التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: كيف تهل الحائض والنفساء

          ░31▒ بابٌ: كَيْفَ تُهِلُّ الحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ /
          أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الهِلاَلَ كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ، وَاسْتَهَلَّ المَطَرُ خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة:3] وهُوَ مِنِ اسْتِهْلاَلِ الصَّبِيَّ.
          1556- ذَكَرَ فيه حديثَ مالكٍ عَنِ ابنِ شهابٍ عن عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيرِ عن عائشةَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ فقالَ ◙ لها: (أَهِلِّي بِالحَجِّ وَدَعِي العُمْرَةَ...) الحديثَ بطولِه.
          وهذا الحديثُ أخرجَه مسلمٌ والأربعةُ، والكلامُ عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدُها: قوله (أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ) قَالَ ابنُ عرفةَ: الإهلالُ: رفع الذَّابح صوتَه بذكرِ اللهِ وقال ابنُ فارسٍ: أَهَلَّ الرَّجُلُ إذا كَبَّرَ عندَ نظرِه إلى الهلالِ أو غيرِه.
          وقولُه: (كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ) اعترضَه الدَّاوُديُّ فقالَ: إن أرادَ أن يُسمِّيَ الشَّيءَ بالشَّيءِ لما قاربَه فيحتملُ، وأمَّا نفسُ اللَّفظِ فهي مِنَ الصُّراخِ، أَلَا ترى أنَّ الصَّبيَّ يظهرُ مِنْ بطنِ أمِّه فلا يُقَالُ: استهلَّ حَتَّى يبكي.
          قَالَ: وقولُه: (وَاسْتَهَلَّ المَطَرُ خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ) هو الصَّوتُ لا مِنَ الظُّهورِ.
          وقولُه: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة:3] أي ذُبِحَ عَلَى الأصنامِ.
          ثانيها: خروجُها كَانَ هو في حَجَّةِ الوداعِ سنةَ عشرٍ مِنَ الهجرةِ، ولم يحجَّ ◙ مِنَ المدينةِ بعدَ الهجرةِ غيرها، وأمَّا قبلها _لَمَّا كَانَ بمكَّةَ_ حجَّ حججًا لا يعلمُ عدَدَها إلَّا اللهُ، وسُمِّيَتْ حَجَّةُ الوداعِ لأنَّه ◙ وَعَظَهم فيها، ووَدَّعَهم فسُمِّيَتْ بذلك حَجَّةُ الوداعِ.
          ثالثها: قولُه: (فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ) اختلفَتِ الرِّواياتِ عن عائشةَ فيما أحرمَتْ به اختلافًا كثيرًا _كما قَالَ القاضي_ فهنا (فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ)، وفي أخرى: ((فمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بعُمْرةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بحجٍّ قَالَتْ: ولم أُهِلَّ إلَّا بِعُمْرَةٍ)) وفي أخرى: ((خَرَجْنا لا نُريدُ إلَّا الحجَّ)) وفي أخرى: ((لبَّينا بِالحَجِّ)) وفي أخرى: ((مُهِلِّين بالحجِّ)) والكلُّ صحيحٌ، وفي روايةٍ: ((وكُنْتُ ممَّن تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَسُقِ الهَدْيَ)).
          قَالَ مالكٌ: ليس العمل عندنا عَلَى حديث عُرْوَةَ عنها قديمًا ولا حديثًا، وكذا قَالَ أبو عُمَرَ: الأحاديثُ عن عائشةَ في هذا مضطربةٌ جدًّا.
          وفي «المشكلِ» للطَّحَاوِيِّ: ((فلمَّا جِئْنَا سَرَفًا طَمِثْتُ، فلمَّا كَانَ يومُ النَّحْرِ طَهُرْتُ)) وفي لفظٍ فقال لها: ((انفِري فإنَّهُ يَكْفيكِ فألحَّتْ، فأَمَرَها أَنْ تَخْرُجَ إلى التَّنْعيمِ))، وفي لفظٍ: ((قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي حِضْتُ وقد حَلَّ النَّاسُ ولم أحلَّ، ولم أَطُفْ بالبيتِ، والنَّاس يَذْهَبُون إلى الحجِّ الآنَ، قَالَ: اغْتَسِلي ثُمَّ أَهِلِّي بالحجِّ، فَفَعَلَتْ ووَقَفَتِ المواقفَ حَتَّى إذا طَهُرَتْ طَافَتْ بالكعبةِ وبينَ الصَّفَا والمروةِ ثُمَّ قَالَ: قد حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وعُمْرَتِكِ جميعًا، فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أجدُ في نَفْسِي أَنِّي لم أَطُفِ بالبيتِ حِينَ حَجَجْتُ قَالَ: اذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحمنِ فأَعْمِرْها وذَلِكَ ليلةَ الحَصْبَةِ)).
          قَالَ الطَّحاويُّ: لَمَّا اختلفَتِ الرِّوايةُ عن عطاءٍ وجابرٍ عنها، نظرنا إلى روايةِ غيرِهما عنها، فوجدنا الأسودَ قد روى عنها: قالَتْ: ((خَرَجْنا، ولَا نَرَى إلَّا أنَّهُ الحجُّ، فلمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلعم مَكَّةَ طَافَ بالبيتِ ولم يحلَّ، وكانَ معه الهَدْي، فَحَاضَتْ هِي، قالَتْ: فَقَضَينا مَنَاسِكَنا مِنْ حَجِّنا، فلمَّا كانَتْ ليلة الحَصْبَةِ ليلة النَّفْرِ، قالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ، أَيرْجِعُ أصحابُك كلُّهم بحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، وأرجُع بالحجِّ؟ قَالَ: أَمَا كُنْتِ تَطَوَّفْتِ بالبيتِ لياليَ قدمنا؟ قُلْتُ: لا)).
