شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع

          ░95▒ [بَابُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ على مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ في البُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالمِكْيَالِ وَالوَزْنِ وَسُنَّتِهِمْ على نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ المَشْهُورَةِ
          وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ، وَقَالَ ابنُ سِيْرِيْنَ(1): لاَ بَأْسَ العَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَقَالَ النَّبيُّ صلعم لِهِنْدٍ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ).
          وَقَالَ تعالى: {وَمَنْ(2) كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ}[النِّساء:6]وَاكْتَرَى الحَسَنُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا، قَالَ(3): بِكَمْ؟ قَالَ بِدَانَقَيْنِ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: الحِمَارَ الحِمَارَ، فَرَكِبَهُ، وَلَمْ يُشَارِطْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ.
          فيهِ أَنَسٌ: (حَجَمَ النَّبيُّ(4) صلعم أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ(5) بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ). [خ¦2210]
          وفيهِ عَائِشَةُ: (قَالَ النَّبيُّ صلعم لهِنْدٍ حِيْنَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ فَقَالَ: خُذِي أَنْتِ وَبَنِيْكِ مَا يَكْفِيكِ بِالمَعْرُوفِ). [خ¦2211]
          وَقَالَتْ عَائِشَةُ: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ}[النِّساء:6]نزلت(6) في وَالِي اليَتِيمِ الَّذِي يُقِيمُ عَلَيْهِ، وَيُصْلِحُ في مَالِهِ، إِنْ كَانَ فَقِيرًا]
(7) / أَكَلَ مِنْهُ بِالمَعْرُوفِ. [خ¦2212]
          العرف عند الفقهاء أمرٌ معمولٌ به، وهو كالشَّرط اللَّازم في البيوع وغيرها، ولو أنَّ رجلًا وكَّل رجلًا على بيع سلعةٍ، فباعها بغير النَّقد الَّذي هو عُرف النَّاس لم يجز ذلك، ولزمه النَّقد الجاري، فكذلك(8) لو باع طعامًا موزونًا أو مكيلًا بغير الوزن أو الكيل المعهود لم يجز، ولزمه الكيل المعهود المتعارف مِنْ ذلك.
          وقوله: يأخذ للعشرةِ أحدَ عشرَ يعني لكلِّ عشرةٍ دينارٌ مِنْ رأس المال ربح دينارٍ(9).
          واختلف العلماء في ذلك، فأجازه قومٌ وكرهه آخرون، وممَّنْ كرهه ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ عُمَرَ ومَسْرُوْقٌ والحَسَنُ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ، وقال أحمدُ: البيع مردودٌ، وأجازه سَعِيْدُ بنُ المُسَيَّبِ والنَّخَعِيُّ، وهو قول مالكٍ والثَّوْرِيِّ والكوفيِّين والأوزاعيِّ.
          وحجَّة مَنْ كرهه: [لأنَّه عنده بيعٌ مجهولٌ إلَّا أن يُعلم عدد العشرات، فيعلم عدد ربحها، ويكون الثَّمن كلُّه معلومًا. وحجَّة مَنْ أجازه: بأنَّ الثَّمن معلومٌ، فالرِّبح معلومٌ.
          وأصل هذا الباب بأنَّ(10) بيع الصَّبرة كلُّ قفيزٍ بدرهمٍ، ولا يعلم مقدار ما في الصَّبرة مِنَ الطَّعام، أجازه(11) قومٌ وأباه آخرون، ومنهم مَنْ قال: لا يلزم(12) منه إلَّا القفيز الواحد، مِنَ(13) البيع العشرة الواحدة.
          واختلفوا في النَّفقة هل يأخذ لها ربحًا في بيع المرابحة؟ فقال مالكٌ: لا يحسب للنَّفقة(14) ربحٌ إلَّا فيما له تأثيرٌ في السِّلعة وعينٌ قائمةٌ كالصَّبغ والخياطة والكمد فهذا كلُّه يحسب في أصل المال ويحسب له ربحٌ، لأنَّ تلك المنافع كأنَّها سلعةٌ ضُمَّت إلى سلعةٍ، قال مالكٌ: ولا يحسب في المرابحة أجر السَّماسرة، ولا أجر الشَّدِّ والطَّيِّ ولا النَّفقة على الرَّقيق، ولا كراء بيتٍ(15)، وإنَّما يحسب هذا في أصل المال، ولا يحسب له ربحٌ، وأمَّا كراء البزِّ فإنَّه يحسب(16) له الرِّبح، لأنَّه لابدَّ منه، ولا يمكنه حمله ببدنه مِنْ بلدٍ إلى بلدٍ، فإن أربحه المشتري على ما لا تأثير له جاز إذا رضي بذلك، فإن لم يبيِّن البائع للمشتري ذلك، وأجمل البيع، كان للمشتري ردُّ ذلك كلِّه إن شاء، لأنَّ البائع قد غرَّه.
          وقال أبو حنيفةَ: يحسب في المرابحة أجر القصارة، وكراء البيت، وأجر السَّمسرة، ونفقة الرَّقيق وكسوتهم، ويقول: قام عليَّ بكذا وكذا.
          وأمَّا أجرة الحجَّام فأكثر العلماء يجيزونها، هذا إذا كان الَّذي يعطاه ممَّا يرضى به، فإن أعطي ما لا يرضى به فلا يلزم، ورُدَّ إلى عُرف النَّاس، وممَّا يدلُّ على أنَّ العُرف سنَّةٌ جاريةٌ، قوله ◙ _ لهندٍ_: ((خُذِي مَا يَكْفِيْكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوْفِ))، فأطلقها(17) ◙ أن تأخذ مِنْ متاع زوجها ما تعلم أنَّ نفسه تطيب لها بمثله، وكذلك أطلق الله ╡ لوالي(18) اليتيم أن يأكل مِنْ ماله بالمعروف.]
(19)


[1] في المطبوع: ((وقال عبد الوهَّاب عن أيُّوب عن محمَّدٍ)).
[2] في (ز): ((من)).
[3] في المطبوع: ((فقال)).
[4] في المطبوع: ((رسول الله)).
[5] زاد في المطبوع: ((رسول الله)).
[6] في المطبوع: ((أنزلت)).
[7] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطمس.
[8] في المطبوع: ((وكذلك))، وغير واضحة في (ص).
[9] في (ص) صورتها: ((لكلِّ عشر من دينار مال دينار)).
[10] قوله: ((بأنَّ)) ليس في المطبوع.
[11] في المطبوع: ((فأجازه)).
[12] في المطبوع: ((لا يلزمه)).
[13] في المطبوع: ((ومن)).
[14] في المطبوع: ((لا يؤخذ في النَّفقة)).
[15] في المطبوع: ((البيت)).
[16] في المطبوع: ((البزِّ فيحسب)).
[17] في المطبوع: ((فأطلق لها)).
[18] في المطبوع: ((لولي)).
[19] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطمس.