التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب طواف القارن

          ░77▒ بابُ طَوَافِ القَارِنِ
          ذَكَرَ فيهِ ثلاثةَ أحاديث:
          1638- أحدُها: حديثُ عائشةَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ...) الحديث بطوله كما سلف في بابِ كيف تُهِلُّ الحائضُ والنُّفساءُ [خ¦1556].
          1639- ثانيها: حديثُ نافعٍ: (أَنَّ ابنَ عُمَرَ دَخَلَ ابنُهُ عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الله) فذكر إيجابه الحجَّ والعُمْرَةَ والإحصارَ، وقد سلف أيضًا [خ¦1639]، إلَّا الإحصار.
          1640- ثالثُها: حديثُه أيضًا عَنِ ابنِ عُمَرَ: (أنَّه أَرَادَ الحَجَّ عَامَ نَزَلَ الحَجَّاجُ بِابنِ الزُّبَيرِ...) الحديثَ بطوله.
          وأخرجَه والَّذي قبله مسلمٌ أيضًا، / وأسلفنا هناك اختلاف العلماء في حكم طوافِ القَارِنِ، وأنَّ الثَّلاثةَ قالوا: يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ، وبه قَالَ ابنُ عُمَرَ وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ اعتمادًا عَلَى أحاديث الباب خلافًا لأصحاب الرَّأي.
          بَطَّالٍ: ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافعيِّ أيضًا وهذا غريبٌ عنه، واحتجُّوا بأنَّ العُمْرَةَ إذا أفردها لَزِمَتْه أفعالُها، فلم يكن ضَمُّها إلى الحجِّ موجبًا لسقوط جميع أفعالها، دليلُه التمتُّعُ، وهو منتقضٌ بالحلقِ لَمَّا كَانَ عليه حلاقتان كَانَ عليه طوافان، ولَمَّا كَانَ القَارِن يكفيه حَلْقٌ واحدٌ كفاه طوافٌ واحدٌ، فإن قيل: القياسُ منتقضٌ لأنَّ المستحَقَّ في الحلق عن كلِّ إحرامٍ مقدارُ الرُّبع، فمتى حلق جميع رأسه فقد أتى بما يقع عليه لكلِّ واحدٍ منهما، ولأنَّه يُجري الموسى عَلَى رأسه بعد الحلق فيقوم مقام الحلق الآخر عند العجز.
          وجوابه: ما يقولون: إذا اقتصر القارنُ عَلَى حَلْقِ ربع رأسه ولم يتجاوزه، ولم يجرِ الموسى عَلَى رأسه، هل يجزئه أو يحتاج إلى زيادة ربعٍ آخرَ؟ فإن قلتم به فليس مذهبَكم، وإن كفاه واحدٌ فقد ثبت ما قلناه، وأيضًا فإنَّ القَارِن إذا قتل صيدًا واحدًا فعليه جزاءٌ، والحجَّةُ لهم لازمةٌ بحديث عائشةَ وابنِ عُمَرَ لأنَّهم يأخذون بحديث عائشةَ في رفض العُمْرَةِ مع احتماله في ذَلِكَ للتَّأويل، ويتركونه في طواف القَارِن، وهو لا يحتمل التَّأويل.
          وقولُ ابنِ عُمَرَ: (إِذَنْ أَصْنَعُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم) يعني: حين صُدَّ عام الحُديبيةِ فحَلَقَ ونَحَرَ وحَلَّ، فلم يُصدَّ ابنُ عُمَرَ فقَرَنَ الحجَّ إلى العُمْرَةِ، وكان عملُه لهما واحدًا، وطوافًا واحدًا.
          وقد احتجَّ أبو ثَورٍ لذلك فقال: لَمَّا لم يجز أن يجمع بين عَمَلَينِ إلَّا الحجَّ والعُمْرَةَ فأجزنا ومَنْ خالفَنا لهما سفرًا واحدًا وإحرامًا واحدًا وكذلك التَّلبية كَانَ كذلك يجزئ عنهما طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحدٌ، وابنُ عُمَرَ ☺ لَمَّا أحرم عَلِمَ بالعدوِّ ولم يعلم هل يصدُّه أم لا.