          وقال ابنُ حَزْمٍ: حديثُ أبي الأسودِ عن عُرْوَةَ عنها، وحديث يحيى بنِ عبدِ الرَّحمنِ عن حاطبٍ عنها منكران وخطأٌ عند أهلِ العلمِ بالحديثِ، وقد سَبَقَنا إلى تخطئةِ حديثِ أبي الأسودِ هذا أحمدُ بنُ حنبلٍ، وقال ابنُ عبدِ البرِّ في «تمهيده»: رَفَعَ الأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأبو ثَورٍ وابنُ عُليَّةَ حديثَ عُرْوَةَ هذا، وقالُوا: هو غلطٌ ولم يتابع عُرْوَةَ عَلَى ذَلِكَ أحدٌ مِنْ أصحاب عائشةَ، وقالَ إسماعيلُ بنُ إسحاقَ: قد اجتمع هؤلاء _يعني القاسم والأسود وعَمْرَةَ_ عَلَى أنَّ أمَّ المؤمنين كانَتْ مُحرِمَةً بحَجَّةٍ لا بعُمْرَةٍ، فعلمنا بذلك أنَّ الرِّوايةَ الَّتي رُوِيَتْ من عُرْوَةَ غلطٌ أي: لأنَّ عُرْوَةَ قَالَ في روايةِ حمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن هشامٍ عنه: حَدَّثَنِي غيرُ واحدٍ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لها: ((دَعِي عُمْرَتَكِ))، فدلَّ أنَّه لم يسمعِ الحديثَ منها.
          وفي «المستدرَكِ» صحيحًا عَلَى شرطِ مسلمٍ عنها: ((خَرَجْنا مَع النَّبيِّ صلعم عَلَى أنواعٍ ثلاثةٍ: منَّا مَنْ أَهَلَّ بحجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، فلم يحلَّ ممَّا حُرِّمَ عليهِ حَتَّى قَضَى مَنَاسكَ الحجِّ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بحجٍّ مُفرِدٍ لم يحلَّ مِنْ شَيءٍ حَتَّى يَقْضِيَ مَنَاسكَ الحجِّ، ومنَّا مَنْ أَهلَّ بعُمْرَةٍ فَطَافَ بالبيتِ وبالصَّفَا والمروةِ حَلَّ ثُمَّ استقبلَ الحجَّ)).
          وقالَ ابنُ حَزْمٍ: الصَّحيح أنَّها كانَتْ قارنةً، وقالَ: رواه وكيعٌ فجَعَلَ قولَها: ((وَلَمْ يَكُن في ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَوْمٌ)) مِنْ قول هشامٍ، لكنْ عبدُ اللهِ بنُ نُمَيرٍ وعَبْدَةُ جَعَلَاه مِنْ كلامِ عائشةَ، وما ابنُ نُمَيرٍ دونَ وكيعٍ في الحفظِ والثِّقَةِ، وكذلك عَبْدَةُ.
          وفي «الموطَّآتِ» للدَّارَقُطْنيِّ: قَالَ غُندَرٌ في حديثِه عن مالكٍ: فليُهِلَّ بالحجِّ والعُمْرَةِ، وقالَ: ولا بالصَّفَا والمروةِ وقال مَعْنٌ: ولَمَّا رجعُوا مِنْ مِنًى طافُوا طوافًا آخرَ لحجِّهم، وقالَ أبو سعيدٍ: كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذين ليسوا مِنْ مَكَّةَ لم يطوفُوا حَتَّى رجعُوا مِنْ مِنًى وقالَ مُوسَى بنُ داودَ: لم يطوفُوا حَتَّى رَمَوا الجمرةَ.
          وقالَ أبو المُطَرِّفِ: فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحجِّ فإنَّه قَدِمَ فطافَ بالبيتِ وبينَ الصَّفَا والمروةِ ثُمَّ ثبتَ على إحرامِه حتَّى خرجَ إلى منًى، وأمَّا مَنْ أهلَّ بالحجِّ والعُمْرَةِ فإنَّه قَدِمَ فطافَ طوافًا واحدًا، وسعى بين الصَّفَا والمروةِ ثُمَّ ثبتَ عَلَى إحرامِه حتَّى خَرَجَ إلى منًى، ورواه مالكٌ أيضًا عَنِ ابنِ شهابٍ وهشامٍ عن عُرْوَةَ ورواه ابنُ أبي أُويسٍ وغيرُه عن مالكٍ عن هشامٍ عن أبيه مِنْ غيرِ ذِكْرِ ابنِ شهابٍ.
          قَالَ: ابنُ الحَصَّارِ / في «تقريبِه»: تَفَرَّدَ يحيى بروايتِه عن مالكٍ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ القاسمِ عن أبيه عن عائشةَ، وقالَ أبو عُمَرَ في «تمهيدِه»: لم يتابعْه أحدٌ مِنْ رواةِ «الموطَّأِ» ولا غيرهم عن مالكٍ، وليس بمحفوظٍ ولا معروفٍ بهذا الإسنادِ.
          وفي «الموطَّأِ»: مالكٌ عن أبي الأسودِ عن عُرْوَةَ عنها، فذَكَرَ الحديثَ وفيه: ((فأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلعم بالحجِّ))، وفي لفظٍ: ((أَفْرَدَ الحجَّ))، وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ القاسمِ عن أبيه عنها: ((أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم أَفْرَدَ الحَجَّ)).
          قَالَ أبو عُمَرَ: وزادَ يحيى بنُ يحيى: (حَتَّى تَطْهُرِي) وقد تابعَه عَلَى هذِه اللَّفظةِ أكثرُهم، وذَكَرَ ألفاظًا أُخَرَ، وكذا قَالَ المُهَلَّبُ: إهلالُها بعُمْرَةٍ، تعارضُه روايةُ عَمْرَةَ عن عائشةَ أنَّها قالَتْ: خَرَجْنَا لخمسٍ بَقِينَ مِنْ ذي القَعْدَةِ ولا نَرَى إلَّا أنَّه الحَجَّ.
