التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن

          ░18▒ بابُ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ
          وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ: يَشمُّ المُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي المِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ، الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الهِمْيَانَ، وَطَافَ ابنُ عُمَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ، / وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا.
          1537- 1539- ثُمَّ أسندَ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابنُ عُمَرَ يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ فقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَأَنَّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلعم وَهُوَ مُحْرِمٌ).
          وعَنِ القَاسِمِ عَنْها: (كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلعم لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ).
          الشَّرحُ: هذِه التَّرجمة بعضُ ألفاظِها يأتي في بابِ ما يلبسُ المُحرِمُ مِنَ الثِّيَابِ قريبًا مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ ☺: ((انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلعم مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ، وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ)) الحديثَ [خ¦1545]، وهو رَدٌّ لما زَعَمَ بعضُهم مِنْ أنَّ حديثي البابِ لا مطابقةَ فيهما إذْ لا ترجيلَ فيهما بل في قولِها: (في مَفَارِقِ رَسُولِ الله صلعم) ما يُرشدُ إليه، إذ الشَّعْرُ لا ينفرقُ غالبًا إلَّا به.
          وأمَّا أثرُ ابنُ عبَّاسٍ فأخرجَه البَيْهَقيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ مِنْ حديثِ أيُّوبَ عن عكرمةَ عنه أنَّه كَانَ لا يرى بأسًا للمُحرِمِ أن يشَمَّ الرَّيحانَ، وكذا الدَّارَقُطْنيُّ بلفظِ: المُحرِمُ يشَمُّ الرَّيحَانَ، ويدخلُ الحَمَّامَ، وينزعُ ضرسَه ويفقأُ القرحةَ وإنِ انكسرَ ظفرُه أماطَ عنه الأذى، وأخرجَه ابنُ أبي شَيبةَ مِنْ حديثِ هشامِ بنِ حَسَّانَ عن عكرمةَ عنه: لا بأسَ أن ينظرُ في المرآةِ وهو مُحرِمٌ، ومِنْ حديثِ الضَّحَّاكِ عنه: إذا تشقَّقَتْ يدُ المُحرِمِ أو رِجْلَاه فليدهنْهما بالزَّيتِ أو بالسَّمنِ، ومِنْ حديثِ أشعثَ عن عكرمةَ عنه: يتداوى المُحرِمُ ما يأكلُ، ثُمَّ أخرجَ مِنْ حديثِ عطاءٍ: لا بأسَ أن ينظرَ فيما يميطُ عنه الأذى، ومِنْ حديثِ نافعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ لم يرَ بأسًا أن ينظرَ المُحرِمُ في المرآةِ، وعن طاوسٍ وعكرمةَ مثلُه، وعَنِ ابنِ عُمَرَ يتداوى المُحرِمُ بأيِّ دواءٍ شاءَ إلَّا دواءً فيه طِيبٌ، وكانَ الأسودُ يُضَمِّدُ رِجْلَه بالشَّحْمِ وهو مُحرِمٌ، وعن أشعثَ بنِ أبي الشَّعثاءِ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أبا ذرٍّ يقولُ: لا بأسَ أن يتداوى المُحرِمُ بما يأكلُ، وفي روايةٍ: حَدَّثَنِي مُرَّةُ بنُ خالدٍ عن أبي ذرٍّ وعَنْ مُغِيْثٍ البَجَلِيِّ قَالَ: أَصَابَنِي شُقَاقٌ وأنا مُحرِمٌ فسَأَلْتُ أبا جعفرٍ فقالَ: ادهَنْهُ ممَّا تأكلُ، وكذا قَالَه ابنُ جُبَيْرٍ وإبراهيمُ وجابرُ بنُ زيدٍ ونافعٌ والحسنُ وعُرْوَةُ.
