شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان نسيئةً

          [░107▒ بَابُ أَمْرِ النَّبيِّ صلعم اليَهُودَ بِبَيْعِ أَرْضِهِمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ
          فيهِ المَقْبُريُّ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ.
          وبَيْعِ العَبِيْدِ(1) وَالحَيَوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيئَةً
          وَاشْتَرَى ابنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، يُوَفِّيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ.
          وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ البَعِيرُ خَيْرًا مِنَ البَعِيرَيْنِ.
          وَاشْتَرَى رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: آتِيكَ بِالآخَرِ غَدًا رَهْوًا، إِنْ شَاءَ اللهُ.
          وَقَالَ ابنُ المُسَيَّبِ: لَا رِبَا في الحَيَوَانِ البَعِيرُ بِالبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ(2) إِلَى أَجَلٍ. وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بِبَعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً(3)، وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ نَسِيئَةً.
          فيهِ أَنَسٌ قَالَ: كَانَ في السَّبْيِ صَفِيَّةُ، فَصَارَتْ إِلَى دَحْيَةَ الكَلْبِيِّ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى النَّبيِّ صلعم. [خ¦2228]
          قال المؤلِّف: حديث المَقْبُرِيِّ عن أبي هريرةَ الَّذي أشار إليه البخاريِّ في هذا الباب، قد ذكره في آخر كتاب الجهاد، في باب إخراج اليهود مِنْ جزيرة العرب [خ¦3167]، قالَ أبو هريرةَ: ((بَيْنَمَا(4) نَحْنُ في المَسْجِدِ خَرَجَ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: انطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ المِدْرَاسِ، فَقَالَ: أَسْلِمُوا، تَسْلَمُوا واعلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَإِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أُجْلِيْكُمْ مِنْ هذِهِ الأَرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا(5) فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعلَمُوا أَنَّ الأَرْضَ للهِ وَلِرَسُولِهِ)).
          قال المؤلِّفُ: وهؤلاء اليهود الَّذين أجلاهم النَّبيُّ صلعم هم بنو النَّضير، وذلك أنَّهم أرادوا الغدر برسول الله صلعم، وأن يلقوا عليه حجرًا، فأوحى الله إليه بذلك، فأمر بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاؤوا، فلما سمع المنافقون بذلك بعثوا إلى بني النَّضير: اثبتوا وتمنَّعوا فإنَّا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فتربَّصوا لذلك مِنْ نصرهم(6) فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، فسألوا رسول الله صلعم أن يجليهم، ويكفَّ عن دمائهم على أنَّ لهم ما حملت الإبل مِنْ أموالهم إلَّا الحلفة، ففعل، فاحتملوا ذلك فخرجوا(7) إلى خَيْبَرَ، وخرج أكثرهم إلى الشَّام، وخلَّوا الأموال لرسول الله صلعم، فكانت له(8) خاصَّةً يضعها حيث يشاء(9)، فقسمها رسول الله صلعم على المهاجرين دون الأنصار في حديثٍ طويلٍ ذكره ابنُ إِسْحَاقَ.
          قال المؤلِّفُ: فإن قال قائلٌ: هذا معارضٌ بحديث(10) المَقْبُرِيِّ عن أبي هريرةَ لأنَّ فيه أنَّ النَّبيَّ صلعم أمرهم ببيع أرضهم، وفي حديث ابنِ إِسْحَاقَ أنَّهم تركوا أرضهم دون عوضٍ، وحلَّت لرسول الله صلعم فما وجه ذلك؟
          فالجواب: أنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما أمرهم ببيع أرضهم، والله أعلم، قبل أن يكونوا له حربًا، فكانوا مالكين لأرضهم، وكانت بينهم وبين النَّبيِّ صلعم مسالمةٌ وموافقةٌ للجيرة، فكان(11) ◙ يُمسك عنهم لإمساكهم عنه، ولم يكن بينهم عهدٌ، ثمَّ أطلعه الله تعالى على ما يؤمَّلون مِنَ الغدر به، وقد كان أمرهم(12) ببيع أرضهم وإجلائهم قبل ذلك فلم يفعلوا لأجل قول المنافقين لهم: اثبتوا فإنَّا لن نسلمكم إن قوتلتم فوثقوا بقولهم وثبتوا ولم يخرجوا، وعزموا على مقاتلة النَّبيِّ صلعم فصاروا له حربًا وحلَّت(13) بذلك دماؤهم وأموالهم، فخرج إليهم رسول الله صلعم وأصحابه بالسِّلاح(14) وحاصرهم، فلمَّا يئسوا مِنْ عون المنافقين ألقى الله في قلوبهم الرُّعب، وسألوا رَسُولَ اللهِ صلعم الَّذي كان عرضه عليهم قبل ذلك، فلم يُبح لهم بيع الأرض، وقاضاهم على أن يجليهم ويتحمَّلوا بما استقلَّت به الإبل على أن يكفَّ عن دمائهم وأموالهم، فحلُّوا عن ديارهم، وكفى الله المؤمنين القتال، فكانت(15) أرضهم(16) ممَّا لم يوجف عليه(17) بقتالٍ ممَّا انجلى عنها أهلها بالرُّعب، فصارت(18) خالصةً لرَسُولِ اللهِ صلعم يضعها حيث شاء، قال ابنُ إِسْحَاقَ: ولم يُسلم مِنْ بني النَّضير إلَّا رجلان أسلما على أموالهما فأحرزاها، قال: ونزلت في بني النَّضير سورة الحشر إلى قوله: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا}[الحشر:3]أي بالقتل والسَّبي، ولهم في الآخرة مع ذلك عذاب النَّار.
          وقوله: {لِأَوَّلِ الحَشْرِ}[الحشر:2]، يعني الشَّام الَّذي جلا أكثرهم إليها(19) لأنَّه رُوِيَ في الحديث أنَّه تجيء نارٌ تحشر النَّاس إلى الشَّام، ولذلك قيل في الشَّام أنَّها أرض المحشر. /
          وأمَّا بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً فإنَّ العلماء اختلفوا في ذلك، فقالت طائفةٌ: لا ربا في الحيوان، وجائزٌ بيع بعضه ببعض نقدًا ونسيئةً اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب عليِّ بنِ أبي طالبٍ وابنِ عُمَرَ وابنِ المُسَيَّبِ ♥، وهو قول الشَّافعيِّ وأبي ثَوْرٍ، وقال مالكٌ: لا بأس بالبعير النَّجيب بالبعيرين مِنْ حاشية الإبل نسيئةً، وإن كانت مِنْ نعمٍ واحدةٍ إذا اختلفت فبان اختلافها، وإن أشبه بعضها بعضًا واختلفت(20) أجناسها، فلا يُؤخذ منها اثنان بواحدٍ إلى أجلٍ، ويُؤخذ يدًا(21) بيدٍ، وهو قول سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ ورَبِيْعَةَ ويحيى بنِ سَعِيْدٍ، وقال الثَّوْرِيُّ والكوفيُّون وأحمدُ: لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئةً، اختلف(22) أو لم تختلف، واحتجُّوا بحديث الحَسَنِ عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم نَهَى عَنْ بَيْعِ الحَيَوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيْئَةً)). وبحديث يحيى بنِ أبي كَثِيْرٍ عن عِكْرِمَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ بَيْعِ الحَيْوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيْئَةً)) ومعنى النَّهي عن ذلك عندهم لعدم وجود مثله ولأنَّه غير موقوفٍ عليه، قالوا: وهو(23) مذهب ابنِ عَبَّاسٍ وعَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ، وأجازوا التَّفاضل فيه يدًا بيدٍ، وحجَّة القول الأوَّل: ما رواه ابنُ إِسْحَاقَ عن أبي سُفْيَانَ عن مسلمِ بنِ كَثِيْرٍ عن عَمْرِو بنِ حَرِيْشٍ قالَ: قلت لعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: ((إنَّهُ لَيْسَ بِأَرْضِنَا ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ، إِنَّا(24) نَبِيْعُ العَبْدَ بَالعَبْدَيْنِ(25)، وَالبَقَرَةُ بِالبَقَرَتَيْنِ، والشَّاةُ بالشَّاتَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلعم أَمَرَهُ(26) أَنْ يُجَهِزَ جَيْشًا(27)، فَنَفِدَتِ الإِبِلُ، فَأَمَرَهُ(28) أَنْ يَأْخُذَ(29) عَلَى قَلَائِصَ الصَّدَقَةِ فَكَانَ يَأْخُذُ كَذَا(30) البَعِيْرَ بِالبَعِيْرَيْنِ إِلِى إِبِلِ الصَّدَقَةِ)).
          وقد سأل عُثْمَانُ السِّجِسْتَانيُّ(31) يحيى بنَ مَعِيْنٍ عن سند هذا الحديث، فقال: إسناده(32) صحيحٌ مشهورٌ، وهذا المذهب أراد البخاريُّ، ووجه إدخاله لحديث(33) صفيَّة في هذا الباب، أنَّ صفيَّةَ صارت إلى دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ بأمر النَّبيِّ صلعم فأُخبر النَّبيُّ صلعم أنَّها سيِّدة قُرَيْظَةَ ولا تصلح إلَّا له، وذكر مِنْ جمالها، فأمر النَّبيُّ صلعم فأُتي بها، فلمَّا رآها النَّبيُّ صلعم قال لدِحْيَةَ: دعها وخُذ غيرها، فكان تركه لها عند النَّبيِّ صلعم وأخذه جاريةً مِنَ السَّبيِ غير معيَّنةٍ بيعًا لها بجاريةٍ نسيئةً حتَّى يأخذها ويستحسنها، فحينئذٍ تتعيَّن له، وليس ذلك يدًا بيدٍ، وحجَّة مالكٍ أنَّ الحيوان إذا اختلفت منافعه صارت(34) كجنسين مِنْ سائر الأشياء، يجوز(35) فيه التَّفاضل والأجل لاختلاف أغراض النَّاس فيه لأنَّ غرض النَّاس مِنَ العبيد والحيوان والمنافع، / ولا ربًا عنده(36) في الحيوان والعروض إذا جرت(37) فيها النَّسيئة إلَّا مِنْ باب الزِّيادة في السَّلف، وإذا كان التَّفاضل في الجهة الواحدة خرج مِنْ أن تتوهَّم فيه الزِّيادة في السَّلف، وليس العبد الكاتب والصَّائغ عندهم مثل العبد الَّذي هو مثله في الصُّورة، إذا لم يكن كاتبًا ولا صائغًا، وأمَّا إذا اتَّفقت منافعها فلا يجوز عندهم صنفٌ منه بصنفٍ مثله أكثر منه إلى أجلٍ لأنَّ ذلك يدخل في معنى قرضٍ جرَّ منفعةً لأنَّه أعطى شيئًا له منفعةٌ بشيءٍ أكثر منه له مثل تلك المنفعة لأنَّه إنَّما طلب زيادة الشَّيء(38) لاختلاف منافعه، فلم يجز ذلك، وتأوَّل مالكٌ فيما رُوِيَ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ ☺ أنَّه باع جملًا له يُدعى عصيفيرًا(39) بعشرين بعيرًا إلى أجلٍ، وما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ أنَّه اشترى راحلةً بأربعة أبعرةٍ أنَّ منافعها كانت مختلفةً، وليس في الحديث عنهم أنَّ منافعها كانت متَّفقةً، فلا حجَّة للمخالف في ذلك.