          وقال أبو نُعَيْمٍ في حديثِه: ((مُهِلِّين بالحَجِّ، فَلَّمَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ قَالَ ◙ لأصحابِه: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَه هَدْيٌ فأَحبَّ أَنْ يَجْعَلَها عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَه هَدْيٌ فَلَا))، والتَّوفيقُ بينهما أن يكونَ معنى قولها: (فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ) تريدُ: حينَ دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ حين أمرَ النَّبِيُّ صلعم مَنْ لم يَسُقِ الهَدْيَ بفسخِ الحجِّ في العُمْرَةِ فأهلُّوا بها، وبيَّنَتْ عَمْرَةُ عن عائشةَ ابتداءَ القصَّةِ مِنْ أوَّلِها، وعُرْوَةُ إنَّما ذَكَرَ ما آلَ إليه أمرُهم حينَ دَنَوا مِنْ مَكَّةَ، وفسخُوا الحَجَّ في العُمْرَةِ إلَّا مَنْ كَانَ ساق الهَدْيَ مِنَ المفرِدِين، فإنَّه مضى عَلَى إحرامِه مِنْ أجلِ هديه، ولم يفسخْه في عُمْرَةٍ لقولِه تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ} [المائدة:2]
          وقال ابنُ التِّيْنِ: يحتملُ أن تريدَ بذلك أزواجَه صلعم، ويحتملُ أن تريدَ به طائفةً أشارَتْ إليهم، ولا يصحُّ إرادتُها جماعةَ الصَّحابةِ لأنَّها ذَكَرَتْ أنَّ منهم مَنْ أَهَلَّ بحجٍّ، ومنهم مَنْ أَهَلَّ بعُمْرَةٍ، ومنهم مَنْ أَهَلَّ بهما.
          الثَّالثُ: قولُه: (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ)، الظَّاهرُ أنَّه قَالَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحرَمَ بالعُمْرَةِ أوَّلًا، لا كما قَالَ القُرْطُبيُّ: إنَّ ظاهرَه أمْرُهم بالقِرَانِ، ويكون قولُه لهم ذلك عندَ إحرامِهم.
          ثمَّ قَالَ: ويحتملُ فأبدى ما قلناه، فيكون أَمَرَ بالإردافِ ويؤيِّدُه قولُه: (لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) لأنَّ هذا بيان حكم القَارِن، فإنَّهُ لا يحلُّ إلَّا بفراغِه مِنْ طوافِ الإفاضةِ.
          وقد اتَّفقَ العلماءُ _كما قَالَ القاضي_ عَلَى جوازِ إدخالِ الحجِّ عَلَى العُمْرَةِ وشَذَّ بعضُ النَّاسِ فمنعَه، وقالَ: لا يُدخَلُ إحرامٌ عَلَى إحرامٍ كما في الصَّلاةِ، واختلفُوا في عكسِه وهو إدخالُ العُمْرَةِ عَلَى الحجِّ، فجوَّزَه أبو حنيفةَ والشَّافعيُّ في القديمِ، ومنعَه آخرون وقالُوا: هذا كَانَ خاصًّا بالنَّبيِّ صلعم لضرورةِ الاعتمارِ حينئذٍ في أشهرِ الحجِّ.
          الرَّابعُ: الهَدْيُ بإسكانِ الدَّالِ، وهو أفصحُ مِنْ كسرِها مع التَّشديدِ، وسَوَّى بينهما ثعلبٌ وغيرُه، والتَّخفيفُ لغةُ أهلِ الحجازِ، والتَّثقيلُ لغةُ تميمٍ، وهو اسمٌ لِمَا يُهدَى إلى الحرمِ مِنَ الأنعامِ، ثُمَّ عُدِّي إلى ذبحٍ جزاءَ ما يرتكبُه مِنَ المحظوراتِ، قَالَ اللِّحْيانيُّ: وواحدُ الهَدْي هَدْيةٌ، وقد قُرِئَ بالوجهين جميعًا: {حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] قَالَ: والتَّشديدُ قولُ الأكثرين، وفي الحديثِ: ((هَلَكَ الهَدْي، وَمَات الوَدْي))، قَالَ الهَرَويُّ: أي هَلَكَتِ الإبلُ ويَبِسَتِ النَّخْلُ، والعربُ تقولُ: كم هَدْيُ بني فلانٍ؟ أي: كم إبلُهم؟.
          الخامسُ: قولُه: (ثمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) استَدَلَّ به بعضُ أصحابِ أبي حنيفةَ عَلَى أنَّ المتمتِّعَ إذا فرغَ مِنْ أعمالِ العُمْرَةِ لم يحلَّ، ثُمَّ يُحرِمُ بالحجِّ إنْ كَانَ معه هديٌ عملًا بقولِه: (ثمَّ لَا يَحِلَّ) إلى آخرِه.
          وجوابُه: أنَّهُ يحتملُ وجهين: أحدُهما: أن يكونَ قالَه عندَ الإهلالِ فقالَ: مَنْ شاءَ فليقرن ليبيِّنَ جوازَه، ويكون معنى مَنْ معه هديٌ الآن فليقلِّده بالقِرَانِ لأنَّه إن كَانَ متمتِّعًا فلا يجب أن يقلِّدَ هَدْيَه لتمتُّعِه عندَ إحرامِه بعُمْرَةٍ، وإنَّما يقلِّدُه إذا أحرمَ بحجَّةٍ، فالفائدةُ الحضُّ عَلَى الحجِّ في ذَلِكَ العامِ لِمَنْ معه هديٌ، ولعلَّه علمَ عَزْمَ بعضِهم عَلَى تركِ الحجِّ والاقتصارِ عَلَى فعلِ العُمْرَةِ لأجلِ الهَدْي، فحضَّ واجدَ الهَدْي عَلَى القِرَانِ ليحجَّ مِنْ عامِه.