          وعَنِ الحسينِ بنِ عليٍّ: أنَّه كَانَ إذا أَحرَمَ ادَّهَنَ بالزَّيتِ ودهنَ أصحابه بالطِّيبِ أو يُدَّهِنُ بالطِّيبِ، وعَنِ ابنِ عُمَرَ: أنَّه كَانَ يدَّهنُ بالزَّيتِ قبلَ أن يُحرِمَ، ورواه التِّرْمِذيُّ عنه مرفوعًا ثُمَّ قَالَ: غريبٌ لا نعرفُه إلَّا مِنْ حديثِ فَرْقَدٍ ولفظُه: بالزَّيتِ وهو مُحرِمٌ غير المُقَتَّتِ قَالَ أبو عيسى: هو المُطَيَّبُ.
          قُلْتُ: وقد رُوِيَ عن بعضِ مَنْ أسلَفْنَاه ما قد يخالفُه، ففي البَيْهَقيِّ بإسنادٍ جيِّدٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّهُ كَانَ يكرهُ شَمَّ الرَّيحانِ للمُحرِمِ، وعن أبي الزُّبَيرِ عن جابرٍ سماعًا: يسألُ عَنِ الرَّيحانِ أيَشَمُّه المُحرِمُ؟ والطِّيبَ والدُّهنَ؟ فقالَ: لا، ولابنِ أبي شَيبةَ عن طاوسٍ: لا ينظرُ المُحْرِمُ في المرآةِ، وعن مجاهدٍ: إن تداوى بالسَّمنِ أو الزَّيتِ فعليه دمٌ، وعَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّه كَرِهَ أن يُداويَ المُحرِمُ يده بالدَّسَمِ، وعن جابرٍ إذا شَمَّ المُحرِمُ ريحانًا أو مَسَّ طيبًا أهراق لذلك دمًا، وعن إبراهيمَ: في الطِّيبِ الفديةُ وعن عطاءٍ: إذا شَمَّ طيبًا كَفَّرَ، وعنه إذا وضعَ المُحرِمُ عَلَى شيءٍ منه دُهنًا فيه طِيبٌ فعليه الكفَّارةُ.
          وقولُه: (يَشمُّ) الأفصحُ فيه فتحُ الشِّينِ، وفي لغةٍ ضَمُّها، وماضيه المتَّصِلُ مكسورٌ وفي لغةٍ فتحه، ومعناه: استنشاقُ الرَّائِحَةِ، وقد يُستَعَارُ في غيرِ ذَلِكَ في كلِّ ما قاربَ شيئًا أو دنا منه، وجاءَ في مصدرِه عَلَى فِعَيْلَى، والرَّيحَانُ: ما طابَ ريحُه مِنَ النَّبَاتِ كلِّه، الواحدةُ رَيحَانَةٌ.
          وأمَّا أثرُ عطاءٍ فأخرجَه ابنُ أبي شَيبةَ مِنْ حديثِ هشامِ بنِ الغازِ عنه: لا بأسَ بالخاتمِ للمُحرِمِ، ومِنْ حديثِ العلاءِ عنه به، ومِنْ حديثِ أبي إسحاقَ عنه، وأخرجَه مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ بمثلِه بإسنادٍ جيِّدٍ، وعَنِ النَّخَعيِّ ومجاهدٍ مثله، وقالَ خالدُ بنُ أبي بكرٍ: رأيْتُ سالِمًا يلبسُ خاتمَه وهو مُحرِمٌ، وكذا قالَه إسماعيلُ بنُ عبدِ الملكِ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ.