          ومنصوصُ مذهبِ مالكٍ: أنَّ مَنْ أحرمَ بعد عِلْمِه بالعدوِّ أنَّه لا يحلُّ بحالٍ لأنَّهُ ابتدأه بعد عِلْمِه به، ولا يحلُّ دون البيتِ، قاله ابنُ الماجِشُونِ، ويبيِّنه أنَّه ◙ لم يتيقَّنِ الصَّدَّ لأنَّه لم يأتِهم محاربًا، وإنَّما قصد العُمْرَةَ، ولم تكن قريشٌ تمنع مَنْ قَصَدَها.
          وذكر عُرْوَةُ عن عائشةَ أنَّها أهلَّتْ بعُمْرَةٍ وقد سلف [خ¦1561]، وأنَّها لم تتمادى عليها لأنَّها حاضت، وقد تريد بهذا: أهلَّ غيري، وتريد أنَّه ◙ لم يُهلَّ بها، إذ لو أهلَّ بها لبدأت بذكره.
          وقولُه: (وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فطَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) رُوِيَ أنَّهم طافوا طوافين، وسَعَوا سعيين، والأوَّلُ أثبتُ، وعليه عوامُّ العلماءِ، وقد سلف.
          وقولُه: (وَظهْرُهُ فِي الدَّارِ) يعني بعيره.
          وقولُه: (فقَالَ: إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ العَامَ بَيْنَ النَّاسِ) قَالَ ابنُ التِّيْنِ: بعد أن ذكره بلفظ: لا إِيْمَنُ، أصلُه: لا آمنُ بفتح الألف، فكسروها لأنَّ الماضي عَلَى فَعِلَ بالكسرِ، والعربُ تكسرُ أوَّلَ مستقبلِ فَعِلَ، إلَّا أن يكون ياءً، نحو: أنتَ تِعْلَمُ وأنا إِعْهَدُ وإِخَافُ ربِّي وإِخَالُ كذا، ولا يكسرون أوَّل مستقبلِ فَعَلَ بالفتح، إلَّا أن يكون فيه حرفُ حلْق، فيقولون: أنا إِذْهَبُ وإِلْحَقُ، وهي لغةٌ لتميمٍ وقيل: إنَّه أمالَ، وفي بعض الكتب: إنِّي لا أَيْمَنُ _بفتح الهمزة_ ولا أعلم له وجهًا.
          وقولُه في الحديثِ الثَّالثِ: (أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً) إلى أن قَالَ: (حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ، وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم)، لعلَّه يريدُ بطوافِه الأوَّل: أنَّه لَمَّا قَدِمَ طاف وسعى مرَّةً واحدةً، وذَلِكَ الطَّواف ليس مِنْ أركان الحجِّ ولا العُمْرَةِ، وإنَما هو طواف القدوم، وإنَّما الواجب لهما طوافُ الإفاضةِ الَّذي يفعله يوم النَّحر أو بعده، ومَخرَجُ هذا الإشكال ما ذكره الدَّاوُدِيُّ، قَالَ: يعني قضى طواف الحجِّ والعُمْرَةِ بطوافه الأوَّل، يعني: الَّذي معه سعيٌ.
          وقولُه: (كَذَلِكَ صَنَعَ النَّبيُّ صلعم) يحتمل أنَّ يريدَ أنَّه قَرَنَ، ويحتمل أن يريدَ صنعنا كما صنعنا مع رَسُولِ اللهِ صلعم.
          وقولُه قبله: (وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) يعني: ولم يزدْ عَلَى السَّعي، ولكن طافَ طوافَ الإفاضةِ.
