شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بيع الغرر وحبل الحبلة

          ░61▒ بَابُ بَيْعِ الغَرَرِ وَحَبَلِ الحَبَلَةِ
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبيَّ ◙ نَهَى(1) عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، كَانَ الرَّجُلُ يَبِيْعُ الجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا). [خ¦2143]
          اختلف العلماء في معنى نهيه ◙ عن حبل الحبلة(2)، قال مالكٌ: هذا الحديث أصلٌ في النَّهي عن البيوع إلى الآجال المجهولة، لقوله: (إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا).
          واختلف(3) العلماء في معنى نهيه ◙ عن حبل الحبلة، فقال مثل قول مالكٍ الشَّافعيُّ(4)، ولا خلاف بين الأمَّة أنَّ البيع إلى مثل هذا الأجل المجهول غررٌ لا يجوز، وإنَّما يجوز إلى أجل معلومٍ، لأنَّ الله تعالى قد جعل الأهلَّة مواقيتَ للنَّاس والحجِّ، وهي معلومةٌ، فما كان مِنَ الآجال لا يختلف، ولا يجهل وقته فجائزٌ البيع إليه بإجماعٍ.
          وقال آخرون: معنى بيع حبل الحبلة: هو النَّهي عن بيع الجنين في بطن أمِّه، فلا يجوز(5) بيع ما لم يُخلق، ولا بيع ما لا تقع عليه العين، ولا يحيط به العلم، هذا قول أحمدَ وإِسْحَاقَ وأبي عُبَيْدٍ.
          قال ابن المُنْذِرِ: فأيُّ ذلك كان فالبيع فيه باطلٌ مِنْ(6) وجوهٍ، وكذلك يبطل كلُّ ما كان في معناه ممَّا يحتمل أن يكون موجودًا أو غير موجودٍ، وهذا كلُّه مِنْ أكل المال بالباطل، وقد نهى الله تعالى عن ذلك.
          فإن قيل: فقد ذكر الطَّبَرِيُّ عن ابن عَوْنٍ عن ابن سِيرِينَ قال: لا أعلم ببيع الغرر بأسًا، وذكر ابن المُنْذِرِ عن ابن سِيرِينَ قال(7) لا بأس ببيع العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحدٌ، وحُكِيَ مثله عن شُرَيْحٍ، وذُكِرَ عن ابن عُمَرَ أنَّه اشترى مِنْ بعض ولده بعيرًا شاردًا.
          فالجواب: أنَّ الغرر هو ما يجوز أن يوجد وأن لا يوجد، كحبل الحبلة وشبهه، كلُّ(8) شيءٍ لا يعلم المشتري هل يحصل له أم لا؟ فشراؤه غير جائزٍ، لأنَّه غررٌ، وكلُّ شيءٍ حاصلٌ للمشتري أو(9) يعلم في الغالب(10) أنَّه يحصل له فشراؤه جائزٌ، هذا أصل البيوع، إذا كان الغرر فيها الغالب لم يجز، وإذا كان يسيرًا تبعًا جاز، لأنَّها لا تخلو منه، ولو منع البيع حتَّى لا يكون فيه غررٌ، وإن قلَّ لأضرَّ ذلك بالنَّاس، وقد منع رسول الله صلعم بيع الثَّمرة قبل بدوِّ صلاحها على التَّبقية، ولو بدا صلاحها جاز بيعها على التَّبقية لأنَّ(11) الغرر قد قلَّ فيها.
          فإن قيل: يحتمل قول ابن سِيرِينَ: أنَّه لا بأس ببيع الغرر إن سلم، فالجواب أنَّ السَّلامة وإن(12) كانت فإنَّما هي في المال، والمال لا يراعى في البيوع في الأكثر مِنْ مذاهب أهل العلم، وإنَّما تُراعى السَّلامة في حال عقد البيع، وقد ذكرنا أنَّ الغرر هو ما يجوز أن يوجد وألَّا يوجد، وهذا المعنى موجودٌ في عقد الغرر وإن سلم ماله، فلذلك لم يجز، وقد يمكن أن يكون ابن سِيرِينَ ومَنْ أجاز بيع الغرر لم يبلغهم نهي النَّبيِّ صلعم عن ذلك، ولا حجَّة لأحدٍ خالف السُّنَّة.


[1] في (ز): ((فيه ابن عُمَرَ: نهى النَّبيُّ صلعم)).
[2] قوله: ((اختلف العلماء في معنى نهيه ◙ عن حبل الحبلة)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((اختلف)).
[4] العبارة في (ز): ((فقال مالكٌ: هذا الحديث أصل في النَّهي عن البيوع إلى الآجال المجهولة، لقوله: (إلى أن تنتج النَّاقة، ثمَّ تنتج الَّتي في بطنها)، هذا تأويل مالكٍ والشَّافعيِّ)).
[5] زاد في (ز): ((بيع)).
[6] في (ز): ((كان فلا بيع يبطل منه من)).
[7] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[8] في (ز): ((فكلُّ)).
[9] في (ز): ((وإذا)).
[10] في (ز): ((الأغلب)).
[11] في (ص): ((فإنَّ)).
[12] في (ز): ((إن)).