          ومعنى (يَتَخَتَّمُ): يلبسُ الخاتَمَ، وفيه ستُّ لغاتٍ: فتحُ التَّاءِ وكسرُها، وخاتامٌ وخَيْتَامٌ وخِتَامٌ وخَتْمٌ، حكى الأخيرتين ابنُ جِنِّي في «شرحِ المتنبِّي»، واختُلِفَ في قولِ الأعشى:
وَصَهْباءُ طَافَ يَهُودُ بِهَا                     وَأَبْرَزَها وعلمها خَتَمْ
          فقيلَ: أرادَ الخاتمَ، وقيلَ: خَتَمَ فِعْلٌ ماضٍ أي: وخَتَمَ عليها، والجمعُ خواتِمُ وخَياتيمُ وخياتِمُ، وكان العَجَّاجُ يهمزُ الخاتمَ ثمَّ قَالَ الصُّوْليُّ: إن كَانَ الهمزُ مِنْ لغتِه في الخاتمِ والعالمِ فشعرُه مستوٍ وهو قولُه:
مُبارَكٌ لِلْأَنْبِيَاءِ خَأْتَمِ                     ............
............                     وَخِنْدِفٌ هامةُ هَذَا العَأْلَمِ
          و(الهِمْيَانَ) يأتي، وأثرُ ابنِ عُمَرَ أخرجَه الشَّافعيُّ في «مسندِه»: أخبرَنا سعيدٌ عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ عن هشامِ بنِ حُجَيْرٍ عن طاوسٍ قَالَ: رأيْتُ ابنَ عُمَرَ يسعى بالبيتِ وقد حَزَمَ عَلَى بطنِه بثوبٍ، وعن سعيدٍ عن إسماعيلَ بنِ أُمَيََّة أنَّ نافعًا أخبرَه أنَّ ابنَ عُمَرَ لم يكنْ عَقَدَ الثَّوبَ عليه إنَّما غَرَزَ طرفَه عَلَى إزارِه، وقال ابنُ أبي شَيبةَ في «مصنَّفِه»: حَدَّثَنا ابنُ فُضَيلٍ عن ليثٍ عن عطاءٍ وطاوسٍ قالَا: رأينا ابنَ عُمَرَ وهو مُحرِمٌ وقد شَدَّ حِقْوَيه بعمامةٍ، وحَدَّثَنا ابنُ عُيَينةَ عن هشامِ بنِ حُجَيْرٍ قَالَ: رأى طاوسٌ ابنَ عُمَرَ يطوفُ وقد شَدَّ حِقْوَيه بعمامةٍ، وحَدَّثَنا وكيعٌ عَنِ ابنِ أبي ذئبٍ عن مسلمِ بنِ جُندُبٍ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يقولُ: لا تعقدْ عليكَ شيئًا وأنتَ مُحرِمٌ وفي «صحيحِ الحاكمِ» وقالَ: صحيحٌ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ قَالَ: ((حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلعم وأَصْحابُه مُشَاةٌ فَقَالَ: ارْبطُوا عَلَى أَوْسَاطِكُم بِأُزُرِكُمْ ومَشْيًا خِلْطَ الْهَرْوَلَةِ)) سَلَفَ.
          وأمَّا حديثُ عائشةَ فأخرجَه مسلمٌ والأربعةُ، ومُحَمَّدُ بنُ يوسفَ في السَّنَدِ الأَوّلِ هو الفِرْيَابيُّ، وسفيانُ هو ابنُ سعيدٍ، وهو حديثٌ لا يُختَلَفُ في صحَّتِه وثبوتِه، وأنكرَ ابنُ حَزْمٍ روايةَ عائشةَ: ((ثُمَّ أصبحَ رَسُولُ اللهِ صلعم مُحْرِمًا))، وقالَ: هو لفظٌ مُنْكَرٌ ولا خلافَ / أنَّه إنَّما أحرمَ بعدَ صلاةِ الظُّهرِ بذي الحُلَيْفَةِ كما قَالَ جابرٌ في حديثِه الطَّويلِ، ولعلَّ قولَها إنَّما كَانَ منه في عُمْرَةِ القضاءِ أو الحديبيَةِ أو الجِعِرَّانَةِ.