          وأمَّا الصَّدُّ المذكور في حديثِ ابنِ عُمَرَ، فلنتكلَّم عليه هنا ليُحالَ فيما بعدُ عليه، فنقولُ: اختلفَ العلماءُ هل المحصَرُ في الآيةِ الكريمةِ بالعدوِّ أو بالمرضِ؟ فمَنْ قَالَ بالأوَّل احتجَّ بذكرِ المرضِ فيه، فلو كَانَ المُحصَر هو المُحصَر بمرضٍ لما كَانَ لذكر المرضِ بعد ذَلِكَ فائدةٌ، واحتجُّوا بقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ} [البقرة:196]
          ومَنْ قَالَ بالثَّاني قَالَ: لا يُقَالُ: أُحْصِرَ في العدوِّ، وإنَّما يُقال: حَصَرَهُ العدوُّ وأَحْصَرَهُ المرض، وإنَّما ذُكِرَ المرضُ بعد ذَلِكَ لأنَّه صنفان: صنفٌ مُحصِرٌ، وغير مُحصِرٍ، وقال: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي: مِنَ المرض، وعكس ذَلِكَ، فأُحصِرَ بالعدوِّ، وحُصِرَ بالمرضِ لأنَّ العدوَّ إنَّما عرض للإحصار، والمرض فأعلَّه.
          وعند الحنفيَّةِ أنَّ كلَّ مانعٍ يمنع المُحرِمَ مِنَ الوصولِ إلى الحرم لإتمام حجٍّ أو عُمْرَةٍ مِنْ خوفٍ أو مرضٍ أو سلطانٍ فهو محصَرٌ، أي: ممنوعٌ.
          والإحصارُ لغةً: المنعُ، وإليه ذهب ابنُ حَزْمٍ حيث قَالَ: اختلف الصَّحابةُ فمَنْ بعدَهم في الإحصار، فرُوِّينا عَنِ ابنِ عُمَرَ أنَّه قَالَ: لا إحصار إلَّا مِنْ عدوٍّ، وفي مسلمٍ عَنِ البراءِ: ((لَمَّا أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ البَيْتِ...)) الحديثَ.
          وقال إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: الإحصارُ مِنَ الخوفِ والمرضِ والكَسْرِ، وقال عطاءٌ: مِنْ كلِّ شيء يحبسُه، وسيأتي في البُخاريِّ في بابه [خ¦1806] [خ¦1809]، وقال ابنُ مسعودٍ: هو المرضُ والكسرُ وشبهُه، وعَنِ ابنِ عبَّاسٍ: لا حَصْرَ إلَّا مِنْ حَبْسِ عدوٍّ، وقال طاوسٌ: لا حَصْرَ إلَّا أن يذهب الحصر، وعن عَلْقَمَةَ: الحصر الخوف والمرض، وعن عُرْوَةَ: الحصر ما حَبَسَه مِنْ وجعٍ أو خوفٍ أو ابتغاءِ ضالَّةٍ.
          وعَنِ الزُّهْرِيِّ: الحصر ما حصره مِنْ وجعٍ أو عدوٍّ حَتَّى يفوته الحجُّ، قَالَ: وقد فرَّق قومٌ بين الإحصارِ والحَصْرِ، فرُوِّينا عَنِ الكسائيِّ أنَّه قَالَ: ما كَانَ مِنَ المرضِ فإنَّه يُقَالُ فيه: أُحصِرَ فهو مُحصَرٌ، وما كَانَ مِنْ حَبْسٍ قيل حُصِرَ، وعن أبي عُبَيدَةَ: ما كَانَ مِنْ مرضٍ أو ذهابِ نفقةٍ قيل فيه أُحصِرَ / فهو مُحْصَرٌ، وما كَانَ مِنْ حَبْسٍ قيل حُصِرَ، وبه قَالَ أبو عُبَيدٍ.
