شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب تفسير المشبهات

          ░3▒ بَابُ تَفْسِيرِ المُشَبَّهَاتِ
          وَقَالَ حَسَّانُ بنُ أبي سِنَانٍ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى مَا لا يَرِيبُكَ.
          فيهِ عُقْبَةُ بنُ الحَارِثِ: (أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ(1) لِلنَّبِيِّ صلعم فَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَتَبَسَّمَ(2) النَّبيُّ صلعم قَالَ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ وكَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ(3) أبي إِهَابٍ(4)). [خ¦2052]
          وفيهِ عَائِشَةُ: (كَانَ عُتْبَةُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أَخِيهِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ ابنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ(5)، فَلَمَّا كَانَ عَامَ الفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ(6)، وَقَالَ: ابنُ أَخِي، قَدْ(7) عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ(8) عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبيِّ صلعم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلعم: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، واحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَة، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ ابنِ أَبِي وَقَّاصٍ(9)، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ). [خ¦2053]
          وفيهِ عَدِيُّ بنُ حَاتِمٍ: (سَأَلْتُ النَّبيَّ صلعم عَنِ المِعْرَاضِ، فَقَالَ: إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُرْسِلُ كَلْبِي، وَأُسَمِّي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ على الصَّيْدِ(10) ولَمْ(11) أُسَمِّ عَلَيْهِ، وَلا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ(12)، قَالَ: لا تَأْكُلْ، إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ولَمْ(13) تُسَمِّ عَلَى الآخَرِ(14)). [خ¦2054]
          قد(15) تقدَّم في الباب قبل هذا أنَّ الشُّبهات ما تنازعته الأدلَّة، وتجاذبته المعاني، وتساوت فيه الأدلَّة، ولم يغلب أحد الطَّرفين صاحبه، وبيان ذلك في حديث عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ، وذلك أنَّ جمهور العلماء ذهبوا إلى أنَّ النَّبيَّ صلعم أفتاه بالتَّحَرُّزِ(16) مِنَ الشُّبهة، وأمره بمجانبة الرِّيبة، خوفًا مِنَ الإقدام على فرجٍ يُخَافُ أن يكون الإقدام عليه ذريعةً إلى الحرام، لأنَّه قد قام دليل التَّحريم بقول المرأة: (أَنَّهَا(17) أَرْضَعَتْهُمَا)، لكنَّه لم يكن قاطعًا ولا قويًّا، لإجماع العلماء أنَّ شهادة امرأةٍ واحدةٍ لا تجوز في مثل ذلك، لكن أشار عليه رسول الله صلعم بالأحوط.
          وأمَّا حديثُ ابنِ وَلِيْدَةِ زَمْعَةَ فإنَّه ◙ حكم فيه(18) بالولد للفراش لزَمْعَةَ على الظَّاهر، وأنَّه أخو سَوْدَةَ على سبيل التَّغليب لا على سبيل القطع أنَّه لزَمْعَةَ عند الله ╡، ثمَّ أمر سَوْدَةَ بالاحتجاب منه للشُّبهة الدَّاخلة عليه، وهي ما رأى مِنْ شبهه بعُتْبَةَ(19)، فاحتاط لنفسه، وذلك(20) فعلُ الخائفين لله ╡ إذ لو كان ابنُ زَمْعَةَ في علم الله في حكمه هذا لما أمر سَوْدَةَ بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب مِنْ سائر إخوتها.
          وأمَّا حديثُ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ فإنَّ النَّبيَّ صلعم أفتاه بالتَّنَزُّهِ عن الشُّبهة أيضًا، خشية أن يكون الكلب الَّذي قتله غير مُسَمًّى عليه، فكأنَّه أُهِلَّ به لغير الله(21)، وقد قال الله تعالى في ذلك: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}[الأنعام:121]فكأنَّ في فتياه ◙ باجتناب الشُّبهات دلالةٌ على اجتناب(22) القول في الفتوى، / والاحتياط في النَّوازل والحوادث المحتملات للتَّحليل والتَّحريم الَّتي لا يقف العالم على حلالها وحرامها لاشتباه أسبابها، وهذا معنى قوله ◙: ((دَعْ مَا يُرِيْبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيْبُكَ(23))) يقول: دع ما تشكُّ فيه ولا تتيقَّن إباحته، وخُذْ ما لا شكَّ فيه ولا التباس(24).
          وقال ابنُ المُنْذِرِ: قال بعضهم: الشُّبهات تنصرف على وجوهٍ: فمنها شيءٌ يعلمه المرء محرَّمًا(25) ثمَّ يشكُّ فيه هل حلَّ ذلك أم لا؟ فما كان مِنَ هذا النَّوع فهو على أصل تحريمه، لا يحلُّ التَّقدُّم(26) عليه إلَّا بيقينٍ، مثل الصَّيد حرامٌ على المرء أكله قبل ذكاته، وإذا(27) شكَّ في ذكاته لم يزل عن التَّحريم إلَّا بيقين الذَّكاة، والأصل فيه حديث عَدِيِّ بنِ حاتمٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال له: ((إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَخَالَطَهُ كَلْبٌ لَمْ تُسَمِّ عَلَيْهِ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ))، وهذا أصلٌ لكلِّ محرَّمٍ أنَّه على تحريمه حتَّى يُعلم أنَّه قد صار حلالًا بيقينٍ، ومِنْ ذلك أن يكون للرَّجل أخٌ له ولا وارث(28) له غيره، فتبلغه وفاته ولأخيه جاريةٌ، فهي محرَّمةٌ عليه حتَّى يوقِن بوفاته، ويعلم أنَّها قد حلَّت له. وكذلك لو أنَّ شاتين ذكيَّةً وميتةً سُلختا فلم يدرِ أيُّهما(29) الذَّكيَّة كانتا محرَّمتين يبقين(30) على أصل التَّحريم حتَّى يعلم الذَّكيَّة مِنَ الميتة، ولا يحلُّ أن يأكل منهما واحدةً بالتَّحرِّي لأنَّهما كانتا محرَّمتين بيقينٍ، فلا(31) يجوز الانتقال مِنْ يقين التَّحريم إلى شكِّ الإباحة.
          والوجه الثَّاني: أن يكون الشَّيء حلالًا فيُشَكُّ في تحريمه، فما كان مِنْ هذا الوجه فهو(32) على وجه(33) الإباحة حتى نعلم تحريمه بيقينٍ، كالرَّجل تكون له الزَّوجة فيشكَّ في طلاقها، أو يكون له جاريةٌ فيشكَّ في وقوع العتق عليها، فالأصل(34) في هذا حديث عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ أنَّ مَنْ شكَّ بالحدث(35) بعد أن أيقن بالطَّهارة فهو على يقين طهارته لقوله ◙: ((فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدْ رِيْحًا)).
          والوجه الثَّالث: أن يُشكل الشَّيء فلا يُدرى أحرامٌ هو أو حلالٌ(36)، ويحتمل الأمرين جميعًا ولا دلالة تدلُّ(37) على أحد المعنيين، فالأحسن التَّنزُّه عنه(38) كما فعل النَّبيُّ صلعم(39) في التَّمرة السَّاقطة(40).


[1] في المطبوع و(ز): ((فذكره))، وقوله: ((ذلك)) ليس في المطبوع.
[2] في (ص): ((فتبسَّم)).
[3] في (ص): ((بنت)).
[4] زاد في (ص): ((التَّميميِّ)).
[5] زاد في (ص): ((قالت)).
[6] قوله: ((ابن أبي وقَّاصٍ)) ليس في (ز).
[7] زاد في (ص): ((كان)).
[8] في (ص): ((فقال)).
[9] قوله: ((ابن أبي وقَّاصٍ)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((فأجد معه على الصَّيد كلبًا آخر)).
[11] في (ز): ((فلم)).
[12] في (ص): ((أخذه)).
[13] في (ز): ((فلم)).
[14] في (ص): ((غيره)).
[15] في (ص): ((وقد)).
[16] في (ز): ((التَّحَرُّرِ)).
[17] في (ص): ((أنا)).
[18] قوله: ((فيه)) ليس في (ف).
[19] قوله: ((وهي ما رأى من شبهه بعتبة)) ليس في (ص).
[20] في (ز): ((لنفسه في ذلك)).
[21] قوله: ((بغير الله)) ليس في (ز).
[22] في (ز): ((اختيار)).
[23] العبارة في (ص): ((القول في الفتوى، فيشتبه عليه الحال، وذلك أنَّ جمهور العلماء ذهبوا)) إلى قوله: ((إِلَى مَا لَا يُرِيْبُكَ)).
[24] العبارة في (ص): ((يقول: دع ما تشكُّ فيه، ومن ذلك أن يكون للرَّجل أخٌ لا لالتباس)).
[25] في (ص): ((حرامًا)).
[26] في (ص): ((القدوم)).
[27] في (ص): ((فإذا)).
[28] في (ص): ((أخٌ لا وراث)).
[29] في (ص): ((أيَّتهما)).
[30] في المطبوع: ((بيقين))، وقوله: ((يبقين)) ليس في (ص).
[31] في (ص): ((ولا)).
[32] في (ص): ((هو)).
[33] قوله: ((وجه)) ليس في المطبوع و(ز).
[34] في (ص): ((والأصل)).
[35] في (ص): ((في الحدث)).
[36] في (ص): ((فلا يدري أحلالٌ هو أم حرامٌ)).
[37] قوله: ((تدلُّ)) ليس في (ز).
[38] قوله: ((عنه)) ليس في (ص).
[39] في (ص): ((فعل ◙)).
[40] في (ز): ((في التَّمر والسَّاقطة)).