شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه

          [░100▒ بَابُ شِرَاءِ المَمْلُوكِ مِنَ الحَرْبِيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ
          وَقَالَ النَّبيُّ(1) صلعم لِسَلْمَانَ: (كَاتِبْ)، وَكَانَ حُرًّا فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ، وَسُبِيَ عَمَّارٌ وَصُهَيْبٌ وَبِلاَلٌ، وَقَالَ اللهُ ╡: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ}(2)[النَّحل:71].
          فيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ ◙ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ _وْ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ_ فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ(3) / مَنْ هَذِهِ الَّتي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِي حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ(4) مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا على زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ _قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ(5): إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ(6) هِيَ قَتَلَتْهُ_ فَأُرْسِلَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وتُصَلِّي، فَقَالَتْ مِثْلَ مَا قَالَتْ(7) فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ(8) _فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ، فَيُقَالُ(9): هِي قَتَلَتْهُ_ فَأُرْسِلَ في الثَّانِيَةِ، والثَّالِثَةِ(10)، فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فأَعْطُوهَا(11) آجَرَ، فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللهَ كَبَتَ الكَافِرَ، وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً). [خ¦2217]
          وفيهِ عَائِشَةُ(12): (اخْتَصَمَ سَعْدُ(13) وَعَبْدُ بنُ زَمْعَةَ في غُلَامٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: هذا يَا رَسُولَ اللهِ،(14) ابنُ أَخِي عُتْبَةُ(15) عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ أَنَّهُ ابْنُهُ(16)، وَقَالَ عَبْدُ بنُ زَمْعَةَ: هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ أَخِي(17) وُلِدَ على فِرَاشِ أبي مِنْ وَلِيدَتِهِ، فَنَظَرَ النَّبيُّ صلعم إلى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ). [خ¦2218]
          وفيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: (أَنَّهُ قَالَ لِصُهَيْبٍ: اتَّقِ اللهَ وَلَا تَدَّعِ إِلَى غَيْرِ أَبِيكَ، فَقَالَ صُهَيْبٌ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، وَأَنِّي قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي سُرِقْتُ وَأَنَا صَبِيٌّ). [خ¦2219]
          وفيهِ حَكِيمٌ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا في الجَاهِلِيَّةِ مِنْ صِلَةٍ وَعَتَاقَةٍ وَصَدَقَةٍ، هَلْ لِي فِيهَا أَجْرٌ؟(18) قَالَ النَّبيُّ(19) صلعم: أَسْلَمْتَ على مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ). [خ¦2220]
          غرض البخاريِّ في هذا الباب، والله أعلم، إثبات ملك الحربيِّ والمشرك، وجواز تصرُّفه في ملكه بالبيع والهبة والعتق، وجميع ضروب التَّصرُّف إذ قد أقرَّ النَّبيُّ صلعم سَلْمَانَ عند مالكه مِنَ الكفار، ولم(20) يُزِل ملكه عنه، وأمره أن يكاتب، و قد كان حرًّا وأنَّهم ظلموه وباعوه، ولم ينقض ذلك ملك مالكه، وكذلك كان أمر عَمَّارٍ وصُهَيْبٍ وبِلَالٍ، باعهم مالكوهم الكفار مِنَ المسلمين، واستحقُّوا أثمانهم وصارت ملكًا لهم، ألا ترى أنَّ إبراهيم ╕ قَبِلَ هبة الملِك الكافر، وأنَّ عبدَ بنَ زَمْعَةَ قال للنَّبيِّ صلعم: هذا ابنُ أَمَةِ أبي وُلِدَ على فراشه فأثبت لأبيه أَمَةً وملكًا عليها في الجاهلية، فلم ينكر ذلك النَّبيُّ صلعم وسماعه الخصام في ذلك دليلٌ على تنفيذ عهد المشرك، والحكم له إن تُحوكم فيه إلى المسلمين، وكذلك جوَّز ◙ عتق حَكِيْمِ بنِ حِزَامٍ وصدقه(21) في الجاهلية، ومعنى قوله تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ(22)}الآية[النَّحل:71]، فالآية تضمَّنت التَّقريع للمشركين والتَّوبيخ لهم على تسويتهم عبادة الأصنام بعبادة الله تعالى، فنبههم الله تعالى على(23) أنَّ مماليكهم غير مساوين لهم في أموالهم، فالله تعالى أَولى بإفراد العبادة وألَّا يشرك معه أحدٌ مِنْ عبيده، إذ لا ملك(24) على الحقيقة سواه(25)، ولا مستحقُّ للإلهيَّة غيره ╡.