          ويحتملُ أنَّه أمرَ بذلك بعد الإحرامِ لما يأتي مِنْ قولِه: (فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ) فأمرَ بذلك بعدَ الإحرامِ بالعُمْرَةِ، وبعد تقليدِ الهَدْي وإشعارِه عَلَى أن ينحرُوا بمنًى في حجَّتِهم، وأن يحلَّ مِنْ عُمْرَتِه عندَ وصولِه إلى مَكَّةَ ثُمَّ يبقى حلالًا وهديه مقلَّدًا مشعَرًا حَتَّى يُحرِمَ بالحجِّ يومَ التَّرويةِ ثُمَّ ينحر هَدْيه بمنًى، فأمرَهم بإردافِ الحجِّ عَلَى العُمْرَةِ ويعودُوا قارنين، ومعنى ذَلِكَ المنعُ لهم مِنَ التَّحلُّلِ مع بقاءِ الهَدْي، وذَلِكَ ممنوعٌ لقولِه تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وادَّعى ابنُ التِّيْنِ أنَّ هذا الاحتمال هو الأظهرُ، ويخدشه قوله أوَّلًا: (ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا).
          فرعٌ: اختلفَ قولُ مالكٍ فيمن قلَّدَ هَدْيًا وأشعرَه وأحرمَ بعُمْرَةٍ ثُمَّ قرنَ، هل يجزئه ذَلِكَ الهَدْي عن قرانِه؟ فقالَ: لا يجزئه لأنَّ أوَّلَه كَانَ عَلَى التَّطوُّعِ، ثُمَّ قَالَ بعد ذَلِكَ: يجزئه، قد فَعَلَه الصَّحابُة، يريدُ هذا الحديثَ، فترك القياسِ لأنَّ أوَّله كَانَ عَلَى التَّطوُّع.
          السَّادسُ: قولُها: (فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ) فيه دلالةٌ عَلَى أنَّ الحائضَ لا يجزئ طوافها بالبيتِ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ولا خلافَ بينَ العلماءِ أنَّ الحائضَ لا تطوفُ بالبيتِ ولا تسعى بين الصَّفَا والمروةِ لأنَّ السَّعي بينهما موصولٌ بالطَّوافِ، والطَّوافُ موصولٌ بالصَّلاةِ، ولا تجوزُ صلاةٌ بغيرِ طهارةٍ.
          وقالَ ابنُ التِّيْنِ: إنَّما لم تَطُفْ ولم تَسْعَ لأنَّ الطَّوافَ مِنْ شرطِه الطَّهارة، والسَّعي مرتَّبٌ عليه وإن كَانَ ليس مِنْ شرطِه الطَّهارة، بدليلِ أنَّها لو حَاضَتْ بعدَ أن فرغَتِ الطَّوافَ وسَعَتْ لأجزأَها، وهذه العبارةُ أحسنُ مِنْ تلك، وقالَ ابنُ الجَوزِيِّ: فيه / دِلالةٌ عَلَى أنَّ طوافَ المحدِثِ لا يجزئ، ولو كَانَ ذَلِكَ لأجلِ المسجدِ لقال: لا يدخل المسجد.
          وقد اختَلَفَتِ الرِّوايةُ عن أحمدَ في طواف المحدِثِ والنَّجسِ، فرُوِيَ عنه لا يصحُّ، ورُوِيَ عنه يصحُّ ويلزمه دمٌ، ومذهبُ الجمهورِ _كما قالَه في «شرحِ المهذّبِ» _ أنَّ السَّعي يصحُّ مِنَ المحدِثِ والجُنُبِ والحائضِ، وعَنِ الحسنِ: أنَّه إن كَانَ قبل التَّحلُّلِ أعادَ السَّعي، وإن كَانَ بعده فلا شيء عليه، وعن أبي حنيفةَ: أنَّ الطَّهارةَ مِنَ الحدَثِ والنَّجَسِ ليس شرطًا للطَّوافِ، فلو طافَ وعليه نجاسةٌ أو محدِثًا أو جُنُبًا صحَّ طوافُه، واختلفَ أصحابُه في كونِ الطَّهارةِ واجبةً مع اتِّفاقِهم عَلَى أنَّها ليست شرطًا، فمَنْ أوجبها منهم قَالَ: إن طافَ محدِثًا لزمَه شاةٌ، وإن كَانَ جُنُبًا لزمه بَدَنَة قالُوا: ويعيده ما دام بمكَّةَ، واستدلُّوا بقولِه تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ} [الحجّ:29] وعن داودَ: الطَّهارةُ له واجبةٌ، فإن طافَ محدِثًا أجزأَه إلَّا الحائض.
          السَّابعُ: كُنْتُ وَعَدْتُ فيما مضى أن أذكرَ كلامَ إمامنا الشَّافعيِّ في جمعِهِ بين مختلفِ الرِّواياتِ، قَالَ في «اختلافِ الحديثِ»: ليس في هذِه الأحاديث المختلفةِ أحرى ألَّا يكونَ مُتَّفقًا مِنْ وجهينِ مختلفينِ لا ينسبُ صاحب إلى الغلط مِنْ حديثِ أنسٍ قَالَ: ((قَرَنَ رَسُولُ الله صلعم)) ثُمَّ حديث مَنْ قَالَ: كَانَ ابتداء إحرامِه حَجًّا لا عُمْرَةً معه لأنَّه ◙ لم يحجَّ مِنَ المدينة إلَّا حَجَّةً واحدةً، ولم يُختَلَفْ في شيءٍ مِنَ السُّنَنِ الاختلافُ فيه أيسرُ مِنْ هذا مِنْ جهةِ أنَّه مباحٌ، وإن كَانَ الغلطُ فيه قبيحًا فيما حمل مِنَ الاختلافِ، ومَنْ فعلَ شيئًا ممَّا قيلَ فيه: إنَّ النَّبِيَّ صلعم فعله كَانَ له واسعًا لأنَّ الكتابَ ثُمَّ السُّنَّة ثُمَّ ما لا نعلم فيه خلافًا يدلُّ عَلَى أنَّ التَّمتُّعَ بالعُمْرَةِ إلى الحجِّ والإفرادِ والقِرَانِ واسعٌ كلُّه.
