شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أحب البسط في الرزق

          ░13▒ بَابُ مَنْ أَحَبَّ البَسْطَ فِي الرِّزْقِ
          فيهِ أَنَسٌ: قَالَ(1) صلعم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ). [خ¦2067]
          في هذا الحديث إباحة اختيار الغنى على الفقر، وسيأتي الكلام في ذلك في كتاب الرِّقائق إن شاء الله تعالى [خ¦6447].
          فإن قيل: هذا الحديث يُعارض قوله ◙: ((يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ / يَوْمًا مُضْغَةً(2))) وفيه: ((فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ)).
          قال المُهَلَّبُ: اختلف العلماء في وجه الجمع بينهما على قولين فقيل: معنى البسط في رزقه هو البركة فيه لأنَّ صلته أقاربه صدقةٌ، والصَّدقة تُربي المال وتزيد فيه، فينمو بها ويزكو(3).
          ومعنى قوله: (وَيُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ) أي يبقى ذكره الطَّيب وثناؤه الجميل مذكورًا على الألسنة، فكأنَّه لم يمت، والعرب تقول الثَّناء(4) يُضارع(5) الخلود، قال الشَّاعر:
إِنَّ الثَّنَـاءَ هُوَ الخُلُـودُ                      كمـا يُسَمَّى الـذَّمُّ موتًا
          قال سَابِقٌ البَربَرِيُّ:
قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ
          يعني بسوء أفعالهم وقبح ذكرهم.
          والقول الثَّاني: أنَّه يجوز أن يُكتب في بطن أمِّه أنَّه إن وصل رحمه فإنَّ رزقه وأجله كذا، وإن لم يصل رحمه فكذا، بدلالة قوله تعالى في قصَّة نوحٍ ◙: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ(6) وَأَطِيعُونِ. يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمَّى}[نوح:3-4]يُريد أجلًا قد قضى به لكم إن أطعتم يؤخِّركم إليه(7) لأنَّ أجل الله إذا جاء في حال معصيتهم لا يُؤخَّر عنهم(8) قال تعالى(9): {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةَ الدُّنْيَا}[يونس:98]وهو الهلاك على الكفر {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}[يونس:98]فهذا كلُّه مِنَ المكتوب في بطن أمِّه، أيُّ الأجلين استحقَّ لا يُؤخَّر عنه، ويُؤيِّد هذا قوله ╡: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ}[الرَّعد:39]وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ما هو تفسيرٌ لهذه الآية، رُوِيَ أنَّه كان يقول في دعائه: اللَّهُمَّ إن كنت كتبتني عندك شقيًّا، فامحني واكتبني سعيدًا، فإنَّك تقول: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ}[الرَّعد:39]وستأتي جملةٌ مِنْ هذا في كتاب الأدب في باب مَنْ بُسِطَ له في الرِّزق لصلة الرَّحم، إن شاء الله تعالى [خ¦5986].


[1] زاد في (ز): ((النَّبيُّ)).
[2] قوله: ((مضغة)) ليس في (ز).
[3] في (ز): ((فينمو ويزكو بها)).
[4] في (ز): ((الثَّناء)) غير واضحة.
[5] في (ص): ((يعارض)).
[6] في (ز) و(ص): ((في قصَّة نوحٍ اتَّقوا الله)).
[7] في (ز): ((الله)).
[8] في (ز): ((معصيتكم لا يؤخَّر عنكم)).
[9] في (ز): ((قال الله تعالى)).