِ زكريَّا بنِ أبي زائدةَ عَنِ الحجَّاجِ عَنِ الحكمِ عن أبي القاسم _يعني مِقْسَمًا مولى عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ بنِ نوفلٍ_ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ به، وأخرجه الحاكمُ في «مستدركه» بلفظ: ((لا يُحْرِمُ بِالحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، فإنَّ مِنْ سُنَّة الحجِّ أنْ يُحْرِمَ بالحجِّ في أَشْهرِ الحجِّ)) ثُمَّ قَالَ: صحيحٌ عَلَى شرطِهما ولم يخرجَاه، وقد جَرَتْ فيه مناظرةٌ بيني وبين شيخِنا أبي محمَّدٍ السَّبيعيِّ قَالَ: فقالَ: إنَّما رواه النَّاسُ عن أبي خالدٍ عَنِ ابنِ أَرْطأةَ عَنِ الحَكَمِ، فمِنْ أين جاءَ به شيخُكم عليُّ بنُ حمشاذٍ، حدّثَنَا محمَّدُ بنُ إسحاقَ بنِ خُزَيمَةَ حدَّثنا أبو كُرَيبٍ حدَّثنا أبو خالدٍ عن شُعْبَةَ عَنِ الحَكَمِ؟! فقُلْتُ له: تأمَّلْ ما تقولُ فإنَّ شيخَنا أتى بالإسنادين جميعًا، فكأنَّما ألقَمْتُه حَجَرًا، قُلْتُ: وهو قولُ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ كما سلف.
          وقوله: (وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ)، روى ابنُ أبي شَيبةَ عن عبدِ الأعلى عن يونسَ عن الحسنِ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ / أحرمَ مِنْ خُراسَانَ، فعاب عليه عثمانُ وغيرُه وكَرِهُوه، وبالكراهةِ قَالَ مالكٌ أيضًا خلافًا للشَّافعيِّ، وعن مالكٍ: يُكْرَهُ لِمَنْ قَرُبَ لأنَّه يتعمَّدُ مخالفةَ التَّوقيتِ، بخلافِ مَنْ بَعُدَ لغرضِ استدامةِ الإحرامِ، وهذا كتقدُّم رمضان بيومٍ أو يومين، بخلافِ مَنْ صامَ شعبانَ كلَّه.
          وقولُها: (فِي أَشْهُرِ الحَجِّ، وَلَيَالِي الحَجِّ، وَحُرُمِ الحَجِّ) ذَكَرَتْه تفخيمًا و تعظيمًا، ولذلك أَتَتْ بالظَّاهرِ مكان المضمرِ.
          وقولُها: (وَحُرُمِ الحَجِّ) قَالَ صاحبُ «المطالعِ»: هو بضمِّها كذا لهم، وضبطَه الأَصيليُّ بفتحِ الرَّاءِ: كأنَّه الأوقاتُ أو المواضعُ والأشياءُ والحالاتُ، وضمِّ الرَّاء: جمع حُرْمَةٍ، أي ممنوعاتُ الشَّرعِ ومحرَّماتِه، وفي هذا الموضع بيَّنَتْ أنَّ الأمرَ بالفسخِ كَانَ بسَرِف، وأنَّها أرادَتْ فَسْخَ الحجِّ فمُنِعَتْ.
          قَالَ عياضٌ: والَّذي تدلُّ عليه نصوصُ الأحاديثِ في «الصَّحيحين» وغيرهما: إنَّما قَالَ لهم ◙ بعد إحرامِه بالحجِّ، ويحتملُ أنَّه كرَّرَ الأمرَ بذلك في موضعين، وأنَّ العزيمة كانت آخِرًا حين أَمَرَهم بالفسخِ إلى العُمْرَةِ، وقالَ المُهَلَّبُ: إنَّما ذَكَرَتْ عائشةُ المآلَ لأنَّ سَرِفَ أوَّلُ حدودِ مكَّةَ وكانُوا أحرمُوا بحجٍّ أوَّلًا، فإنَّه قَالَ: (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً) ولو كانت قِرانًا لقالَ: فليجعلهما، وإنَّما أمر بالفسخ مَنْ أفردَ لا مَنْ قَرَنَ، ولا مَنْ أَهَلَّ بعُمْرَةٍ لأنَّه أَمَرَهم كلَّهم أن يجعلُوها عُمْرَةً ليتمتَّعُوا بالعُمْرَةِ إلى الحجِّ.
          وقولُها: (حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى، فَطَهَرْتُ) تريدُ: ثاني يوم النَّحرِ لأنَّ أيام مِنًى ثلاثةٌ بعد النَّحرِ.
          وقولُه: (يَا هَنْتَاهْ) أي يا هذِهِ، قَالَ صاحبُ «العين»: إذا أدخلُوا التَّاء في هَنٍ، فَتَحُوا النُّونَ فقالُوا: يا هَنَةُ، وإن زادوا التَّاءَ سَكَّنُوا النُّونَ فقالُوا: يا هَنْتَاهْ، ويا هَنْتُوهْ، وقالَ أبو حاتمٍ: يُقَالُ للمرأةِ: يا هَنْتُ أقبِلي استخفافًا، فإذا أَلحقتَ الزَّوائد قُلْتَ: يا هَنَاهْ للرَّجلِ ويا هَنْتَاهْ للمرأةِ، وقالَ أبو زيدٍ: تُلقَى الهاء في الدَّرْجِ فيُقَالُ: يا هَنَاهْ.