          وأشبهُ الرِّوايات أن يكون محفوظًا في الحجِّ ما روى جابرٌ: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم خَرَجَ لا يُسَمِّي حَجًّا ولا عُمْرَةً))، وقال طاوسٌ: خرجَ مُحرِمًا ينتظرُ القضاءَ لأنَّ روايةَ يحيى بنِ سعيدٍ عَنِ القاسمِ، وعَمْرَةَ عن عائشةَ توافق روايته، وهؤلاء تقصَّوا الحديثَ، ومَنْ قَالَ: أفردَ الحجَّ فيشبه أن يكون قَالَ عَلَى ما يعرف مِنْ أهل العلم الَّذين أدرك دون سيِّدنا رَسُولِ الله صلعم أنَّ أحدًا لا يكون مقيمًا عَلَى حجٍّ إلَّا وقد ابتدأَ إحرامَه بحجٍّ، وأحسب أنَّ عُرْوَةَ حين حدَّث أنَّ النَّبِيَّ صلعم أَهَلَّ بحجٍّ إنَّما ذهبَ إلى أنَّه سمعَ عائشةَ تقولُ: فعلَ النَّبيُّ صلعم في حَجِّهِ، وذكر أنَّ عائشةَ أَهَلَّتْ بعُمْرَةٍ، إنَّما ذهب إلى أَنَّها قالت: فعلت في عُمْرَتِي كذا، إلَّا أنَّه خالفَ خلافًا بيِّنًا لحديثِ جابرٍ وأصحابِه في قولِ عائشةَ: ((وَمِنَّا مَنْ جمَعَ الحجَّ والعُمْرَةَ)).
          فإن قَالَ قائلٌ: فقد قَرَن الصُّبَيُّ بنُ معبدٍ وقالَ له عُمَرُ: هُدِيْتَ لسُنَّةِ نبيِّكَ، قيل: حُكِيَ لعُمَرَ أنَّ رجلين قالا: هذا أضلُّ مِنْ جمل أهله، فقالَ: أي: هُدِيتَ لسُنَّةِ نبيِّك، أي: مِنْ سُنَّةِ نبيِّك القِران والإفراد، والعُمْرَةُ هُدًى لا ضلالٌ، فإن قيل: فما دلَّ على هذا؟ قيل: أمْرُ عُمَرَ بأن يفصل بين الحجِّ والعمرة، وهو لا يأمرُ إلَّا بما يسمعُ ويجوزُ في سنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلعم وإفراده الحجَّ.
          فإن قيلَ: فما قولُ حفصةَ لرَسُولِ اللهِ صلعم: ما بالُ النَّاس حلُّوا ولم تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قيل: أكثرُ النَّاسِ مع رَسُولِ اللهِ صلعم لم يكن معه هَدْيٌ، وكانت حفصةُ معهم، فأُمِرُوا أن يجعلُوا إحرامهم عُمْرَةً ويحلُّوا فقالَتْ: لِمَ أَحَلَّ النَّاسُ ولم تَحِلَّ أنتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ تعني مِنْ إحرامِك الَّذي ابتدأتَه، وهم وهو بنيَّةٍ واحدةٍ قَالَ: ((لبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدتُ هَدْيي، فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هديي)) يعني _والله أعلم_ حيث يحلُّ الحاجُّ، لأنَّ القضاءَ نزلَ بأن يجعلَ مَنْ كَانَ معه هَدْيٌ إحرامَه حجًّا، وهذا مِنْ سعةِ لسانِ العربِ الَّذي تكادُ تعرفُ بالجوابِ فيه.
          فإن قيلَ: مِنْ أين ثبتَ حديثُ عائشةَ وجابرٍ وابنِ عُمَرَ وطاوسٍ دون حديثِ مَنْ قَالَ: قَرَنَ؟ قيلَ: لِتَقَدُّمِ صحبةِ جابرٍ وحُسْنِ سياقتِه لابتداءِ الحديثِ وآخرِه، وقُرْبِ عائشةَ مِنْ سيِّدنا رَسُولِ الله وفضلِ حفظِها عنه، وقُرْبِ ابنِ عُمَرَ منه، ولأنَّ مَنْ وصفَ انتظارَه للقضاءِ إذا لم يحجَّ مِنَ المدينة بعد نزولِ فرضِ الحجِّ قبلَ حجَّتِه _حجَّةِ الإسلامِ_ طَلَبَ الاختيارَ فيما وسعَ له مِنَ الحجِّ والعُمْرة يشبهُ أن يكون حفظَ عنه، لأنَّه قد أتى في المتلاعنين فانتظرَ القضاءَ فيهما، وكذلك حفظُه عنه في غيرِهما هذا آخرُ كلامِه ولا مزيدَ عليه.
          الثَّامنُ: قولُها: (فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم) يُقَالُ: شَكَوْتُ وشَكَيْتُ لغتان، وسبب شكواها أنَّها لم تسقِ هَدْيًا ولا أُمِرَتْ بإردافِ الحجِّ عَلَى العُمْرَةِ، وكان مِنْ حقِّها التَّمادي إلى الفراغِ مِنْ عُمْرَتِها، ثُمَّ تهلُّ بالحجِّ، فلمَّا لم يمكِنْها إتمامُ عُمْرَتِها شَكَتْ ذَلِكَ.