          قَالَ ابنُ حَزْمٍ: هذا لا معنى له وقولُ ربِّنا هو الحُجَّةُ، قَالَ تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} [البقرة:196]، وإنَّما نَزَلَتْ في الحُدَيبيَةِ، إذ منعه الكفَّارُ مِنْ إتمامِ عُمْرَتِه، فسمَّاه تعالى: إحصارًا، وكذلك قَالَ البراءُ وابنُ عُمَرَ والنَّخَعِيُّ، وهو في اللُّغة قول أبي عُبَيدَةَ وأبي عُبَيدٍ والكسائيِّ، وقالَ تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} [البقرة:273] فهذا هو منعُ العدوِّ بلا شكٍّ، لأنَّ المهاجرين إنَّما مَنَعَهم في الأرضِ الكفَّارُ، وبيَّنَ ذَلِكَ جلَّ وعزَّ بقولِه: {فِي سَبِيلِ اللهِ} فصحَّ أنَّ الإحصارَ والحَصْرَ بمعنًى واحدٍ، وأنَّهما اسمان يقعان عَلَى كلِّ مانعٍ مِنْ عدوٍّ أو مرضٍ أو غيرِ ذَلِكَ.
          وقالَ الفرَّاءُ: لو نويت بقهرِ السُّلطان أنَّها علَّةٌ مانعةٌ، ولم يذهب إلى فعل الفاعل جاز «أُحْصِرَ»، ولو قلت: في أُحْصِرَ مِنَ المرضِ وشبهه أنَّه حَصَرَه جاز «حُصِرَ»، وقوله: {وَسَيِّدًا وَحَصُوْرًا} [آل عمران:39] ويُقَالُ: إنَّه لمُحْصَرٌ عَنِ النِّساءِ لأنَّها علَّةٌ، وليس بممنوعٍ محبوسٍ، وعلى هذا فَابْنِ.
          وقَالَ الرُّمَّانيُّ في «اشتقاقِه»: الأصلُ فيه الحبسُ ومعنى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}: مُنِعْتُم مِنْ علَّةٍ أو عائقٍ، وذَكَرَ الزَّجَّاجُ في «معانيه»: أنَّ الرِّوايةَ عن أهل اللُّغة أنَّه يُقَالُ للَّذي يمنعه خوفٌ أو مرضٌ مِنَ التَّصرُّف: أُحْصِرَ فهو مُحصَرٌ، وللرَّجلِ الَّذي حُبِسَ: حُصِرَ فهو مَحْصُورٌ، وردَّ كلامَ الفرَّاءِ وقالَ: الحقُّ فيه ما عليه أهل اللُّغة لأنَّ الممنوع مِنَ التَّصرُّف حَبَسَ نفسَه، فكأنَّ المرضَ أحبسَه، أي: جعله يحبس نفسه، وتقول: حَصَرْتُ فلانًا، إنَّما هو حبستُه لا أنَّه حَبَسَ نفسَه، فلا يجوز فيه أُحْصِرَ، وإلى هذا ذَهَبَ ثعلبٌ وشرَّاحُه.
          وفي «نوادرِ اليزيديِّ»: حَصَرَني الشَّيءُ وأَحْصَرَني: حَبَسَني، لغةُ بني أسدٍ، وقال أبو عُبَيدَةَ عن يُونُسَ: حَصَرْتُه وأَحْصَرْتُه لغتان، قَالَ: ولم نجد أحصرته، وكان أبو عَمْرِو بنُ العلاءِ يقولُ: إذا حَبَسْتَه عَنِ الذَّهابِ في كلِّ وجهٍ فقد حَصَرْتَه، وإن حَبَسْتَه عَنِ التَّقدُّمِ خاصَّةً فقد أَحْصَرْتَه.
          وقالَ النَّحَّاسُ: جميع أهل اللُّغة عَلَى أنَّ الإِحْصَارَ إنَّما هو بالمرض، ومِنَ العدوِّ لا يُقَالُ إلَّا حُصِرَ.
          والمُحْصَرُ لا يتحلَّلُ إلَّا بالذَّبحِ عند الحنفيَّة والحنابلة، وعندنا به وبنيَّة التَّحلُّل، وكذا الحَلْق إن جعلناه نُسُكًا، وقال مالكٌ: لا هَدْي عليه إلَّا أن يكون معه هَدْيٌ ساقه، وذهب أبو حنيفةَ في جماعةٍ إلى أنَّ الإحصار يكون في العُمْرَةِ أيضًا، وقال ابنُ القاسمِ: ليس للعُمْرَةِ حدٌّ بل يتحلَّل، وإن لم يخشَ الفواتَ.
