التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من فتل القلائد بيده

          ░109▒ بَابُ: مَنْ فَتَلَ القَلَائِدَ بِيَدِهِ.
          1700- ذَكَرَ فيه حديثَ عَمْرَةَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إلَى عائشةَ أنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قال: (مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الحَاجِّ حتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عائشةُ: لَيسَ كَمَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلعم بِيَدَيَّ، ثمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم بِيَدَهِ، ثمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ على رَسُولِ اللهِ صلعم شَيءٌ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الهَدْيُ).
          هذا الحَديثُ سلف فيما مَضى واضحًا، ومَنْ تابعَ ابنَ عَبَّاسٍ عليه، وقال ابنُ التِّينِ: خالفَه فيه جماعةُ الفُقهاءِ وعائشةُ، واحتجَّت بفعلِه ◙ وهي أعلَم النَّاسِ بذلك، وما روته في ذلك يجبُ أنْ يُصارَ إليه.
          ولعلَّ ابن عَبَّاسٍ رجعَ عن مقالته إنْ كَانَ بلغَهُ قولها، فقدْ رجعَ عن مسائل حِينَ أُعْلِمَ بما جاء فيها عن رسولِ اللهِ صلعم مِنْهَا كالمُتعَة، ونحوِ التَّفاضُل بين الذَّهبَين والفضَّتَين.
          وقولها: (لَيسَ كَمَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ) / ردٌّ لقوله وإظهارٌ لمخالَفَتِه، واحتجَّت على ذلك بفعلِ الشَّارعِ، وأعلَمته أنَّها المباشِرةُ له، وذلك يُؤكِّدُ معرفتَها به، لأنَّ الرَّاوي إذا باشرَ القصَّة رُجِّحَت رِوايتُه على روايةِ مَنْ لم يُباشِرها.
          وقولها: (ثمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم بِيَدِهِ) يحتمل أنْ تكونَ أرادَت بذلك تبْيِينَ حفْظِها الأمر ومعرِفتِها مَنْ تناولَ كلَّ شيءٍ مِنْهُ، ويدلُّ ذلك على اهتمامها بهذا الأمرِ، ومعرفتها به، ويحتمل أنَّها أرادَت أنَّه تَناولَ ذلك بنفسِه، وعَلمَ وقتَ التَّقليدِ لئلَّا يظنَّ أحدٌ أنَّه استباحَ محظورَ الإحرامِ بعدَ تقليدِ هديِهِ وقبْلَ عِلمِه، بلْ أقدَم على ذلك مَعَ عِلمِه.
          وقولها: (ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي) تريدُ عامَ تسعٍ، وابنُ عَبَّاسٍ كَانَ صغيرًا لم يشاهِد مِنْ أفعالِه ◙ إلَّا أواخرَها بِخِلَافِها فإنَّها رفَعَتِ الإشكالَ.
          ثمَّ اعلَم أنَّ الدَّاوُدِيَّ أوردَ حديثَ ابنِ المُسَيِّبِ عن أمِّ سَلَمَةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ ظُفْرِه وشَعْرِه شَيئًا))، ثمَّ قال: وإلى هذا ذهبَ ابنُ عَبَّاسٍ، قال: وقِيلَ: إنَّ ابنَ المُسَيِّبِ لم يسمَعْه مِنْ أمِّ سَلَمَةَ، بينَهُما عمرُو بنُ الحارثِ، قال: فإنْ لم يكنْ أحدُهما محفوظًا فأحدُ الحديثَين ناسِخٌ للآخَر، قلتُ: الحديثُ محفوظٌ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وقال الحاكِمُ: إنَّه على شرطِ البخاريِّ أيضًا، والحديثُ شَرَعَ في مُريدِ الأُضْحِيَّةِ أنْ يفعَل ذلك مِنْ ذِي الحِجَّة، فلا نسْخَ ولا تَعارُضَ.
          وفيه مِنَ الفِقهِ جوازُ امتِهانِ الخليفةِ والعالِمِ في الخِدْمةِ، وتناولِ بعضِ الأمورِ بنفسِهِ، وإنْ كَانَ لهُ مَنْ يكفيه، ولا سِيَّمَا فيما يكونُ مِنْ إقامَة الشَّرائعِ وأمورِ الدِّيانةِ.
          وفيه أيضًا إنكارُ عائشةَ على ابنِ عَبَّاسٍ واحتجَاجُها بفِعلِ رسولِ اللهِ صلعم وهيَ حُجَّة قاطِعةٌ.