شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات

          ░5▒ بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوَسَاوِسَ(1) وَنَحْوَهَا مِنَ الشُّبُهَاتِ
          فيهِ عَبْدُ اللهِ بنُ زَيْدٍ: (شُكِيَ إِلَى النَّبيِّ صلعم الرَّجُلُ(2) يَجِدُ في الصَّلاةِ شَيْئًا، أَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيْحًا).
          وقال الزُّهْرِيُّ: لَا وُضُوءَ إِلَّا فِيْمَا وَجَدْتَ الرِّيْحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ. [خ¦2056]
          وفيهِ عَائِشَةُ: (أَنَّ قَوْمًا(3) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ(4) صلعم: سَمُّوا اللهَ عَلَيْهِ(5) وَكُلُوهُ). [خ¦2057]
          إنَّما لم يدخل الوسواس في حكم الشُّبهات المأمور باجتنابها لقوله ◙: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ))، فالوسوسة(6) ملغاةٌ مطَّرحةٌ لا حكم لها ما لم تستقرَّ وتثبت، وحديث عَبْدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ محمولٌ عند الفقهاء على المستنكح(7) الَّذي يعتريه ذلك كثيرًا، بدليل قوله: (شُكِيَ إِلَى النَّبيِّ صلعم ذَلِكَ)، لأنَّ الشَّكوى إنَّما تكون مِنْ عِلَّةٍ، فإذا كثر الشَّكُّ في مثل ذلك(8) وجب إلغاؤه واطِّراحه، لأنَّه لو أوجب(9) له ◙ حكمًا لما انفكَّ صاحبه مِنْ أن يعود إليه مثل ذلك التَّخيُّل(10) والظَّنِّ، فيقع في ضيقٍ وحرجٍ وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(11)[الحج:78]وكذلك حديث عائشةَ مثل هذا المعنى، لأنَّه لو حمل ذلك الصَّيد على أنَّه لم يُذكر اسم الله عليه لكان في ذلك أعظم الحرج، والمسلمون محمولون على السَّلامة، ولا ينبغي أن يُظَنَّ بهم ترك التَّسمية، فضَعُفَت الشُّبهة فيه، فلذلك لم يحكم بها النَّبيُّ صلعم، وغلب الحكم بضدِّها لأنَّ المسلمين في ذلك الزَّمن(12) كانوا مِنَ القرن الَّذين أُثني عليهم، فلا يتوجَّه إليهم سوء الظَّنِّ في دينهم.
          فإن قيل: فما معنى قوله ◙: (سَمُّوا اللهَ وَكُلُوا)؟ قيل: هذا منه ◙ مِنَ الأخذ بالحزم في ذلك خشية أن ينسى الَّذي صاده التَّسمية، وإن كانت التَّسمية عند الأكل غير واجبةٍ لما قدَّمناه مِنْ فضل أهل ذلك القرن، وبعدهم عن مخالفة أمر الله تعالى ورسوله صلعم في ترك التَّسمية على الصَّيد.


[1] في (ز): ((الوسواس)).
[2] قوله: ((الرَّجل)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((أقوامًا)).
[4] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[5] قوله: ((عليه)) ليس في (ز).
[6] في (ز): ((فالوسواس)).
[7] المستنكح: هو الَّذي يعتريه الشَّك ُّكثيرًا في مبطلات الصَّلاة والصِّيام وغيرها.
[8] في (ز): ((هذا)).
[9] في (ز): ((لأنَّه لمَّا وجب)).
[10] في (ز): ((التَّخييل)).
[11] قوله: ((وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ})) ليس في (ص).
[12] في (ز): ((الزَّمان)).