          وأمَّا قول ابنِ سِيرِينَ: لا بأس ببعيرٍ ببعيرين، ودرهمٍ بدرهمٍ نسيئةً، وفي بعض النُّسخ <بِدِرْهَمَيْنِ> نسيئةً، فإنَّ ذلك خطأٌ في النَّقل عن البخاريِّ، والصَّحيح عن ابنِ سِيرِينَ ما رواه عبدُ الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ عن أَيُّوْبَ عن ابنِ سِيرِينَ قال: لا بأس ببعيرٍ ببعيرين ودرهمٍ، الدِّرهم نسيئةٌ فإن كان أحد البعيرين نسيئةً فهو مكروهٌ، وهذا مذهب مالكٍ، وقد ذكره في «المُوَطَأِ» في مسألة الجمل بالجمل وزيادة دراهمٍ، قال: والَّذي يجوز مِنْ ذلك أن يكون الجملان نقدًا، ولا يبالي تأخَّرت الدَّراهم أو(40) تعجَّلت لأنَّ الجمل بالجمل قد حصل يدًا بيدٍ، فبطل أن يتوهَّم فيه السَّلف، وعُلم أنَّه بيعٌ لأنَّ الدَّراهم هاهنا تبعٌ للجمل، وليس هي المقصد، وأمَّا إذا كان أحد الجملين نسيئة فلا يجوز لأنَّه عنده مِنْ باب الزِّيادة في السَّلف، كأنَّه أسلفه جملًا في مثله واستزاد عليه الدَّراهم، ولو كانت الدَّراهم والجمل جميعًا إلى أجلٍ لم يجز لأنَّه أقرضه الجمل على أن يردَّ(41) إليه بصفته ويردَّ معه دراهمٌ، فهذا(42) سلفٌ جرَّ منفعةً، وزيادةٌ على ما أخذ المستسلف فلم يجز(43).
          وقول رافعِ بنِ خُدَيْجٍ: (آتيك غَدًا رَهْوًا) قال صاحبُ «العين»: الرَّهو: مشيٌ في سكونٍ، قال(44) أبو عُبَيْدٍ: يقول: آتيك عفوًا لا احتباس فيه.]
(45)


[1] في المطبوع: ((بَاب بَيْعِ العَبدِ)).
[2] في (ز): ((لا ربا في الحيوان البعير بالشَّاة والشَّاتين)).
[3] قوله: ((نسيئة)) ليس في (ز).
[4] في المطبوع: ((بينا)).
[5] في المطبوع: ((ثمنًا)).
[6] في المطبوع: ((بذلك لنصرهم)).
[7] في المطبوع: ((وخرجوا)).
[8] في (ز): ((لهم)).
[9] في (ز) تحتمل: ((شاء)).
[10] في المطبوع: ((لحديث)).
[11] زاد في المطبوع: ((النَّبيُّ)).
[12] في المطبوع: ((أمره لهم)).
[13] في المطبوع: ((فحلَّت)).
[14] في المطبوع: ((في السِّلاح)).
[15] في المطبوع: ((وكانت)).
[16] في المطبوع: ((أراضيهم وأموالهم)).
[17] في المطبوع: ((عليه)).
[18] في المطبوع: ((وصارت)).
[19] في المطبوع: ((إليه)).
[20] في المطبوع: ((واتَّفقت)).
[21] في المطبوع: ((يدٌ)).
[22] في المطبوع: ((اختلفت أجناسه)).
[23] في المطبوع: ((وهذا)).
[24] في المطبوع: ((وإنَّما)).
[25] في المطبوع: ((البعير بالبعيرين)).
[26] في المطبوع: ((أمر)).
[27] في المطبوع: ((جيش)).
[28] في المطبوع: ((فأمر)).
[29] في المطبوع: ((نأخذ)).
[30] قوله: ((فكان يأخذ كذا)) ليس في المطبوع.
[31] زاد في (ز): ((عن)).
[32] في المطبوع: ((سند)).
[33] في المطبوع: ((حديث)).
[34] في المطبوع: ((صار)).
[35] في المطبوع: ((ويجوز)).
[36] في المطبوع: ((عندهم)).
[37] في المطبوع: ((حدث)).
[38] في (ز) صورتها: ((النَّصارى)).
[39] في المطبوع: ((عصيفير)).
[40] في المطبوع: ((أم)).
[41] في المطبوع: ((على أنَّه يردُّه)).
[42] في المطبوع: ((فهو)).
[43] في المطبوع: ((فلا يجوز)).
[44] في المطبوع: ((وقال)).
[45] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.