          ولا يجوز ذبح الإحصار إلَّا في الحرمِ في الحجِّ والعُمْرَةِ، قاله أبو حنيفةَ، قَالَ الرَّازِيُّ في «أحكامِه»: وهو قولُ ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ _إن قدر عليه_ وعطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ والحسنِ والنَّخَعيِّ والثَّورِيِّ، وقال الشَّافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ: يذبحُ في العُمْرَةِ هديه حيث أُحْصِرَ، وعن أحمدَ في الحجِّ روايتان: الأولى: تختصُّ بيومِ النَّحر، وعندنا إذا أمكنه ذبحُه في الحرمِ لا يجوز ذبحه في غيره في أحد الوجهين.
          وأجمعوا أنَّه لو أُحْصِرَ في الحرمِ لا يجوز ذبحه في الحلِّ، وبالعكس يجوز بلا خلافٍ، واستدلُّوا بأنَّه ◙ وأصحابه عام الحديبية لَمَّا أُحْصِرُوا في ذي القَعدةِ سنةَ ستٍّ نحروا هداياهم بها، وهي مِنَ الحلِّ.
          والحنفيَّةُ استدلُّوا بقولِه تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] فلو كَانَ محلُّه حيث أُحْصِرَ لم يكن لقولِه: {مَحِلَّهُ} معنًى لأنَّه يكون قد بلغ محلَّه في كلِّ موضعٍ أُحْصِرَ فيه، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ} [الحجّ:33] وهو عامٌّ في كلِّ هَدْيٍ، وهو بيان المحلِّ المجمل، وقال في جزاءِ الصَّيد: {هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة:95].
          وقولُه: (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي: وصدُّوا الهَدْي أن يبلغ محلَّه، وفي النَّسَائيِّ بإسنادٍ جيِّدٍ: ((أنَّه ◙ قَالَ له نَاجِيَةُ بنُ جُنْدُبٍ الأَسْلَمِيُّ حينَ صُدَّ الهَدْيُ: يا رَسُولَ اللهِ ابعثْ بِهِ مَعَي أَنَا أَنْحرهُ، قَالَ: وَكَيفَ؟ قَالَ: آخذُ بِهِ في أوديةٍ لا يُقْدَرُ عَلَيهِ فَدَفعهُ رَسُولُ اللهِ صلعم، فانْطَلَقَ به حَتَّى نَحَرَهُ في الحَرَمِ)).
          وذَكَرَ الطَّحاويُّ عَنِ المِسْوَر بنِ مَخْرَمَةَ ومروانَ بنِ الحَكَمِ أنَّهما ذكرَا: أنَّ خِبَاءَ رَسُولِ اللهِ صلعم كَانَ في الحلِّ ومصلَّاه في الحَرَمِ، وقَالَ مالكٌ: الحُدَيبيَةُ مِنَ الحَرَمِ، حكاه صاحبُ «المطالعِ» عنه، وقال ابنُ القَصَّارِ: بعضها مِنَ الحلِّ.
          وذكرَ عليُّ بنُ الجَعْدِ عن أبي يُوسُفَ: سَأَلْتُ أبا حنيفةَ عَنِ الحَصْرِ في الحَرَمِ، قَالَ: لا يكون مُحصَرًا، قُلْتُ: فرَسُولُ اللهِ صلعم أُحْصِرَ بالحُدَيبيةِ وهي مِنَ الحَرَمِ، فقالَ: إنَّ مكَّةَ كانت دار حربٍ والآن دارَ إسلامٍ.