          التَّاسعُ: قولُه ◙: (انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالحَجِّ وَدَعِي العُمْرَةَ) احتجَّ به الكوفيُّون، فقالُوا: إنَّ المعتمرةَ إذا حاضَتْ قبلَ الطَّوافِ وضاقَ عليها وقتُ الحجِّ رفضَتْ عُمْرَتَها وألغتها واستَهَلَّتْ بالحجِّ، وعليها لرفضِ عُمْرَتِها دمٌ، ثُمَّ تقضي عُمْرَةً بعدُ، ونقضُ الرَّأسِ والامتشاطُ دليلٌ عَلَى رفضِها لأنَّ القارنةَ لا تمتشطُ ولا تنقضُ رأسَها، فجاوبَهم مخالفوهم بما أسلفناه عن مالكٍ: أنَّ حديثَ عُرْوَةَ عن عائشةَ ليس عليه العمل عندنا قديمًا ولا حديثًا، وأظنُّه وهْمًا، يعني ليس عليه العملُ في رفضِ العُمْرَةِ لأنَّ الله تعالى أمر بإتمام الحجِّ والعُمْرَةِ لِمَنْ دخلَ فيهما، وقال / تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمَّد:33] ورفضُها قبل إتمامِها هو إبطالُها، وكذا لو أحرمَتْ بالحجِّ، ثُمَّ حاضَتْ قبلَ الطَّوافِ، لا ترفضُه فكذا العُمْرَة، بعلَّةِ أنَّه نُسُكٌ يجب المضيُّ في فاسدِه، فلا يجوزُ تركه قبل إتمامِه مع القدرةِ عليه.
          والَّذي عليه العملُ عند مالكٍ والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأبي ثَورٍ في المعتمرةِ تحيضُ قبلَ الطَّوافِ، وتخشى فوات عرفةَ وهي حائضٌ أنَّها تهلُّ بالحجِّ، وتكون كمن نوى الحجَّ والعُمْرَةَ ابتداءً وعليها هَدْيُ القِرَانِ، ولا يعرفون رَفْضَ العُمْرَةِ ولا رَفْضَ الحجِّ لأحدٍ دخلَ فيهما أو في أحدهما.
          قالوا: وكذلك المعتمرُ يخافُ فواتَ عرفةَ قبل أن يطوفَ، لا يكون إهلالُه رفضًا للعُمْرَةِ بل يكون قارنًا بإدخاله الحجَّ عَلَى العُمْرَةِ، ودفعُوا حديثَ عُرْوَةَ عن عائشةَ بضروبٍ مِنَ الاعتلالِ منها: أنَّ القاسمَ والأسودَ وعَمْرَةَ روَوْا عن عائشةَ ما دلَّ أنَّها كانت مُحِرمَةً بحجٍّ، فكيف يجوزُ أن يُقَالَ لها دعي العُمْرَةَ؟ وقال إسماعيلُ بنُ إسحاقَ: حديث عُرْوَةَ غلطٌ لأنَّ ثلاثةً خالفُوه، وقد أسلفنا هذا.
          وقال غيرُه: أقلُّ الأحوالِ في ذَلِكَ سقوطُ الاحتجاج بما صحَّ فيه التَّعارضُ، والرُّجوعُ إلى قولِه ╡: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وأجمعُوا غير الخائفِ لقُرْبِ عرفةَ أنَّه لا يحلُّ له رفضُ العُمْرَةِ، فكذلك مَن خافَ فوتَ عرفةَ لأنَّه يمكنُه إدخال الحجِّ عَلَى العُمْرَةِ ويكون قارنًا، فلا وجه لرفضِ العُمْرَةِ في شيءٍ مِنَ النَّظر.
          قَالَ ابنُ أبي صُفْرَةَ: ولو ثبتَ قولُه: (دَعِي العُمْرَةَ) لكان له تأويلٌ سائغٌ، فيكون معنى قوله: أهِلِّي بالحجِّ الَّذي أنت فيه أي: استديمي ما أنتِ عليه، ودعي العُمْرَةَ الَّتي أردتِ أن يُفسَخَ حجُّك فيها، لأنَّها إنَّما طَهُرَتْ بمنًى وقد رَهِقَها الوقوفُ بعرفةَ، وهذا أصلٌ في المراهق أنَّ له تأخير طوافِ الوُرُودِ، وممَّا يوهِن روايةَ عُرْوَةَ ما رواه حمَّادُ بنُ زيدٍ عن هشامِ بنِ عُرْوَةَ عن أبيه قَالَ: حَدَّثَنِي غيرُ واحدٍ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لها: ((دَعِي عُمْرَتكِ))، فدلَّ أنَّ عُرْوَةَ لم يَسمَعْه مِنْ عائشةَ، وهذا قد أسلفناه.
          ولو ثبتَ قوله: (انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي) لما نافى ذَلِكَ إحرامَها ولجَبَرَتْه بالفديةِ كما أمرَ ◙ كَعْبَ بنَ عُجْرَةَ بالحلقِ والفديةِ لَمَّا بلغَ به أذى القمل، فيكون أمرُه لها بنقضِها رأسها وامتشاطها لضرورةٍ كانت بها مع الفديةِ، هذا سائغٌ ومحتمَلٌ فلا تعارَضُ به الأصولُ، وقد يمكن أن يكون أمرها بغسلِ رأسِها وإن كانت حائضًا لا يجبُ عليها غسله ولا نقضه لتغتسلَ للإهلالِ بالحجِّ، وذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ الحائضِ والنُّفساءِ كما أمر ◙ أسماءَ بنتَ عُمَيسٍ حين ولدت مُحَمَّدُ بن أبي بكرٍ بالبيداء بالاغتسال والإهلال لا سيَّما إن كانت لبَّدتْه، ولو أمرها بذلك لوجوب الغُسْلُ عليها لكانت قد طَهُرَتْ فتطوف للعُمْرَةِ الَّتي تركت.
