شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة

          [░87▒ بَابٌ إِذَا بَاعَ الثِّمَارَ(1) قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهَا
          ثُمَّ أَصَابَتْهَا عَاهَةٌ فَهُوَ مِنَ البَائِعِ.
          فيهِ أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِي(2)؟ قَالَ(3): حَتَّى تَحْمَرَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم(4): أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ فبِمَ(5) يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ). [خ¦2198]
          وَقَالَ ابنُ شِهَابٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ كَانَ مَا أَصَابَهُ عَلَى رَبِّهِ.
          وفيهِ(6) ابنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا تَبْتَاعُوا(7) الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، وَلَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ).
          بيع الثِّمار قبل بدو صلاحها بيعٌ فاسدٌ، لنهي النَّبيِّ صلعم عنه، ومصيبة الجائحة فيه مِنَ البائع لفساد البيع، وأنَّه لم ينتقل ملك البائع مِنَ(8) الثَّمرة بالعقد، ولا قبضها المشتري، لأنَّ القبض لا يكون فيما لم يتمَّ، وإنَّما تلفت في ملك البائع ويده، فلا شيء على المشتري. /
          الأصل في وضع الجائحة في الثِّمار حديث جابرٍ قالَ: (أَمَرَ النَّبيُّ ◙ بِوَضْعِ الجَوَائِحِ) وقالَ في حديثٍ
          آخرَ]
(9): قالَ رَسُولُ اللهِ: (لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيْكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مِنْ مَالِ أَخِيْكَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أخرج هذين الحديثين مسلمٌ(10).
          واستدلَّ جماعةٌ مِنَ الفقهاء بقوله ◙: (أَرَأَيْتَ لَوْ(11) مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيْهِ؟) على وضع الجائحة في الثَّمر يُشترى بعد بدوِّ صلاحه شراء صحيحًا، ويقبضه(12) في رؤوس النَّخل، ثمَّ تصيبه(13) جائحةٌ، فذهب مالكٌ وأهل المدينة إلى أنَّ الجائحة الَّتي تُوضع عن المشتري الثُّلُث فصاعدًا، ولا يكون ما دون ذلك جائحةٌ.
          وقال(14) أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ وقالَ أبو(15) عُبَيْدٍ وجماعةٌ مِنْ أهل الحديث: الجائحة موضوعةٌ في القليل والكثير، وذهب اللَّيْثُ والكوفيُّون(16) والشَّافعيُّ إلى أنَّ الجائحة في مال المشتري، ولا يرجع على البائع بشيءٍ، واحتجُّوا بأنَّ قوله ◙: (أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيْهِ؟) إنَّما ورد في بيع الثَّمرة قبل بدوِّ صلاحها(17) مطلقًا مِنْ غير شرط القطع قالوا: وعندنا أنَّ الثَّمرة إذا بيعت قبل بدوِّ الصَّلاح(18) مِنْ غير شرط القطع(19) فتلفت بجائحةٍ أن مصيبتها مِنَ البائع، لأنَّ البيع كان باطلًا، وإلى هذا المعنى ذهب البخاريُّ في هذا الباب.
          قالوا: والدَّليل على أنَّه واردٌ في بيع الثَّمرة قبل بدوِّ صلاحها قوله: (فَبِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيْهِ)، وبعد بدوِّ الصَّلاح يكون البيع صحيحًا، [ولا يجوز أن يُقَالَ فيه: فبم يستحلُّ لأنَّه يستحلُّه بالعقد، قال ابنُ القَصَّارِ: فالجواب: أنَّه إن استحلَّه بعقد البيع فإنَّ تمام القبض لا يحصل عندنا إلَّا باجتناء الثَّمرة، وقبل أن تجتنى المصيبة مِنَ البائع وليس قبض كلِّ ما يُشترى، كلُّه على وجهٍ واحدٍ، ألا ترى أنَّ الرَّجل يستأجر ظِئرًا شهرًا لرضاع ولده، وهو(20) في معنى شراء اللَّبن الَّذي لا يستطيع قبضه في موضعٍ واحدٍ، فلو انقطع اللَّبن في نصف الشَّهر لرجع بما يصيبه، فكذلك في الثَّمر، إذ العادة جرت بأن يأخذه(21) أوَّلًا أوَّلًا(22) عند إدراكه وتناهيه، ولو اشتراه مقطوعًا لكانت مصيبته مِنَ المشتري، لأنَّه يقدر على أخذه كلِّه في الحال.
          فإن قيل: فقولوا بالجائحة في القليل والكثير، وقد قالَ به أحمدُ بنُ حنبلٍ وجماعةٌ. قيل: الجائحةُ في لسان العرب إنَّما هي فيما كثر دون ما قلَّ، لأنَّه لا يُقَالُ لِمَنْ ذهب درهمٌ مِنْ ماله وهو يملك ألوفًا أنَّه أجيح، ومِنْ جهة المعقول أنَّ المشتري قد دخل على ذهاب اليسير مِنَ الثَّمرة، لأنَّه لا بدَّ أن يسقط شيءٌ منها وتلحقه الآفة ويأكل الطَّير وغيره منها، فلم يجب على البائع أن يضع على(23) المشتري ذلك المقدار الَّذي دخل عليه حتَّى يكون في حدِّ الكثير، وأوَّل حدِّ(24) الكثير مِنَ الشَّيء ثلثه فصاعدًا بدليل قوله ◙ لسَعْدٍ: ((الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيْرٌ)) فجعل ثلث ماله كثيرًا في ماله، فلهذا قال مالكٌ: إنَّه يوضع الثُّلث فصاعدًا، ليكون قد أخذ بالخبر والنَّظر، وقد قال(25) يحيى بنُ سَعِيْدٍ: لا جائحة فيما أُصيب دون ثلث رأس المال، وذلك في سنَّة المسلمين.]
(26)


[1] في المطبوع: ((ثمار الجوائح)).
[2] قوله: ((فَقِيلَ لَهُ: وَمَا تُزْهِي)) ليس في (ز).
[3] في المطبوع: ((فقال)).
[4] قوله: ((فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم)) ليس في (ز)، وبدله قوله: ((قال)).
[5] في المطبوع: ((بم)).
[6] في المطبوع: ((وقال)).
[7] في المطبوع: ((تبايعوا)).
[8] في المطبوع: ((عن)).
[9] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[10] قوله: ((الأصل في وضع الجائحة في الثِّمار حديث جابر قال: (أمر النَّبيُّ ◙ بوضع الجوائح) وقال في حديث آخر: قال رسول الله: (لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحةٌ، فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ من مال أخيك بغير حقٍّ) أخرج هذين الحديثين مسلم)) ليس في (ز).
[11] في (ز): ((إن)).
[12] في (ز): ((ويقبضها)).
[13] في (ز): ((تصيبها)).
[14] في (ز): ((قال)).
[15] في (ز): ((حنبل وأبو)).
[16] في (ز): ((الكوفيُّون واللَّيث)).
[17] في (ز): ((الصَّلاح)).
[18] في المطبوع: ((صلاحها)).
[19] قوله: ((القطع قالوا: وعندنا أنَّ الثَّمرة إذا بيعت قبل بدوِّ الصَّلاح من غير شرط القطع)) ليس في (ص).
[20] في المطبوع: ((فهو)).
[21] في المطبوع: ((يؤخذ)).
[22] في المطبوع: ((فأوَّلًا)).
[23] في المطبوع: ((عن)).
[24] في المطبوع: ((وهو الحدُّ)).
[25] في المطبوع: ((والنَّظر، وقال)).
[26] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).