          إذا تقرَّرَ ذَلِكَ فالكلامُ عَلَى ما في البابِ مِنْ أوجهٍ:
          أحدُها: أجازَ الطِّيبَ قبلَ الإحرامِ مِنَ الصَّحَابَةِ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ ومعاويةُ وابنُ عبَّاسٍ وأبو سعيدٍ الخُدْرِيِّ وابنُ الزُّبَيرِ وعائشةُ وأمُّ حَبِيبَةَ، ومِنَ التَّابعين عُرْوَةُ والقاسمُ بنُ محمَّدٍ والشَّعْبيُّ والنَّخَعيُّ، وبه قَالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ وأبو حنيفةَ وأبو يوسفَ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثَوْرٍ وابنُ المُنْذِرِ وإبراهيمُ في روايةٍ، وحكاه ابنُ حَزْمٍ عَنِ البراءِ بنِ عازبٍ وأنسٍ وأبي ذرٍّ والحسينِ بنِ عليٍّ وابنِ الحَنَفِيَّةَ والأسودِ وسالمٍ وهشامِ بنِ عُرْوَةَ وخارجةَ بنِ زيدٍ وابنِ جُرَيْجٍ وسعيدِ بنِ سعيدٍ.
          واحتجُّوا بحديثِ عائشةَ في البابِ، واعتلَّ مَنْ لم يجزْه بما سَلَفَ في البابِ قبلَه أنَّهُ مِنْ خَوَاصِّه قَالَه ابنُ القَصَّارِ والمُهَلَّبُ وأبو الفرجِ في «شرحِ اللُّمَعِ»، زادَ المُهَلَّبُ معنًى آخرَ أنَّه خُصَّ به لمباشرتِه الملائكة بالوحي وغيرِه.
          وفي الثَّوبِ عندَنا وجهان، والأصحُّ جوازُه لا استحبابُه، وقيل: يُستَحَبُّ، وادَّعَى بعضُهم الإجماعَ عَلَى أنَّه لا يُستَحَبُّ في الثَّوبِ كما ستعلمُه، والخلافُ ثابتٌ، وسواءٌ فيه ما بقي لونُه وغيرُه، وقالَ أشهبُ: لا فديةَ عَلَى مَنْ تَطَيَّبَ لإحرامِه، وخالفَه بعضُ القَرَوِيِّين، واختلفت فيه الرِّواية عن مُحَمَّدِ بنِ الحسنِ فيما حكاه الطَّرطوشيُّ قَالَ ابنُ حَزْمٍ: وأمَّا الرِّوَايَةُ عن عُمَرَ في كراهتِه فقد رُوِّينا عنه أنَّهُ لمَّا شَمَّهُ مِنَ البراءِ لم ينهَه عنه وإنَّما قَالَ: عَلِمْنا أنَّ امرأتَك عَطِرَةٌ، وأمَّا ابنُه فقد رجعَ عنه فلم يبقَ إلَّا عثمانُ وحدَه قَالَ: وأمَّا ما رَوَوه في الحديثِ عن عائشةَ: ((طَيَّبْتُهُ بِطِيْبٍ لَا يُشْبِهُ طِيبَكُمْ هَذَا)) تعني: ليسَ له بقاءٌ، فليسَ مِنَ الحديثِ إنَّما هو ظَنٌّ ممَّن رواه عنها والظَّنُّ أكذبُ الحديثِ، قُلْتُ: وعَنِ ابنِ عُمَرَ: لا آمرُ به ولا أنهى عنه.
          ثانيها: الطِّيبُ بعدَ رمي جمرةَ العقبةِ رَخَّصَ فيه ابنُ عبَّاسٍ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وابنُ الزُّبَيرِ وعائشةُ وابنُ جُبَيْرٍ والخُدْرِيُّ والنَّخَعِيُّ وخارجةُ بنُ زيدٍ، وهو قولُ الكوفيِّين والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثَورٍ عملًا بحديثِ عائشةَ في البابِ، وكَرِهَه سالمٌ ومالكٌ، قَالَ ابنُ القاسمِ: ولا فديةَ لما جاء في ذَلِكَ.
