التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت

          ░145▒ بَابُ: إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ.
          1757- ذَكَرَ فيه حديثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِم، عن أَبِيهِ، عن عائشةَ: (أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ، فذُكِر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم فَقال: أَحَابِسَتُنَا...) الحديث وقد سلف.
          1758- 1759- وعن أَيُّوبَ، عَن عِكْرِمَةَ، أَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ سَأَلُوا ابن عَبَّاسٍ عَنِ امْرَأَةٍ طَافَتْ ثمَّ حَاضَتْ، قال لَهُمْ: تَنْفِرُ، قالوا له: لَا نَأْخُذُ بِقَولِكَ ونَدَعُ قَولْ زَيدٍ، قال: إِذَا قَدِمْتُمُ المَدِينَةَ فَسَلُوا، فَقَدِمُوا المَدِينَةَ فَسَأَلُوا، فَكَانَ فيمَنْ سَأَلُوا أُمُّ سُلَيمٍ، فَذَكَرَتْ حديثَ صَفِيَّةَ، رَواهُ خَالِدٌ وقَتَادَة، عن عِكْرِمَةَ.
          1760- 1761- ثمَّ سَاقَ مِنْ حَدِيثِ ابنِ طاوسٍ، عَن أَبِيهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال: (رُخِّصَ لِلْحِائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ).
          قال: وسَمِعْتُ ابن عمر يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْفِرُ، ثمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَرَخَصَ لَهُنَّ.
          1762- ثمَّ ذَكَرَ حديثَ الأسْودِ، عن عائشة: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم لَا نَرَى إِلَّا الحَجَّ...) وذكر الحديث، فَحَاضَتْ هِيَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا مِنْ حَجِّنَا، فَلَمَّا كَانَتْ لَيلَةَ الحَصْبَةِ، لَيلَةَ النَّفْرِ، قلت يَا رَسُولَ اللهِ: كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ غَيرِي، قال: (مَا كُنْتِ تَطَوَّفْتِ بِالْبَيتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا؟) قُلْتُ: بلى، وقال مُسَدَّدٌ: لَا، وتَابَعَهُ جَرِير، عن مَنْصُورٍ في قوله: لَا.
          قال: (فَاخْرُجِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ) فَأَهللتُ بِعُمْرَةٍ، وحَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقال النَّبِيُّ صلعم: (عَقْرَى حَلْقَى، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟) قالتْ: بَلَى، قال: (فَلَا بَأْسَ، انْفِرِي).
          الشَّرْحُ: حديث عائشةَ الأوَّل سلف كما قدَّمناه، وحديث عِكْرِمة مِنْ أفراد البخاريِّ، وكذا قول طاوسٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ.
          وحديثُ عائشة أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، والصَّوابُ في حديث عائشةَ _كما قال ابنُ بَطَّالٍ_ روايةُ مسدَّد وجَرِيرٍ عن منصورٍ، وقد بان ذلك في حديث أبي معاويةَ أنَّها قالت: ((فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ))، وقال فُلَيْحٌ: ((فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ))، فقال ◙: ((افْعَلِي...)) الحديث، ((فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ)) فلمَّا قدمنا مِنًى طَهُرْتُ، فذكر أنَّ عائشة لم تكن متمتِّعةً لأنَّها لم تَطُفْ بالبيت حِينَ قَدِمَتْ مَكَّةَ كما طاف مَنْ فَسخ حجَّه في عمرةٍ مِنْ أجل حيضها ولذلك قالت: (كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وعُمْرَةٍ غَيرِي)، فاعتمرتْ مِنَ التَّنعيم، ودلَّ أيضًا أنَّها لم تكن قارنةً، ولو كَانَت قارنةً لم تأسَف على فَوات العُمرة، ولا قالت ما قالت، فثَبت أنَّها مُفرِدةٌ.
          ومعنى هَذَا الباب أنَّ طوافَ الوداعِ سَاقطٌ عن الحائض لأنَّه ◙ لمَّا أُخبر عن صَفِيَّةَ أنَّها حاضت قال: (أَحَابِسَتُنَا هِيَ) فلما أُخبر أنَّها قد أفاضت قبل أن تحيضَ قال: (فَلا إِذَنْ) وهو قولُ عوامِّ أهل العلم، وخالف ذلك طائفةٌ فقالوا: لا يحلُّ لأحدٍ أن ينفِرَ حتَّى يَطُوف طوافَ الوداع، ولم يعذروا في ذلك حائضًا بحيضها، ذكره الطَّحَاوِيُّ.
          قال ابنُ المنذِرِ: ورُوِيَ ذلك / عن عمرَ وابنه وزيد بن ثابتٍ، قال: فأمَّا زيدُ بن ثابت وابنُ عمر فقد رُوِّينا عنهُما الرُّجوع، وقولُ عمر يردُّه الثَّابت عن رسول الله صلعم أنَّه أمرَها أن تَنْفِر بعد الإفاضة، ومِنْ هذا الحديث قال مَالِكٌ: لا شيءَ على مَنْ ترك طوافَ الوداع حتَّى يرجع إلى بلاده لسقوطه عن الحائض.
          وفيه: رَدُّ قول عطاءٍ والكُوفِيِّينَ والشَّافعيِّ ومَنْ وافقه أنَّ مَنْ لم يودِّع البيتَ فعليه دمٌ، فقولهم خلافُ حديث صَفيَّة، قلتُ: لا، فحديث صَفيَّة رُخصةٌ للحائض لا يتعدَّاها لغير المعذور، والنُّفَساءُ في هذا كالحائض، والظَّاهر أنَّ المعذور كالخائف مِنْ ظالمٍ، أو فوت رُفْقةٍ، أو معسرٍ، ونحو ذلك كذلك.
          وفي قوله: (أَحَابِسَتُنَا هِيَ) دليلٌ أنَّ طواف الإفاضة يَحبس الحائض بمَكَّةَ لا تبرحُ حتَّى تطوف للإفاضة لأنَّه الرُّكن فيه، وعلى هذا أئمَّة أهل العلم.
          قال مَالِكٌ: إذا حاضت المرأة بمِنًى قبل أن تُفيض حُبس عليها كَرِيُّهَا أكثرَ ما يَحبس النِّسَاءَ الدَّمُ، قال ابنُ عبد الحَكَم: ويُحبس على النُّفَساء أقصى ما يحبس النِّسَاءَ الدَّمُ في النِّفاس، ولا حُجَّة للكَرِيِّ أن يَقُولُ: لم أعلم أنَّها حاملٌ، قال مَالِكٌ: وليس عليها أن تُعينَه في العَلَف، وقال ابنُ المَوَّاز: كنتُ أعرفُ حبس الكَرِيِّ حيث يحبس وحده يعرض لقطع الطَّريق، وقال الشَّافعيُّ: ليس على حَمَّالِها أن يُحبَس عليها، ويُقال لها: احملي مكَانَك مثلَك.
          وقوله: (عَقْرَى حَلْقَى) فيه توبيخُ الرَّجلِ أهلَه على ما يدخل على النَّاس بسببها، كما وبَّخ الصِّدِّيقُ عائشةَ في قصَّة العِقد.