          قالَ الطَّبَرِيُّ: فإن قال قائلٌ: كيف جاز لليهوديِّ ملك سَلْمَانَ وهو مسلمٌ، ولا يجوز للكافر ملك مسلمٍ؟ فالجواب: إنَّ حكم النَّبيِّ صلعم وشريعته أنَّ مَنْ غلب مِنْ أهل الحرب على نفس غيره أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممَّنْ دخل في صبغة الإسلام، فهو لغالبه ملكًا، وكان سَلْمَانُ حين غلب على نفسه لم يكن مؤمنًا، وإنَّما / كان إيمانه إيمان تصديقٍ بالنَّبيِّ صلعم إذا بُعِثَ مع إقامته على شريعة عيسى ◙ وأقرَّه(26) ◙ مملوكًا لمَنْ كان في يده، إذ كان في حكمه ◙ أنَّ مَنْ أسلم مِنْ رقيق المشركين في دار الحرب، ولم يخرج مراغمًا لسيِّده فهو لسيِّده، أو كان سيِّده مِنْ أهل صلح المسلمين، فهو مملوكٌ لمالكه.
          قالَ المُهَلَّبُ: وفي حديث إبراهيمَ ◙ مِنَ الفقه: إباحة المعاريض، وأنَّها مندوحةٌ(27) عن الكذب.
          وفيه: أنَّ أخوة الإسلام أخوةٌ يجب أن يُتسمَّى(28) بها.
          وفيه: الرُّخصة في الانقياد للظَّالم والغاصب.
          وفيه: قبول صلة السُّلطان الظَّالم في دينه(29).
          وفيه: إجابة الدَّعوة بإخلاص النِّيَّة، وكفاية الله ╡(30) لمَنْ أخلصها بما يكون نوعًا مِنَ الآيات، وزيادةً في الإيمان، وتقويةً على التَّصديق والتَّسليم والتَّوكُّل.
          وقوله: (فَغُطَّ)، يُقَالُ: غطَّ غطيطًا صوَّت في نومه، مِنْ كتاب «الأفعال».
          وقوله: (كَبَتَ الكَافِرُ(31)) يعني صرعه لوجهه، وكَبَتَ اللهُ العدوَّ: أهلكه مِنَ «الأفعال».]
(32)


[1] في المطبوع: ((وقال ◙)).
[2] في المطبوع: (({وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ} إلى قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ})).
[3] زاد في المطبوع: ((أن يا إبراهيم)).
[4] زاد في المطبوع: ((من)).
[5] زاد في المطبوع: ((بن عبد الرَّحمن)).
[6] في (ز): ((فقال)).
[7] في المطبوع: ((تصلِّي وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا على زَوْجِي، فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ هَذَا الكَافِرَ)).
[8] قوله: ((حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ)) ليس في (ز).
[9] في (ز): ((فقال)).
[10] في المطبوع: ((أو في الثَّالثة)).
[11] في المطبوع: ((وأعطوها)).
[12] زاد في المطبوع: ((أنَّها قالت)).
[13] زاد في المطبوع: ((ابن أبي وقَّاص)).
[14] في المطبوع: ((يا رسول الله هذا)).
[15] زاد في المطبوع: ((ابن أبي وقَّاص)).
[16] زاد في المطبوع: ((انظر إلى شبهه)).
[17] في المطبوع: ((هذا أخي يا رسول الله)).
[18] زاد في المطبوع: ((قال حكيم)).
[19] في المطبوع: ((رسول الله)).
[20] في المطبوع: ((فلم)).
[21] في المطبوع: ((وصدقته)).
[22] قوله: (({عَلَى بَعْضٍ في الرِّزْقِ})) ليس في المطبوع.
[23] قوله: ((على)) ليس في المطبوع.
[24] في (ز): ((ملك)) غير واضحة.
[25] قوله: ((سواه)) ليس في المطبوع.
[26] في المطبوع: ((فأقرَّه)).
[27] في المطبوع: ((لمندوحة)).
[28] في المطبوع: ((يسمَّى)).
[29] قوله: ((في دينه)) ليس في المطبوع.
[30] في المطبوع: ((جلَّ ثناؤه وتقدَّست أسماؤه)).
[31] في المطبوع: ((كبت الله الكافر)).
[32] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.