          قَالَ التِّرْمِذيُّ: والعملُ عَلَى حديثِ عائشةَ عندَ أكثرِ أهلِ العلمِ والصَّحَابَةِ وغيرِهم، ورُوِيَ عن عُمَرَ مَنْعُه، وإليه ذَهَبَ بعضُ أهلِ العلمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وغيرِهم، وهو قولُ أهلِ الكوفةِ.
          وقَالَ أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البرِّ: إنَّ مذهبَ عُمَرَ وعثمانَ وابنِ عُمَرَ وعثمانَ بنِ أبي العاص أنَّه يَحرُمُ عليه الطِّيبُ حَتَّى يَطُوفَ بالبيتِ قَالَ: وبه قَالَ عطاءٌ والزُّهْريُّ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وابنُ سِيرِينَ والحسنُ، وإليه ذَهَبَ مُحَمَّدُ بنُ الحسنِ وهو اختيارُ الطَّحاويِّ.
          وعبارةُ الطرطوشيِّ: يُكرَهُ الطِّيبُ المؤنَّثُ كالمسكِ والزَّعْفَرَانِ ونحوهما، فإن تَطَيَّبَ وأحرمَ به فعليه الفديةُ قَالَ: فإن أكلَ طعامًا فيه طِيبٌ، فإن كانَتِ النَّارُ مَسَّتْه فلا شيءَ عليه وإلَّا فوجهان، وأمَّا غيرُ المؤنَّثِ مثل الرَّياحين والياسمين والوردِ فليسَ مِنْ ذَلِكَ ولا فديةَ فيه أصلًا.
          وذَكَر الهَرَوِيُّ في «غريبه» في الهمزةِ مع النَّونِ في حديثِ إبراهيمَ: أنَّهم كانُوا يكرهون المؤنَّثَ مِنَ الطِّيبِ ولا يرون بذكورتِه بأسًا، قَالَ شَمِرٌ: أرادَ بالمؤنَّثِ طِيبَ النِّسَاءِ كالخَلُوقِ والزَّعْفَرَانِ، وذكورتُه ما لا يكونُ للنِّسَاءِ كالمسكِ والغاليةِ والكافورِ والعودِ وما أشبهَها، ومثله ذَكَارَةُ الطِّيبِ.
          فرعٌ: الحنَّاءُ عندَنا ليس طِيبًا خلافًا لأبي حنيفةَ، وعندَ مالكٍ وأحمدَ أنَّ فيه الفديةَ، قالَتْ عائشةُ: وَكَانَ ◙ يَكْرَهُ ريحَه، أخرجَه ابنُ أبي عاصمٍ في كتابِ «الخضابِ»، وكَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ، فلو كَانَ طِيبًا لم يَكرَهْهُ.
          ثالثُها: اختلفَ في شَمِّ الرَّيحانِ الفارسيِّ والمَرْزَنْجُوشِ واللَّيْنُوفَرِ والنَّرْجِسِ عَلَى قولين عندَنا: أحدُهما: يجوزُ لقولِ ابنِ عبَّاسٍ السَّالفِ، ورُوِيَ عن عثمانَ أنَّه سُئِلَ عَنِ المُحرِمِ يدخلُ البستانَ قَالَ: نعم، ويشَمُّ الرَّيحانَ.
          قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ولأنَّه ليسَ مِنْ مؤنَّثِ الطِّيبِ، وأصحُّهما: لا يجوزُ لأنَّه يُرَادُ للرَّائحةِ فهو كالوردِ والزَّعفرانِ ففيه الفديةُ، وبه قَالَ ابنُ عُمَرَ وجابرٌ والثَّوريُّ ومالكٌ وأبو حنيفةَ وأبو ثَورٍ، إلَّا أنَّ مالكًا وأبا حنيفةَ يقولان: يحرمُ ولا فديةَ، واختُلِفَ في الفديةِ عن عطاءٍ وأحمدَ كما قالَه ابنُ المُنْذِرِ وممَّن جَوَّزَه، وقالَ هو حلالٌ ولا فديةَ فيه: عثمانُ وابنُ عبَّاسٍ والحسنُ ومجاهدٌ وإسحاقُ، ونقلَه العَبْدَريُّ عن أكثرِ العلماءِ.
