شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من باع نخلًا قد أبرت أو أرضًا مزروعةً أو بإجارة

          [░90▒ بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ
          وقَالَ نَافِعٌ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيْعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ _لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَرُ_ فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ العَبْدُ وَالحَرْثُ، سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَ(1).
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ). [خ¦2203]
          قال الخليلُ: الأَبْرُ: لقاح النَّخل أَبَّرَ النَّخْلَ فأَبَّرَها(2) أبرًا، والتَّلقيح: هو أن يُؤخذ طَلْعُ ذُكُور النَّخيل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث، وأمَّا معنى الإبار في سائر الأشجار فإنَّ ابنَ القَاسِمِ يراعي ظهور الثَّمرة لا غير، وقالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ: كلُّ ما لا يُؤَبَّر مِنَ الثِّمار فاللُّقاح فيها بمنزلة الإبار في النَّخل.
          وأخذ بظاهر حديث ابنِ عُمَرَ مالكٌ واللَّيْثُ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ فقالوا: مَنْ باع نخلًا قد أُبِّر ولم يشترط ثمرتَه المبتاعُ فالثَّمرة للبائع، وهي في النَّخل متروكةٌ إلى الجداد، وعلى البائع السَّقي، وعلى المشتري تخليته وما يكفي مِنَ الماء، وكذلك إذا باع الثَّمرة دون الأصل، فعلى البائع السَّقي.
          وقالَ(3) أبو حنيفةَ: سواءٌ أبَّر أو لم يُؤبِّر هو للبائع، وللمشتري أن يطالبه بقلعها عن النَّخل في الحال، ولا يلزمه أن يصبر عليه(4) إلى الجداد، فإن اشترط البائع في البيع ترك الثَّمرة إلى الجداد، فالبيع فاسدٌ، واحتجُّوا بالإجماع على أنَّ الثَّمرة لو لم تُؤَبَّر حتَّى تناهت وصارت بلحًا أو بُسرًا وبِيْعَ النَّخلُ أنَّ الثَّمرة لا تدخل]
(5) /
          فيه، فعلمنا أنَّ المعنى في ذكر الإبار ظهور الثَّمرة خاصَّةً، إذ(6) لا فائدة لذكر(7) الإبار غير ذلك، ولم يفرِّقوا بين الإبار وغيره، قالوا: وقد تقرَّر أنَّ مَنْ باع دارًا له فيها متاعٌ، فللمشتري المطالبة بنقله عن الدَّار في الحال، ومَنْ باع شيئًا فعليه تسليمه ورفع يده عنه، وبقاء الثَّمرة على النَّخل بعد البيع انتفاعٌ بالنَّخل إلى وقت الجداد، فيكون في معنى مَنْ باع شيئًا واستثنى منفعته، وهذا(8) لا يجوز، فخالفوا السُّنَّة إلى قياسٍ، ولا قياس لأحدٍ مع السُّنَّة(9).
          ويُقَالُ لهم: إنَّ مَنْ باع شيئًا مشغولًا [فحقٌّ للبائع(10)، فإنَّ البائع يلزمه نقله عن المبيع على ما جرت به العادة في نقل مثله، ألا ترى أنَّه لو باع دارًا هو فيها وعياله في نصف اللَّيل وله فيها طعامٌ كثيرٌ وآلةٌ، فلا خلاف أنَّه لا يلزمه نقله عنها نصفَ اللَّيل حتَّى يرتاد منزلًا يسكنه، ولا يطرح ماله في الطَّريق، هذا عُرف النَّاس، وكذلك جرت العادة في أخذ الثَّمرة عند الجداد، وهو حين كمال بلوغها، ولمَّا ملَّك النَّبيُّ صلعم الثَّمرة بعد الإبار للبائع اقتضى استيفاء منفعته لها(11) على كمالها، وأغنى ذلك عن استثناء البائع تبقية الثَّمرة إلى الجداد، وأبو حنيفةَ يجيز أن يبيع السِّلعة أو الثَّمرة ويستثني نصفها وثلثيها وما شاء منها إذا كان المستثنى معلومًا، وكذلك قول أكثر العلماء إذا باع نخلًا وفيها ثمرةٌ لم تُؤبَّر فهي للمبتاع تابعةٌ لأصلها بغير شرطٍ، استدلالًا بحديث ابنِ عُمَرَ، وخالف ذلك أبو حنيفةَ فقال: هي للبائع بمنزلتها(12) لو كانت مُؤَبَّرةً، إلَّا أن يشترطها المبتاع.
          فيُقَالُ له: الثَّمر له صفتان: مُؤبَّرٌ وغيرُ مؤبَّرٍ، ولمَّا جعله النَّبيُّ صلعم إذا كان مُؤبَّرًا للبائع وبترك(13) المشتري اشتراطها، فادنا(14) ذلك أنَّ الثَّمرة للمشتري إذا لم تؤبَّر وكانت في أكمامها وإن لم يشترطها المشتري، ولو كان الحكم فيهما(15) غير مختلفٍ حتَّى يكون الكلُّ للبائع، لكان يقول: مَنْ باع نخلًا فيها ثمرةٌ(16) فهي للبائع. فخالف أبو حنيفةَ الحديث مِنْ وجهين: خالف نصَّه إذا كانت الثَّمرة مؤبرةٌ، وخالف دليله إذا كانت الثَّمرة لم تؤبَّر.
          وأمَّا(17) الأرض فيها زرعٌ، فروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ: أنَّ مَنِ اشترى أرضًا فيها زرعٌ لم(18) يظهر ولم يُسبَّل، فالزَّرع للبائع إلَّا أن يشترطه المشتري فإن(19) وقع البيع والبذر لم ينبت، فهو للمبتاع بغير شرطٌ.
          وروى ابنُ عبدِ الحَكَمِ عن مالكٍ: إن كان الزَّرع لُقِّح أكثره _ولقاحه أن يحبَّب(20) ويسبَّل_ حتَّى لو يبس حينئذٍ(21) لم يكن فسادًا فهو للبائع إلَّا أن يشترطه المشتري وإن كان لم يلقَّح فهو للمبتاع.
          وذكر ابنُ عبدِ الحَكَمِ في موضعٍ آخر مِنْ كتابه مثل رواية ابنِ القَاسِمِ(22).]
(23)


[1] قوله: ((سمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَ)) ليس في (ز).
[2] في المطبوع: ((يأبِّرها)).
[3] في المطبوع: ((قال)).
[4] قوله: ((عليه)) ليس في المطبوع.
[5] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[6] قوله: ((إذ)) ليس في (ز).
[7] في (ص) تحتمل: ((لذلك)).
[8] في (ز): ((هذا)).
[9] في (ز): ((النَّاس)).
[10] في المطبوع: ((يحقُّ للبائع))، وغير واضحة في (ص).
[11] في المطبوع: ((بها)).
[12] في المطبوع: ((بمنزلة)).
[13] في المطبوع: ((بترك)).
[14] في المطبوع: ((أفادنا)).
[15] في المطبوع: ((فيها)).
[16] في المطبوع: ((ثمر)).
[17] في المطبوع: ((فأمَّا بيع)).
[18] في المطبوع: ((زرع ظهر)).
[19] في المطبوع: ((وإن)).
[20] في المطبوع: ((يتحبَّب)).
[21] في المطبوع: ((يومئذ)).
[22] زاد في المطبوع: ((والله أعلم)).
[23] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).