          وقولُه لها: (غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالبَيْتِ) يدلُّ أنَّها لم تنقض رأسها إلَّا لمرضٍ كَانَ بها أو لإهلالٍ كما ذكرنا، قَالَ الشَّافعيُّ: ليس معناه اتركيها وأخِّريها عَلَى القضاءِ، إنَّما هو أنَّه أمرها أن تُدخِلَ الحجَّ عَلَى العُمْرَةَ، فتصير قارنةً قَالَ: وعلى هذا المذهبِ تكونُ عُمْرَتُها مِنَ التَّنعيمِ تطوُّعًا لا عن واجبٍ، ولكن أرادَ أن يُطَيِّبَ نفسَها فأَعمَرَها، وكانت قد سألَتْه ذَلِكَ، وقد رُوِيَ ما يشبه هذا المعنى في حديثِ جابرٍ المذكور _يعني قبلُ_ وقالَه مالكٌ أيضًا.
          وقالَ الخَطَّابيُّ: أمْرُه عائشةَ بالامتشاطِ مشكلٌ جدًا، وكأنَّ الشَّافعيَّ تأوَّله عَلَى أنَّه أَمَرَها أن تدعَ العُمْرَةَ وتُدخِلَ عليها الحجَّ، فتكون قارنةً، قَالَ: وهذا لا يشاكل القصَّة، وقيلَ: يحتملُ أن تكونَ مضطرَّةً، وحمَلَه غيرُه عَلَى ما أسلفناه مِنْ أذًى ونحوِه، وقيل: إنَّما أمرَها بفسخِ العُمْرَةِ وإنشاءِ الحجِّ مُفردًا، وأبعد مَنْ قَالَ: إنَّها لم تكن أوجبت حَجًّا ولا عُمْرَةً، وإنَّما نوت أن تعتمرَ فلم تطفْ حَتَّى حاضَتْ، فقالَ لها ما قَالَ، يؤيِّدُه: خَرَجْنا لا نرى إلَّا الحجَّ، وقيلَ: كَانَ مِنْ مذهبِها أنَّ المعتمرَ إذا حلَّ استباحَ ما يستبيحه الحاجُّ إذا رمى جمرةَ العقبةِ، ووهَّاه الخَطَّابيُّ.
          ومعنى (دَعِي العُمْرَةَ) دعي العملَ بها، أو دعي أعمالَها حَتَّى تطوفي وتسعَي للحجِّ والعُمْرَةِ طوافًا واحدًا، ومذهبُ عطاءٍ ومجاهدٍ والحسنِ وطاوسٍ أنَّ الطَّوافَ الواحدَ والسَّعي الواحد يجزئان القارنَ عن حجِّه وعُمْرَتِه، كما جاء في حديثِ عائشةَ، وبه قَالَ مالكٌ وأحمدُ والشَّافعيُّ وإسحاقُ ومُحَمَّدُ بنُ سيرينَ وسالمٌ والزُّهْريُّ وداودُ وإسحاقُ وأبو ثَورٍ.
          وعَنِ الشَّعْبيِّ أنَّ القَارِنَ يطوفُ طوافَين، وهو قولُ أصحابِ الرَّأي، وكذلك قَالَ الثَّوريُّ، وحُكِيَ أيضًا عن مجاهدٍ وجابرِ بنِ زيدٍ وشُرَيحٍ القاضي والشَّعْبيِّ ومُحَمَّدِ بنِ عليِّ بنِ حسينٍ والنَّخَعِيِّ والثَّورِيِّ والأوزاعيِّ والأسودِ بنِ يزيدَ والحسنِ بنِ حيٍّ وحمَّادِ بنِ سَلَمَةَ وحمَّادِ بنِ أبي سُلَيمَانَ والحكمِ بنِ عُتَيْبَةَ وزيادِ بنِ مالكٍ وابنِ شُبْرُمَةَ وابنِ أبي ليلى، وحُكِيَ عن عُمَرَ وعليٍّ وابنيه الحسنِ والحسينِ وابنِ مسعودٍ، وإحدى الرِّوايتين عن أحمدَ.
          وروى مجاهدٌ عَنِ ابنِ عمرَ أنَّه جمع بين الحجِّ والعمرةِ، وقال: سبيلُهما واحدٌ، وطافَ لهما طوافين، وسعى لهما سَعْيينِ وقالَ: ((هَكَذا رَأْيتُ سيِّدَنا رَسُولَ اللهِ صلعم يَصْنعُ كَمَا صنَعْتُ))، قَالَ الدَّارَقُطْنيُّ: لم يروِه عَنِ الحكمِ غيرُ الحسنِ بنِ عُمَارَةَ، وهو متروكٌ، وعن عليٍّ أنَّه جمع بينهما، وفعل ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: ((هَكَذا رَأْيتُ رَسُولَ الله صلعم فَعَل))، ثُمَّ ضَعَّفَ سندَه.
          وكذا عن علقمةَ عَنِ ابنِ مسعودٍ قَالَ: ((طَافَ رَسُولُ الله صلعم لعُمْرتهِ وحَجَّتِه طَوَافينِ وَسَعى سَعْيينِ، / وَأَبُو بكرٍ وَعُمَرُ وَعَليٌّ))، قَالَ علقمةُ: وابنُ مسعودٍ، ورواه الدَّارَقُطْنيُّ أيضًا مِنْ حديثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَينٍ وضعَّفَه، وقالَ: الصَّوابُ بهذا الإسنادِ أنَّه ◙ قَرَنَ الحجَّ والعُمْرَةَ، وليس فيه ذكر الطَّوافِ ولا السَّعي، ثُمَّ ذكر عن عليٍّ مرفوعًا فيه أيضًا ذَلِكَ، قَالَ منصورٌ: فذكرتُ ذَلِكَ لمجاهدٍ فقالَ: ما كنَّا نفتي إلَّا بطوافٍ واحدٍ، فأمَّا الآن فلا نفعلُ، وحديثُ الصُّبَيِّ بنِ معبدٍ الماضي أنَّه فعلَ ذَلِكَ، لكنَّها مِنْ روايةِ النَّخَعِيِّ عنه وهو منقطعٌ، قَالَ ابنُ حَزْمٍ: لم يدركْه.