          رابعُها: النَّظَرُ في المرآةِ جائزٌ للمُحرِمِ، كما قالَه ابنُ عَبَّاسٍ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأجازَه جمهورُ العلماءِ وكانَ أبو هريرةَ يفعلُه، وقالَ مالكٌ: لا ينظرُ فيها إلَّا مِنْ ضرورةٍ.
          خامسُها: الأدهانُ غيرُ المطيَّبةِ لا يَحرُمُ عَلَى المُحرِمِ استعمالُها في بدنِه، ويحرُمُ عليه في شعرِ رأسِه ولحيتِه خلافًا للحسنِ بنِ حيٍّ وداودَ.
          قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: أجمعَ العلماءُ أنَّ للمُحرِمِ أن يأكلَ الزَّيتَ والشَّحمَ والسَّمنَ والشَّيْرَجَ، وأنَّ له أن يستعملَ ذَلِكَ في جميعِ بدنِه سوى رأسِه ولحيتِه، فإن استعملَه فيهما افتدى، وأجمعُوا أنَّ الطِّيبَ لا يجوزُ استعمالُه في بدنِه، ففرَّقُوا بينَ الطِّيبِ والزَّيتِ في هذا الوجهِ، فقياسُ هذا أن يكونَ المُحرِمُ ممنوعًا مِنِ استعمالِ الطِّيبِ في رأسِه كما مُنِعَ في بدنِه، وأن يحبُّ له استعمالُ الزَّيتِ والسَّمنِ في رأسِه كما أُبيحَ له في بدنِه، وكلُّهم أوجب في دهنِ البَنَفْسجِ الفدية إلَّا الشَّافعيَّ فإنَّه قَالَ: ليسَ بطيبٍ، وإنَّما يُستَعمَلُ للمنفعةِ.
          وقالَ مالكٌ في الأدهانِ غيرِ المطيَّبةِ: لا يجوزُ أن يدهنَ بها أعضاءَه الظَّاهرةَ كالوجهِ واليدينِ والرِّجلينِ / ويجوزُ دهنُ الباطنةِ، وهو ما يُوارَى باللِّباسِ وبه قَالَ أبو حنيفةَ في السَّمنِ والبزر، وقَالَ في الزَّيتِ والشَّيْرجِ: يحرمُ استعمالُه في الرَّأسِ والبدنِ، وقالَ أحمدُ: إذا ادَّهنَ بزيتٍ أو شَيْرجٍ فلا شيءَ عليه في أصحِّ الرِّوايتينِ سواءٌ دهن بدنه أو رأسه.
          وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: المُحرِمُ ممنوعٌ مِنَ الأدهانِ المطيَّبِ وغيرِه، وذَكَرَ ابنُ حبيبٍ عَنِ اللَّيثِ إباحةَ ذَلِكَ بما يجوزُ أكلُه مِنَ الأدهانِ، وهو قولُ عُمَرَ وعليٍّ، قَالَ: ودليلُ قولِ مالكٍ أنَّه معنًى ينافي الشَّعَثَ، فمُنِعَ منه كالتَّطيُّبِ والتَّنظيفِ في الحمَّامِ قَالَ: وقيلَ: في معنى قولِ ابنِ عُمَرَ: يدَّهنُ بالزَّيتِ أي: بعدَ الغسلِ وقبلَ الإحرامِ لأنَّ الزَّيتَ بعدَ الإحرامِ يزيلُ الشَّعثَ، فإن فعلَ فقَالَ مالكٌ عندَ ابنِ حَبِيبٍ: يفتدي، واختارَ ابنُ حَبِيبٍ أن لا فديةَ عليه.
