شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ثمن الكلب

          [░113▒ بَابُ ثَمَنِ الكَلْبِ
          فيهِ أَبُو مَسْعُودٍ: (أَنَّ النَّبيَّ(1) صلعم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ). [خ¦2237]
          وفيهِ أَبُو جُحَيْفَةَ: (نَهَى رَسُولُ اللهِ(2) صلعم عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ الأَمَةِ...) الحديثَ. [خ¦2238]
          اختلفتِ الرِّواية عن مالكٍ في بيع الكلب، فقال في «الموطَّأ»: أكره بيع الكلب الضَّاري وغيره لنهي النَّبيِّ(3) صلعم عن ثمن الكلب، وروى ابن نافعٍ عن مالكٍ أنَّه كان يأمر ببيع الكلب الضَّاري في الميراث والدَّين والمغانم، وكان يكره بيعه للرَّجل ابتداءً، قال ابن نافعٍ: وإنَّما نهى رسول الله صلعم عن ثمن الكلب العقور، وروى أبو زيدٍ عن ابن القَاسِمِ أنَّه لا بأس باشتراء كلاب(4) الصَّيد، ولا يعجبني بيعها، وكان ابن كِنَانَةَ وسُحْنُونٌ يُجيزان بيع كلاب الصَّيد والحرث والماشية، قال سُحْنُونٌ: ويحجُّ بثمنها، وهو قول الكوفيِّين.
          وقال مالكٌ: إن قُتِلَ كلبُ الدَّار فلا شيء فيه(5) إلَّا أن يسرح مع الماشية، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ أنَّه مَنْ قَتَلَ كلبًا لرجلٍ ليس بكلب صيدٍ ولا ماشيةٍ فعليه قيمته، وكذلك السَّباع كلُّها، وقال الأوزاعيُّ: الكلب لا يُباع في مقاسم المسلمين، هو لمَنْ أخذه، وقال الشَّافعيُّ: لا يجوز بيع كلاب الصَّيد والحرث والماشية، ولا قيمة فيها، وهو قول أحمدَ بن حنبلٍ، واحتجَّا بعموم نهيه ◙ عن ثمن الكلب، وحجَّة مالكٍ والكوفيَّين قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}[المائدة:4]فإذا أحلَّ لنا الَّذي علمناه، أفادنا ذلك إباحة التَّصرُّف فيها بالإمساك والبيع وغير ذلك، فوجب أن يجوز بيعها وشراؤها بظاهر الآية.
          فإن قيل: المذكور في(6) الآية هو تحليل تعليم الكلاب، وأكل ما أمسكنَ علينا. فالجواب: أنَّ (مَا) بمعنى الَّذي، فتقديره(7) أُحِلَّ لكم الطَّيِّبات والَّذي علمتم مِنَ الجوارح، ثمَّ أباح تعليمهنَّ بقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ}[المائدة:4]وهذا قول جماعةٍ مِنَ السَّلف.
          رُوِيَ عن جابرِ بن عبدِ اللهِ أنَّه جعل في كلب الصَّيد القيمة(8)، وعن عَطَاءٍ مثله، وقال: لا بأس بثمن الكلب السُّلُوقِيِّ. وعن النَّخَعِيِّ مثله، وقال ابن شِهَابٍ(9): إذا قُتِلَ الكلبُ المعلَّمُ ففيه القيمة، وأوجب فيه ابن عُمَرَ أربعين درهمًا، وفي كلب ماشيةٍ(10) فرقًا مِنْ طعامٍ، وأجاز عُثْمَانُ الكلب الضَّاري في المهر، وجعل فيه عشرين مِنَ الإبل على مَنْ قتله، وقد روى(11) ابن عُمَرَ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((مَنِ اقتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبًا ضَارِيًا أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمِلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَيْرَاطَانِ)) فهذا الحديث زائدٌ، فكأنَّه ◙ نهى عن ثمن الكلب إلَّا الكلب الَّذي أَذِنَ في اتِّخاذه للانتفاع به، / ويحتمل أن يكون]
(12) حديث(13) الَّذي فيه النَّهي عن ثمن الكلب وكسب الحجَّام كان في بدء الإسلام، ثمَّ نُسِخَ ذلك، وأُبيح الاصطياد به، وكان كسائر الجوارح في جواز بيعه، وكذلك لمَّا أعطى الحجَّام أجره كان ناسخًا لما تقدَّمه، وذكر الطَّحَاوِيُّ مِنْ حديث أبي رافعٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم لمَّا أمر بقتل الكلاب أتاه ناسٌ فقالوا: يا رسول الله، ما يحلُّ لنا مِنْ هذه الأمَّة الَّتي أمرت بقتلها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}[المائدة:4]فلمَّا حلَّ(14) لنا الانتفاع بها، حلَّ لنا(15) بيعها وأكل ثمنها.
          وقال المُهَلَّبُ: ما في حديث أبي جُحَيْفَةَ غير كسب الإماء وأكل الرِّبا، فهو مكروهٌ تنزُّهًا عن رذائل المكاسب، وكسب الإماء والزِّنا مُحرَّمان بالكتاب والسُّنَّة(16)، وهو كلُّه مذكورٌ تحت قولٍ واحدٍ، فلا حجَّة لأحدٍ في جمع أمورٍ مختلفة الأحكام تحت كلامٍ واحدٍ.
          (وحُلْوَانَ الكَاهِنِ) يعني أجره على الكهانة، وسيأتي تفسير البغي في كتاب الإجارة إن شاء الله تعالى [خ¦2283].


[1] في المطبوع: ((أبو مسعودٍ الأنصاريُّ أنَّ رسول الله)).
[2] في المطبوع: ((النَّبيُّ ◙)).
[3] في المطبوع: ((رسول الله)).
[4] في المطبوع: ((كلب)).
[5] في المطبوع: ((عليه)).
[6] زاد في المطبوع: ((هذه)).
[7] في المطبوع: ((وتقديره)).
[8] في المطبوع: ((جعل القيمة في كلب الصَّيد)).
[9] في المطبوع: ((وقال أشهبُ)).
[10] زاد في المطبوع: ((شاة، وفي كلب الزَّرع)).
[11] في المطبوع: ((وقد روي عن)).
[12] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.
[13] في (ز): ((الحديث)).
[14] في (ز): ((أبيح)).
[15] قوله: ((لنا)) ليس في (ز).
[16] قوله: ((والسَّنَّة)) ليس في (ز).