          وقالَ ابنُ التِّيْنِ: ضُبِطَ في روايةِ أبي ذرٍّ بإسكانِ النُّونِ، وفي روايةِ أبي الحسنِ بفتحِها، وكذا هو في «الصَّحَاحِ»، وقالَ: هو اسمٌ يلزمُه النِّدَاءُ مثل قوله: يا هذِهِ، مِنْ غير أن يُرادَ به مدحٌ ولا ذمٌّ، وقالَ ابنُ الأثيرِ: تُضَمُّ الهاءُ الأخيرة وتُسَكَّنُ، وفي التَّثنية: هَنْتَانِ، وفي الجمع: هَنَاتٌ، وفي المذكَّر: هَنٌ وهَنَانٌ وهَنُونَ، ولكَ أن تُلحِقَها الهاءَ لبيانِ الحركةِ فتقولُ: يا هَنُهْ، وأن تُشبِعَ الحركةَ فتصيرُ ألفًا فتقولُ: يا هَنَاهْ، ولك ضمُّ الهاءِ فتقولُ: يا هُناهْ أَقبل، وقال أبو نصرٍ: هذِه اللَّفظةُ مختصَّةٌ بالنِّداءِ، وقيلَ: معنى يا هَنْتَاهْ: يا بَلْهَاءُ، كأنَّها نُسِبَتْ إلى قلَّةِ المعرفةِ بمكائدِ النَّاسِ وشرورِهم.
          وقولُه: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَعَلَ) ظاهرُه التَّخيير، ولذلك كَانَ منهم الآخذُ والتَّارِكُ، لكنْ لَمَّا ظهرَ منه ◙ العزمُ حين عصته قالُوا: تَحَلَّلْنَا وسَمِعْنَا وأَطَعْنَا، وكانَ تردُّدُهم لأنَّهم ما كانُوا يرون العُمْرَةَ في أشهرِ الحجِّ جائزةً، فبيَّن لهم جواز ذَلِكَ.
          وقولُها: (فَمُنِعْتُ العُمْرَةَ) كذا هنا وفي بعضِ رواياتِ مسلمٍ، وفي بعضِها: ((سَمِعْتُ كَلَامَكَ مَعَ أَصْحَابِكَ فسَمِعْتُ بالعُمْرَةِ)) قَالَ عياضٌ: والأوَّلُ هو الصَّوابُ.
          ومعنى: (لا يَضِيرُكِ) لا يضرُّكَ، وفي بعضِ نسخِ البُخاريِّ: <لا ضَيْرَ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيرًا، ويُقَالُ: ضَارَ يَضُورُ ضَورًا، وضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا>.
          وقولها: (حَتَّى نَزَلَ المُحَصَّبَ) هو بضمِّ الميمِ وفتحِ الحاءِ، وفيه لغةٌ أخرى: الحِصَابُ بكسرِ الحاءِ، قَالَ أبو عُبَيدٍ: هو مِنْ حدودِ خَيفِ بني كنانةَ، وحدُّه مِنَ الحَجُونِ ذاهبًا إلى منًى وهو بطحاءُ مَكَّةَ، وقالَ في موضعٍ آخر: هو الخَيف، وهو إلى مِنًى أقربُ، وهو الأبطحُ وبطحاءُ مَكَّةَ، وقالَ غيرُه: هو اسمٌ لما بينَ الجبلين إلى المقبرةِ، وقال ياقوتٌ: هو غيرُ المحصَّبِ، موضعُ رمي الجِمَارِ بمِنًى، قالَتْ عائشةُ: إنَّما نَزَلَه رَسُولُ اللهِ صلعم لأنَّه كَانَ أسمح لخروجِه وسيأتي [خ¦1765].
          زاد مسلمٌ: وليس بسُنَّةٍ وفيه عن أبي رافعٍ _وهو مِنْ أفرادِه_: لم يأمرني رَسُولُ اللهِ صلعم أن أنزلَه حين خَرَجَ مِنْ مِنًى، ولكن ضَرَبْتُ قُبَّتَه فجَاءَ فنَزَلَ، وكان عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صلعم، وزعم ابنُ حبيبٍ أنَّ مالكًا كَانَ يأمرُ بالتَّحصيبِ، ويستحبُّه وقال أبو حنيفةَ: سُنَّةٌ، وبه قَالَ النَّخَعيُّ وطاوسٌ وابنُ جُبَيْرٍ وقال ابنُ المُنْذِرِ: كَانَ ابنُ عُمَرَ يراه سُنَّةً، وقالَ نافعٌ: ((حَصَّبَ النَّبِيُّ صلعم والخُلَفاء بَعْدَهُ)) أخرجَه مسلمٌ، وكما قَالَ مالكٌ قَالَ الشَّافعيُّ.
          وقالَ عياضٌ: هو مستحبٌّ عندَ جميعِ العلماءِ، وهو عندَ الحجازيِّين أوكدُ منه عند الكوفيِّين، وأجمعوا أنَّه ليس بواجبٍ، وعند الميمونيِّ: حَدَّثنا خالدٌ عَنِ ابن خِدَاشٍ حدَّثنا ابنُ وهبٍ أخبرَنا عَمْرٌو عن قتادةَ عن أنسٍ: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ بالمُحَصَّبِ، وَرَقَدَ رَقْدَةً، ثُمَّ نَفَذَ إلى البيتِ وَطَافَ بِهِ)) قَالَ: فقلتُ لأحمد: لِمَ كتبتَ هذا؟ قَالَ: إسنادٌ غريبٌ.