شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب

          [░99▒ بَابُ الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ مَعَ المُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الحَرْبِ
          فيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي بَكْرٍ(1): (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلعم: أبَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً(2) أَمْ هِبَةً فَقَالَ:]
(3) لَا، / بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً). [خ¦2216]
          الشِّراء والبيع(4) مِنَ الكفار كلِّهم جائزٌ، إلَّا أنَّ أهل الحرب لا يُباع منهم ما يستعينون به على إهلاك المسلمين مِنَ العدَّة والسِّلاح، ولا ما(5) يقوون(6) به عليهم.
          قالَ ابنُ المُنْذِرِ: واختلف العلماء في مبايعة مَنِ الغالبُ على ماله الحرام وقبول هداياه وجوائزه، فرخَّصت طائفةٌ في ذلك، كان الحَسَنُ البَصْرِيُّ لا يرى بأسًا أن يأكل الرَّجل مِنْ طعام العشَّار والصرَّاف والعامل، ويقول: قد أحلَّ الله طعام اليهود والنَّصارى، [وأكله أصحاب رَسُولِ اللهِ صلعم، وقال الله تعالى(7) في اليهود: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}[المائدة:42].
          وقالَ مكحولٌ والزُّهْرِيُّ: إذا اختلط المال وكان فيه الحلال والحرام، فلا بأس أن يُؤكل منه، وإنَّما يكره مِنْ ذلك الشَّيء الَّذي يعرفه بعينه، وقالَ الحَسَنُ: لا بأس ما لم يعرفوا شيئًا بعينه.
          وقال الشَّافعيُّ: لا يجب مبايعة مَنْ أكثر ماله ربًا أو كسبه مِنْ حرامٍ، وإن بايعه لم أفسخ البيع لأنَّ هؤلاء قد يملكون حلالًا، ولا يحرم إلَّا حرامًا بيِّنًا، إلَّا أن يشتري الرَّجل حرامًا بيِّنًا يعرفه، والمسلم والذِّمِّيُّ والحربيُّ في هذا سواءٌ.
          وحجُّة مَنْ رخَّص في ذلك قوله ◙ للمشرك المشعان في الغنم: (أَبَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً أَمْ هِبَةً)؟ قال ابنُ المُنْذِرِ: وأيضًا فإنَّ النَّبيَّ صلعم رهن درعه عند يهوديٍّ قال: فكان(8) ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ يأخذان هدايا المجتار، وبعث عُمَرُ بنُ عُبَيْدِ(9) اللهِ بنِ مَعْمَرٍ إلى ابنِ عُمَرَ بألف دينارٍ وإلى القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ بألف دينارٍ، فأخذها ابنُ عُمَرَ وقال: وصلته رحمٍ لقد جاءتنا على حاجةٍ، وأبى أن يقبلها القَاسِمُ فقالت امرأته: إن لم تقبلها فأنا بنت(10) عمَّه كما هو ابن عمه، فأخذتها، وقال عَطَاءٌ: بعث مُعَاوِيَةُ إلى عائشةَ بطوقٍ مِنْ ذهبٍ فيه جوهرٌ، فقوِّم بمائة(11) ألفٍ فقسمته بين أزواج النَّبيِّ صلعم.
          وكرهت طائفةٌ الأخذ منهم، رُوِيَ ذلك عن مَسْرُوْقٍ وسَعِيْدِ بنِ المُسَيَّبِ والقَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ وبشرِ(12) بنِ سَعِيْدٍ وطَاوُسَ وابنِ سِيرِينَ وسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وابنِ المباركِ ومُحَمَّدِ بنِ واسعٍ وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ، وأخذ ابنُ المباركِ قذاةً مِنَ الأرض فقال: مَنْ أخذ منهم مثل هذه فهو منهم. وقد تقدَّم هذا المعنى في كتاب الزَّكاة في باب مَنْ أعطاه الله شيئًا مِنْ غير مسألةٍ ولا إشراف نفسٍ [خ¦1473].
          قالَ المُهَلَّبُ: وقوله ◙ للمشرك: (أَبِيْعًا أَمْ عَطِيَّةً أَمْ هِبَةً؟) وإنَّما(13) قال ذلك على معنى أن يثيبه لو كانت هديةً، لا أنَّه كان يقبلها منه دون إثابةٍ عليها، كما فعل ◙ بكلِّ مَنْ هاداه مِنَ المشركين، وسيأتي حكم هدية المشركين في كتاب الهبة في باب قبول الهدية مِنَ المشركين إن شاء الله تعالى [خ¦2618].
          وفيه: قصد الرُّؤساء وكبار(14) النَّاس بالسِّلع لاستجزال الثَّمن.
          وفيه: أنَّ ابتياع الأشياء مِنْ مجهول النَّاس ومَنْ لا يعلم حاله بعفافٍ أو غيره جائزٌ حتَّى يطَّلع على ما يلزم الورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصبٍ أو سرقةٍ أو غير ذلك، قالَ ابنُ المُنْذِرِ: لأنَّ مَنْ بيده الشَّيء فهو مالكه على الظَّاهر، ولا يلزم المشتري أن يعلم حقيقة ملكه له بحكم اليد، وقالَ صاحبُ «العين» يُقَالُ: شعرٌ مُشْعَانٌّ، إذا كان منتفشًا، ورجلٌ مُشْعَانُّ الرَّأس.]
(15)


[1] زاد في المطبوع: ((قال)).
[2] زاد في المطبوع: ((أو قال)).
[3] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطمس.
[4] في (ز): ((الشِّراء والبيع)).
[5] في (ص): ((السِّلاح وممَّا)).
[6] غير واضحة في (ص).
[7] في المطبوع: ((وقد قال تعالى)).
[8] في المطبوع: ((وكان)).
[9] في المطبوع: ((عبد)).
[10] في المطبوع: ((ابنة)).
[11] في (ز): ((قوم مائة)).
[12] في المطبوع: ((وبشير)).
[13] في المطبوع: ((فإنَّما)).
[14] في المطبوع: ((وكبراء)).
[15] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.