          سادسُها: قولُ عطاءٍ: (يَتَخَتَّم) قَالَ مالكٌ مثلَه في «مختصرِ ما ليسَ في المختصرِ» قَالَ اللَّخْمِيُّ في «تبصرتِه»: والمعروفُ مِنْ قولِه المنعُ.
          سابعُها: (التُّبَّانُ) لُبسُه حرامٌ عندَنا كالقميصِ والدُّرَّاعَةِ والخُفِّ والرَّانِ ونحوِها، فإن لَبِسَ شيئًا مِنْ ذَلِكَ مختارًا عامِدًا أثِمَ وأزالَه وافتدَى سواءٌ قَصُرَ الزمانُ أو طالَ، وحملَ ابنُ التِّيْنِ قولَ عائشةَ أنَّها تريدُ به النِّسَاءَ لأنَّهُنَّ يلبسْنَ المخيطَ، و(التُّبَّانُ): سراويلُ قصيرٌ.
          وله أن يتقلَّدَ المصحفَ وحَمَائلَ السَّيفِ، وأن يشدَّ الهِمْيَانَ والمِنطَقَةَ في وسطِه ويلبسَ الخاتمَ مِنْ غيرِ خلافٍ فيه، وقالَ ابنُ عُمَرَ في أصحِّ الرِّوايتين عنه بكراهةِ الهِمْيَانِ والمِنطَقَةِ، وبه قَالَ مولاه نافعٌ، وهو ما في «الموطَّأِ» فقيلَ: يحتملُ أن يُرِيدَ بذلك لبسَها للتَّرَفُّهِ مِنْ فوقِ الثِّيابِ، وإن لبسَها بذلكَ افتدَى، كذا ذكرَه ابنُ التِّيْنِ قَالَ: واختُلِفَ في شدِّ المِنطَقَةِ في العضدِ هل يوجبُ فديةً؟ فأوجبَها أصبغُ وخالفَه ابنُ القاسمِ، ومَنْ شَدَّ مِنطَقَةً لغيرِ ضرورةٍ يجري عَلَى الخلافِ فيمَنْ تقلَّدَ سيفًا لغيرِ ضرورةٍ هل يفتدي؟ قَالَ: والصَّوابُ في الخاتمِ والسَّيفِ شبهُ ذَلِكَ أنَّه لا فديةَ لأنَّه غيرُ لابسٍ.
          وأجمعَ عوامُّ أهلِ العلمِ عَلَى أنَّ للمُحرِمِ أن يعقدَ الهِمْيَانَ عَلَى وسطِه، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ وسعيدِ بنِ المسيِّبِ والقاسمِ وعطاءٍ وطاوسٍ والنَّخَعيِّ، وهو قولُ مالكٍ والكوفيِّين والشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي ثَورٍ غيرَ إسحاقَ فقَالَ: لا يعقدُه، وقال: لا يدخلُ السُّيُورُ بعضها في بعضٍ.
          وسُئِلَتْ عائشةُ عَنِ المِنطَقَةِ فقالَتْ: أوثقْ عليكَ نفقتَكَ وقالَ ابنُ عُليَّةَ: قد أجمعُوا أنَّ للمُحرِمِ أن يعقدَ الهِمْيَانَ والإزارَ عَلَى وسطِه، فكذلك المِنطَقَةِ، وقولُ إسحاقَ لا يُعدُّ خلافًا ولا حظَّ له في النَّظَرِ لأنَّ الأصلَ النَّهي عن لباسِ المخيطِ، وليس هذا مثله فارتفعَ أن يكونَ له حكمه، وفي ابنِ عديٍّ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ: ((رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلعم في الهِمْيانِ للمُحْرِمِ)) ثُمَّ ضَعَّفَه.
