شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها؟

          [░111▒ بَابٌ هَلْ يُسَافِرُ بِالجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؟
          وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَت الْوَلِيدَةُ التي تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ، فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلاَ تُسْتَبْرَأُ العَذْرَاءُ.
          وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الحَامِلِ مَا دُونَ الفَرْجِ، وقَالَ(1) اللهُ تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}[المؤمنون:6].
          فيهِ أَنَسٌ: (قَدِمَ النَّبيُّ صلعم خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ عَرُوْسًا، فَاصْطَفَاهَا النَّبيُّ صلعم لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى بَلَغَ سَدَّ الرَّوْحَاءِ فحَلَّتْ(2) فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا في نِطَعٍ صَغِيْرٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ(3) صلعم: آذِنْ مَنْ حَوْلَكَ، فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى المَدِينَةِ،: فَرَأَيْتُ النَّبيَّ(4) صلعم يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ، ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ، فَتَضَعُ صَفِيَّةُ رِجْلَهَا على رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ). [خ¦2235]
          في حديث صَفِيَّةَ دليلٌ على أنَّ الاستبراء أمانةٌ، يؤتمن المبتاع عليها بألَّا يطأها حتَّى تحيض حيضةً إن لم تكن حاملًا، لأنَّ النَّبيَّ صلعم ألقى رداءه على صَفِيَّةَ، وأمرها أن تحتجب بالجعرانة حين صارت في سهمه، ومعلومٌ أنَّ مِنْ سنَّته أنَّ الحائل لا تُوطأ حتَّى تحيض حيضةً خشية أن تكون حاملًا، وأنَّ الحامل لا توطأ حتَّى تضع ولا(5) يسقي ماءه زرع غيره، فلمَّا كان الاستبراء أمانةً ارتفعت فيه الحكومة، وفي هذا حُجَّةٌ لمِنْ لم يوجب المواضعة على البائع، وهو قول جميع(6) فقهاء الأمصار غير رَبِيْعَةَ ومالكِ بنِ أَنَسٍ، فإنَّهما أوجبا المواضعة في الجواري المرتفعات المتَّخَذات للوطء خاصَّةً، قال مالكٌ في «المدوَّنة»: أكره ترك المواضعة]
(7) / وائتمان المبتاع على الاستبراء، فإن فعلا أجزأهما، وهي مِنَ البائع حتَّى تدخل في أوَّل دمها.
          قال المُهَلَّبُ: وإنَّما قال مالكٌ بالمواضعة خشية أن يتذرَّع المشتري إلى الوطء، فجعل(8) الاستبراء حياطةً على الفروج وحفظًا للأنساب، ولقوله ◙: ((لَا تُوْطَأُ حَائِلٌ حَتَّى تَحِيْضَ)).
          واحتجَّ مَنْ لم يرَ المواضعة بأنَّ عَطَاءَ بنَ أبي رَبَاحٍ قال: ما سمعنا بالمواضعة قطُّ، وقال مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الحَكَمِ: أوَّل مَنْ قال بالمواضعة رَبِيْعَةُ.
          قال الطَّحَاوِيِّ: والدَّليل(9) على أنَّ المواضعة غير واجبةٍ أنَّ العقد إنَّما يوجب تسليم البدلين، وقد وافقنا مالكٌ على أنَّ غير المرتفعات مِنَ الجواري لا يجب فيهنَّ استبراءٌ، فوجب أن يكون كذلك حكم المرتفعات، وأجمع الفقهاء على(10) أنَّ حيضةً واحدةً(11) براءةٌ في الرَّحم، إلَّا أنَّ مالكًا واللَّيْثَ قالا: إن اشتراها في أوَّل حيضتها(12) اعتدَّ بها، وإن كان في آخرها(13) لم يعتدَّ بها.
          واختلفوا في تقبيل الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء، فأجاز ذلك الحَسَنُ البصريُّ وعِكْرِمَةُ، وبه قال أبو ثَوْرٍ، وثبت عن ابن عُمَرَ أنَّه قبَّل جاريةً [وقعت في سهمه يوم جلولاء ساعة قبضها، وكره ذلك ابن سِيرِينَ، وهو قول مالكٍ واللَّيثِ(14) وأبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، ووجه كراهيتهم(15) لذلك قطعًا للذَّريعة، وحفظًا للأنساب.
          وحجَّة الَّذين أجازوا ذلك قوله ╡: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}[المعارج:30]وقوله ◙: ((لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيْضَ))، فدلَّ هذا أنَّ ما دون الوطء مِنَ المباشرة والقبلة في حيِّز المباح، وسفر النَّبيِّ صلعم بصَفِيَّةَ قبل أن يستبرئها حُجَةٌ في ذلك لأنَّه لو لم يحلَّ له مِنْ مباشرتها ما دون الجماع لم يُسافر بها معه، لأنَّه لا بدَّ أن يرفعها وينزلها(16)، وكان ◙ لا يمسُّ بيده امرأةً لا تحلُّ له، ومِنْ هذا الباب اختلافهم في مباشرة المظاهر وقبلته لامرأته الَّتي ظاهر منها، فذهب الزُّهْرِيُّ والنَّخَعِيُّ ومالكٌ وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ إلى أنَّه لا يُقبِّل امرأته ولا يتلذَّذ منها بشيءٍ.
          وقال الحَسَنُ البصريُّ: لا بأس أن ينال منها ما دون الجماع، وهو قول الثَّوْرِيِّ والأوزاعيِّ وأحمدَ وإِسْحَاقَ وأبي ثَوْرٍ، ولذلك(17) فسَّر عَطَاءٌ وقَتَادَةُ والزُّهْرِيُّ قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}[المجادلة:3]أنَّه عُني بالمسيس الجماع في هذه الآية، واختلفوا في استبراء العذراء فقال ابن عُمَرَ: لا تُستَبرأ، وبه قال أبو ثَوْرٍ، وقال سائر الفقهاء: تستبرأ بحيضةٍ إذا كانت ممَّن تحيض ويوطأ مثلها.]
(18)


[1] في المطبوع: ((قال)).
[2] في المطبوع: ((حلَّت)).
[3] في المطبوع: ((قال ◙)).
[4] في المطبوع: ((قال: فرأيت رسول الله)).
[5] في المطبوع: ((لئلَّا)).
[6] في المطبوع: ((جماعة)).
[7] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.
[8] في (ز): ((فجعل)).
[9] في (ز): ((وقال الطَّحاويُّ: الدَّليل)).
[10] قوله: ((على)) ليس في (ز).
[11] في (ز): ((الحيضة الواحدة)).
[12] في (ز): ((حيضها)).
[13] في (ز): ((آخره)).
[14] في المطبوع: ((قول اللَّيث ومالك)).
[15] في المطبوع: ((كراهتهم)).
[16] في المطبوع: ((أو ينزلها)).
[17] في المطبوع: ((وكذلك)).
[18] ما بين معقوفتين غير واضح في (ص) بسبب الطَّمس.