          ويجوز ذبحه قبل يومِ النَّحر في العُمْرَةِ بالاتفاقِ، وكذا في الحجِّ عند أبي حنيفةَ، وخالفه صاحباه والثَّوريُّ وأحمدُ في روايةِ الأثرمِ وحنبلٍ، فقالوا: لا يجوز قبل يوم النَّحر، ولا يحتاج إلى الحَلْقِ، بل يتحلَّل بالذَّبح عند أبي حنيفةَ، وقال أبو يوسفَ: يحلق، فإنْ لم يحلق فلا شيء عليه، ورُوِيَ عنه دمٌ، وعن أحمدَ روايتان، وكذا عن مالكٍ والشَّافعيِّ، ولا بدلَ له عند الحنفيَّةِ، والأظهرُ عندَ الشَّافعيِّ: نعم، وأنَّه طعامٌ بقيمة الشَّاة، ومالكٍ في أحدِ قوليه، وفي الآخَرِ: يصومُ عشرةَ أيَّامٍ كالمتمتِّع، وهو قول أحمدَ، وكان عطاءٌ يقولُ: إذا عجز عَنِ الهَدْي ينظر إلى قيمته فيطعم به لكلِّ مسكينٍ نصف صاعٍ مِنْ بُرٍّ أو يصوم.
          قَالَ أبو يوسفَ: وهذا أحبُّ إليَّ، وقال الزُّهْرِيُّ وعُرْوَةَ: لا إحصار عَلَى أهل مكَّةَ، قَالَ أبو يوسفَ: إن غلب العدوُّ فحال بينه وبين البيت فهو محصورٌ.
          وفي «شرحِ الهدايةِ»: الأصحُّ أنَّه إن مُنِعَ مِنَ الوقوفِ والطَّوافِ فهو مُحصَرٌ وإن لم يمنع مِنْ أحدهما فلا، وذهب بعضهم إلى أنَّه لا إحصار اليوم لزوال الشِّركِ عن جزيرة العرب، وهذا شذوذٌ فإنَّ العدوَّ لم يزلْ، فإنْ حَبَسَه السُّلطانُ تحلَّلَ عند الجماعة خلافًا لمالكٍ، والحاجُّ عن غيره إذا أُحْصِرَ يجب عَلَى الآمِرِ دمٌ للإحصار عند أبي حنيفةَ ومُحَمَّدٍ، وعند أبي يوسفَ عَلَى الحاجِّ.
          وقال عبدُ اللهِ وعُرْوَةُ ابنا الزُّبَيرِ / بنِ العَوَّامِ: إنَّ العدوَّ والمرضَ سواءٌ، لا يحلُّ المُحصَرُ منهما إلَّا بالطَّواف، قَالَ الرَّازيُّ: لا نعلم لهما موافقًا مِنْ فقهاءِ الأمصارِ، ويتحقَّقُ الإحصارُ عند أبي حنيفةَ بعد الإحرام، وقال مالكٌ: لا يكون مُحصَرًا حَتَّى يفوته الحجُّ، إلَّا أن يدركه فيما بقي فيتحلَّل في مكانه.
          وفي «شرحِ الموطَّأِ» لأبي عبدِ اللهِ القُرْطُبيِّ: مَنْ أُحصِرَ بمرضٍ أو كسرٍ أو عَرَجٍ فقد حلَّ في موضعه ولا هدي، وعليه القضاءُ، وعزاه إلى أبي ثَورٍ تعلُّقًا بحديثِ الحَجَّاجِ بنِ عَمْرٍو، وخالف بذلك الجماعة، وحديثُ الحَجَّاجِ حسَّنَه التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الحاكمُ عَلَى شرطِ البُخاريِّ بلفظ: ((مَنْ كُسِرَ أو عَرَجَ فقد حَلَّ، وعليه الحجُّ مِنْ قَابِل)) وفي لفظٍ أبي داودَ: ((أَوْ مرض)) قَالَ عِكْرِمَةُ: فسَأَلْتُ ابنَ عبَّاسٍ وأبا هريرةَ عن ذَلِكَ فقالا: صدقَ.
          وقال بعضهم فيما حكاه المُنْذِرِيُّ: ثبت عَنِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قَالَ: لا حصر إلَّا حصرُ العدوُّ، فكيف بهذِه الرِّواية؟! وتأوَّله بعضهم إنَّما يحلُّ بالكسر إذا كَانَ قد اشترط ذَلِكَ في عقد الإحرام عَلَى معنى حديث ضُبَاعَةَ المشهور، قالوا: ولو كَانَ الكسرُ عُذرًا لم يكن لاشتراطها معنًى.