شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السلم إلى أجل معلوم

          ░7▒ بَابُ السَّلَمِ إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
          وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالأَسْوَدُ، وَالْحَسَنُ.
          وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: لاَ بَأْسَ بالسَّلَمِ في الطَّعَامِ المَوْصُوفِ بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، مَا لَمْ يَكُن ذَلِكَ في زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ.
          فيهِ ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ(1): (قَدِمَ النَّبيُّ صلعم المَدِيْنَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ(2) في الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: أَسْلِفُوا في الثِّمَارِ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ). [خ¦2253]
          اختلف العلماء في أجل السَّلم، فقال مالكٌ والكوفيُّون وجمهور الفقهاء: إنَّه لا يجوز السَّلم الحالُّ، ولا بدَّ فيه مِنْ أجلٍ معلومٍ، وروى ابن عَبْدِ الحَكَمِ عن مالكٍ أنَّه لا بدَّ فيه مِنْ أجلٍ وإن كانت أيَّامًا يسيرةً، وقال(3) ابن القَاسِمِ: معناه(4) إذا كانت أيَّامًا تتغيَّر فيها الأسواق. وقال الشَّافعيُّ وأبو ثَوْرٍ: يجوز السَّلم بغير ذكر أجلٍ أصلًا، وهذا خلاف الحديث لأنَّه ◙ قال: (مَنْ أَسْلَمَ(5))، فأتى بلفظ العموم، وأيضًا فإنَّه ◙ أحلَّ الأجل محلَّ الكيل والوزن وقرنه بهما، فلمَّا لم يجز العقد إذا عُدمت صفة الكيل والوزن، فكذلك الأجل يجب اعتباره، كما لو قال: صلِّ على صفة كذا، لم يجز العدول عن الصِّفة.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ أنَّ السَّلم بيعٌ مِنَ البيوع، والبيوع تجوز بثمنٍ مُعَجَّلٍ ومُؤَجَّلٍ(6)، فكذلك السَّلم، قيل: هذا ينتقض(7) بجواز السَّلم في المعدوم، وهو يجوز مُؤَجَّلًا ولا يجوز مُعَجَّلًا، وإنَّما لم يُجِز ابن عُمَرَ السَّلم في زرعٍ لم يبدُ(8) صلاحه، لأنَّه سلمٌ في عينٍ، وحكم السَّلم ألَّا يكون في عينٍ معلومةٍ، وإنَّما يكون في صفةٍ معلومةٍ ثابتةٍ في الذَّمَّة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين في السَّلم، ولا بجائحةٍ تنزل، وهذا مذهب أهل الحجاز، إلَّا أنَّ مالكًا أجاز السَّلم في طعام بلدٍ بعينه إذا كان الأغلب(9) فيه أنَّه لا يُخلف.
          ولم يختلف العلماء أنَّه لا يجوز أن يكون السَّلم في قمح فدَّانٍ بعينه، لأنَّه غررٌ(10) لا يُدرى هل يتمُّ زرعه أم لا، ويجوز عند جميعهم أن يكون السَّلم في زمنٍ يكون فيه الزَّرع قد بدا صلاحه إذا لم يكن(11) يُعيِّن زرعًا ما.
          فإن أسلم(12) الرَّجل في تمر حائطٍ بعد طيَّه(13) أو زرعٍ بعد ما أدرك(14)، فذكر ابن حبيبٍ عن ابن القَاسِمِ أنَّه كرهه، وإن فات لم يفسخ، وليس بالحرام البيِّن، ولا يجوز عند سائر الفقهاء لأنَّه كبيع عينٍ اشترط فيها تأخير القبض، وهذا لا يجوز لأنَّ مَنْ شرط البيع تسليم المبيع.
          قال ابن المُنْذِرِ: وفي(15) قوله ◙: (أَسْلِمُوا فِي الثِّمَارِ) إجازة السَّلم في الثِّمار كلِّها لعموم لفظه، وهو قول(16) ابن عُمَرَ: لا بأس بالسَّلم في الطَّعام بسعرٍ معلومٍ. فإنَّ العلماء اختلفوا في رأس مال السَّلم، فقال مالكٌ: لو(17) أسلم إليه عروضًا أو تبرًا أو فضَّةً مكسَّرةً(18) جزافًا صحَّ السَّلم، ولا يجوز أن يُسَلِّم إليه دنانير أو دراهم(19) جزافًا، فرَّق بين التِّبر والدَّنانير والدَّراهم لأنَّ التِّبر بمنزلة الثَّوب والسِّلعة عنده، وقال أبو حنيفةَ: لا يُسَلِّم إليه تبرًا جزافًا، ولا شيئًا ممَّا يُكال أو يُوزن جزافًا، وهو(20) أحد قولي الشَّافعيِّ، وقال أبو يوسفَ ومُحَمَّدٌ: يجوز أن يُسَلِّمَ إليه الدَّنانير والدَّراهم وكلَّ ما يُكال أو يُوزن جزافًا، وهو قول الشَّافعيِّ الآخر.
          وحجَّة أبي حنيفةَ أنَّه لابدَّ مِنْ معرفة رأس المال لأنَّه قد يعدم المُسْلَم فيه حين المطالبة، فينفسخ(21) العقد فيرجع بالثَّمن، وإذا(22) لم يكن معلومًا لم يمكن المطالبة به، وهو كالقراض لا بدَّ فيه مِنْ معرفة رأس المال، والحجَّة لمالكٍ أنَّ مقتضى العقد أن تقع المطالبة بالمُسْلَم فيه لا بالسَّلم(23)، فلم يفتقر إلى الصِّفة، وهذا المعنى موجودٌ في بيع الأعيان، لأنَّه قد يستحقُّ المبيع فتقع المطالبة برأس المال، ثمَّ يجوز جزافًا كما يجوز معلومًا، وقد تجوز الإجازة بالجزاف، / وقد تنهدم الدَّار فتقع المطالبة بالأجرة الَّتي سَلَّمَها(24) إليه المستأجر، ولم تفتقر الأجرة فيها إلى أن تكون موصوفةً بل يكون جزافًا، كذلك رأس مال السَّلم، وإنَّما افتقر القراض أن تكون الدَّراهم موصوفةً لأنَّ المطالبة تقع ببدل ما تسلَّمه، فهو بمنزلة المُسْلَم فيه.


[1] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[2] في (ص): ((يُسلمون)).
[3] في (ز): ((قال)).
[4] في (ز): ((ومعناه)).
[5] في (ز): ((سلم)).
[6] في (ز): ((مؤجَّلٍ ومعجَّلٍ)).
[7] في (ز): ((منتقض)).
[8] في (ز): ((يبدو)).
[9] قوله: ((الأغلب)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((غرر)) ليس في (ص).
[11] قوله: ((يكن)) ليس في (ز).
[12] في (ز): ((سلف)).
[13] في (ز) تحتمل: ((طيبه)).
[14] في (ز) صورتها: ((أفدك)).
[15] في المطبوع (ص): ((في)).
[16] في (ز): ((وقول)).
[17] في المطبوع: ((ولو))، وغير واضحة في (ص).
[18] في (ز): ((مكسورة)).
[19] في (ز): ((ودراهم)).
[20] في (ز): ((وهذا)).
[21] في (ز): ((فيفسخ)).
[22] في (ز): ((فإن)).
[23] في (ز): ((بالمسلَّم)).
[24] في (ز): ((يسلِّمها)).