          فائدةٌ: (الهِمْيَان) معروفٌ فارسيٌّ مُعَرَّبٌ، قالَه القزَّازُ وغيرُه بكسرِ الهاءِ، وهُِميَانُ بنُ قُحَافَةَ السَّعدِيُّ يُكسَرُ ويُضَمُّ، وفي «المغيثِ» قيلَ: هو فعلان مِنْ هَمَى بمعنى: سَالَ لأنَّه إذا أُفرِغَ هَمَى ما فيه، وفَسَّر ابنُ التِّيْنِ الهِميَانَ: بالمِنطَقَةِ، قَالَ: وإنَّما ذَلِكَ لتكونَ نفقتُه فيها، وأمَّا نفقةُ غيره فلا، وإن جعلَها في وسطِه لنفقتِه ثُمَّ نفدَتْ نفقتُه وكانَ معها وديعةٌ رَدَّها إلى صاحبِها، فإن تركَها افتدَى، وإن كَانَ صاحبُها غابَ بغيرِ علمِه فيبقيها ولا شيءَ عليه، وشَدَّ المِنطَقَةَ مِنْ تحتِ الثِّيَابِ.
          فرعٌ: اختُلِفَ في الرِّدَاءِ الَّذي يلتحفُ به عَلَى مئزرِه، فكانَ مالكٌ لا يرى عقدَه، وتلزمُه الفديةُ إن انتفعَ به ونهى عنه ابنُ عُمَرَ وعطاءٌ وعُرْوَةُ، ورخَّصَ فيه سعيدُ بنُ المسيِّبِ، وكَرِهَه الكوفيُّون وأبو ثَورٍ وقالُوا: لا شيءَ عليه إن فعلَ، وحُكِيَ عن مالكٍ أنَّه رَخَّصَ للعاملِ أن يحزمَ الثَّوبَ عَلَى مِنطَقَتِه، وكَرِهَه لغيرِه.
          وقولُه: (وَحَزَمَ ابنُ عُمَرَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ) إن أرادَ أنَّه شَدَّه فوقَ المئزرِ، فمالكٌ يرى عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الفديةُ كما سلف وإن باشرَ به البطنَ ليَجعلَ فيه نفقتَه فيكونُ كالهِميَانِ.
          خاتمةٌ: قولُ إبراهيمَ _يعني النَّخَعيَّ_ لسعيدِ بنِ جُبَيرٍ: ما تصنعُ بقولِ ابنِ عُمَرَ _فيما سَلَفَ_ أنَّه كَانَ يدَّهنُ بالزَّيتِ؟ فيه حُجَّةٌ أنَّ المفزعَ في النَّوازلِ إلى السُّنَنِ، وأنَّها مستغنيةٌ عن آراءِ الرِّجالِ، وفيها المَقنَعُ والحُجَّةُ البالغةُ وأنَّ مَنْ نزعَ بها عندَ الاختلافِ فقد فَلَجَ وغَلَبَ خَصْمَه.
          قَالَ ابنُ التِّينِ: وإنَّما قيلَ له: قَالَ ابنُ عُمَرَ: لا يَدَّهِنُ المُحرِمُ إلَّا بالزَّيتِ، فاحتجَّ بذلكِ ولا حُجَّةَ له فيه إن كَانَ ابنُ عُمَرَ فعَلَه وهو مُحرِمٌ لأنَّ الشَّارِعَ فَعَلَه قبلَ إحرامِه، فإن كَانَ فَعَلَه وهو غيرُ مُحرِمٍ كما سيأتي مِنَ التَّأويلِ فقد يَنفَصِلُ عن ذَلِكَ أيضًا، فإنَّه ◙ ادَّهَنَ بدُهْنٍ لا طِيبَ فيه، إذْ يكونُ فِعْلُهُ مخالِفًا لِفِعْلِنا كما سَلَفَ.