          وفي «مصنَّفِ عبدِ الرَّزَّاقِ» مثله مِنْ حديثِ عليٍّ بإسنادٍ ضعيفٍ، ورواه عبدُ الرَّحمنِ بن أبي ليلى عن رَسُولِ الله صلعم، وقال ابنُ حَزْمٍ: خبرٌ ساقطٌ لا يجوز الاحتجاجُ به، وكذا كلُّ ما رُوِيَ عنه في هذا، وكذا كلُّ ما رَوَوا عَنِ الصَّحابةِ في ذَلِكَ لا يصحُّ منه ولا كلمةٌ ولكنَّه عن مجاهدٍ وجابرِ بنِ زيدٍ وشُرَيحٍ والشَّعْبيِّ ومُحَمَّدِ بنِ عليٍّ والنَّخَعيِّ وحمَّادِ بنِ أبي سليمانَ والحكمِ بنِ عُتَيبَةَ صحيحٌ، وكذا قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: الرِّوايةُ عن عليٍّ لا تثبتُ لأنَّ راويَها عن عليٍّ أبو نَصرٍ وهو مجهولٌ، ولو كَانَ ثابتًا لكانت سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلعم أَوْلى، ثُمَّ قد أسلفنا روايةَ عبدِ الرَّزَّاقِ عنه، وهو خلافُ روايةِ أهل العراق عنه.
          العاشرُ: قولُها: (فَلَمَّا قَضَيْنَا الحجَّ أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحمنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ) إنَّما عَبَّرَتْ بقضاءِ الحجِّ لأنَّه أتمُّ النُّسُكَينِ.
          وفيه: أنَّ الإحرامَ بالعُمْرَةِ إنَّما يكونُ مِنَ الحلِّ، وأعمَرها منه تَطيِيبًا لنفسِها، يدلُّ له (هَذِهِ مَكَان عُمْرَتِكِ) وقولُه: (هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ) برفعِ (مَكَانُ) عَلَى الخبرِ أي: عِوضَ عُمْرَتِكِ الفائتةِ، وبالنَّصبِ عَلَى الظَّرفِ قَالَ بعضُهم: والنَّصبُ أوجَهُ، ولا يجوزُ غيرُه، والعاملُ فيه محذوفٌ تقديره: هذِه كائنةٌ مكانَ عُمْرَتِكِ أو مجعولةٌ مكانها.
          قَالَ القاضي عياضٌ: والرَّفعُ أوجهُ عندي إذْ لم يُرِدْ به الظَّرف إنَّما أرادَ عوضَ عُمْرَتكِ فمَنْ قَالَ: كانت قارنةً، قَالَ: مكان عُمْرَتكِ الَّتي أردت أن تأتي بها مُفرِدةً، ومَنْ قَالَ: كانت مُفرِدةً قَالَ: مكان عُمْرَتكِ الَّتي فسختِ الحجَّ إليها، ولم تتمكَّني مِنَ الإتيان بها للحيض، وكان ابتداءُ حيضها يوم السَّبت، لثلاثٍ خلون مِنْ ذي الحجَّة بِسَرِفٍ، وطهرتْ يوم السَّبت وهو يوم النَّحر.
          وقال ابنُ التِّيْنِ: يحتملُ أن يريدَ أنَّها عُمْرَةٌ مفردةٌ بالعملِ مكان عُمْرتك الأُولى الَّتي أردتِ أن تفرديها به فلم تكمليها عَلَى ذَلِكَ.
          الحادي عشرَ: قولها: (فَطَافَ الَّذينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالعُمْرَةِ بِالبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلُّوا)، تريدُ عندَ ورودِهم للعُمْرَةِ، قالَه ابنُ التِّيْنِ.
          وقولُها: (وَأَمَّا الَّذينَ جَمَعُوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) فيه دلالةٌ عَلَى أنَّه لا يتكرَّر، وقد قَدَّمْنا ما فيه مِنَ الخلافِ، وفي «الموطَّأِ»: وأمَّا الَّذين أَهَلُّوا بالحجِّ أو جمعوهما يحتملُ أن يريد أنَّهم لم يطوفُوا غير طوافٍ واحدٍ للقدومِ وآخر للإفاضة، إن كانوا قَرَنُوا قبل دخول مكَّة، وإن كانوا أردفوا بمكَّة فلم يطوفوا غيرَ طوافٍ واحدٍ وهو طوافُ الإفاضةِ، ويحتملُ أن يريدَ أنَّهم سَعَوا لهما سعيًا واحدًا، والسَّعي يُسَمَّى طوافًا، ورواية «الموطَّأ» تحتملُ أن يريدَ أنَّ طوافَهم كان عَلَى صفةٍ واحدةٍ لم يزدِ القَارِن فيه عَلَى طوافِ المفردِ، وذَلِكَ أنَّ القارن لم يُفْردِ العُمْرَةَ بطوافٍ وسعيٍ، بل طاف لهما كما طاف المفرد للحجِّ، وهذا نصٌّ في أنَّهُ لا يتعدَّد، وقد سلفَ ما فيه.
          قَالَ مالكٌ في «الموطَّأ»: إذا دَخَلَتْ مَكَّةَ بعُمْرةٍ وهي حائضٌ وخَشيَتِ الفواتَ أهلَّتْ بالحجِّ، وكانت قارنةً، وذكر البُخاريُّ بعد هذا أنَّ إذنه لعائشةَ بما ذكر كَانَ في يومِ عرفةَ.