شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة

          ░64▒ بَابُ النَّهْي لِلْبَائِعِ أَنْ لاَ يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالغَنَمَ وَالبَقَرَ وكُلَّ مُحَفَّلَةٍ
          وَالمُصَرَّاةُ الَّتِي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ وَجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أَيَّامًا، وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ المَاءِ يُقَالُ فِيْهِ(1): صَرَّيْتُ المَاءَ إِذَا حَبَسْتُهُ(2).
          فيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ(3) أَنْ يَحْلِبَهَا(4) إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ). [خ¦2148]
          وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنِ ابنِ سِيرِينَ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَلاَثًا، وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ.
          قال المُهَلَّبُ: هذا الحديث أصلٌ في الرَّدِّ بالعيب والدَّلسة، لأنَّ اللَّبن إذا حُبِسَ في ضرعها أيَّامًا فلم تُحلب ظنَّ المشتري أنَّها هكذا(5) كلَّ يومٍ، فاغترَّ به، وقد روى أبو الضُّحَى عن مَسْرُوقٍ قال ابنُ مَسْعُودٍ: ((أَشْهَدُ عَلَى الصَّادِقِ المَصْدُوقِ أَبِي القَاسِمِ صلعم أَنَّهُ قَالَ: بَيْعُ المُحَفَّلَاتِ(6) خِلَابَةٌ، وَلَا تَحِلُّ خِلَابَةُ مُسْلِمٍ))، وقال بحديث المُصَرَّاةِ جمهور العلماء، منهم: ابنُ أبي ليلى ومالكٌ واللَّيثُ وأبو يوسفَ والشَّافعيِّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو ثَوْرٍ، قالوا: إذا بان لمشتريها أنَّها مُصَرَّاةٌ ردَّها بعد الثَّلاث، وردَّ معها صاعًا مِنْ تمرٍ، وردَّ أبو حنيفةَ ومُحَمَّدٌ الحديث وقالا: ليس له أن يردَّها بالعيب، ولكنَّه يرجع على البائع بنقصان العيب، قالوا: لأنَّه لو ابتاع شيئًا به عيبٌ فإنَّما يأخذ الأرش ولا خيار له في الردَّ ألبتة، ألا ترى لو ابتاع عبدًا فقُطعت يده عند المشتري، ثمَّ ظهر على عيبٍ كان عند البائع لم يكن له ردُّ العبد، وإنَّما يأخذ الأرش بقدر العيب. وزعموا أنَّ حديث المُصَرَّاة منسوخٌ بحديث ((الغَلَّةُ بِالضَّمَانِ))، قالوا: ومعلومٌ أنَّ اللَّبن المحلوب في المرَّة(7) الأولى هو لبن التَّصرية، قد خالطه جزءٌ مِنَ اللَّبن الحادث في ملك المبتاع، وكذلك المرَّة الثَّانية والثَّالثة غَلَّةٌ طارئةٌ في ملك المشتري، فكيف يردُّ له شيئًا؟ قالوا: فالأصول(8) المجتمع عليها(9) في المستهلكات أنَّها لا تُضمن إلَّا بالمثل أو بالقيمة(10) مِنَ الذَّهب أو الوَرِق، فكيف يجوز أن يضمن لبن التَّصرية الَّذي هو في(11) ملك البائع في حين البيع بصاع تمرٍ فات عند المشتري أو لم يفت، وقد وقعت عليه الصَّفقة كما وقعت على الشَّاة، فيكون صاعًا دينًا بلبن دينٍ، وقد(12) يبين أنَّ حديث المُصَرَّاة منسوخٌ بتحريم الرِّبا لأنَّ النَّبيَّ صلعم جعل الطَّعام بالطَّعام ربًا إِلَّا هاء وهاء.
          قال المُهَلَّبُ: وما ادَّعوه مِنْ نسخ حديث المُصَرَّاة فباطلٌ، والصَّاع المردود إنَّما هو عبادةٌ وتحلُّلٌ مِنَ اللَّبن الَّذي صُرِّي الَّذي وقعت عليه الصَّفقة، وما حدث بعده مِنَ اللَّبن فهو للمشتري بالضَّمان، ولبن التَّصرية لم يبعه صاحب الشَّاة على أنَّه مُصَرَّى، وإنَّما باعه على أنَّه غَلَّةٌ حادثةٌ في الحلاب، فليس له في الحقيقة رجوعٌ بقيمته، ولا أخذ عوضٍ(13) فيه، لأنَّه لم تكن نيَّته عند البيع أن يأخذ فيه عوضًا، ولا أنَّه مبيعٌ، فلمَّا ظهر العيب بالاختبار عُلِمَ أنَّه عينٌ قائمةٌ باعه مع الشَّاة على أنَّه غَلَّةٌ وهو غيرها، فأمر بالصَّاع على وجه التَّحلُّل.
          قال غيره: وأجمع العلماء على(14) أنَّه إذا ردَّها بعيب التَّصرية لم يردَّ اللَّبن الحادث في ملكه، ولم يجز أن يردَّ لبنًا مثل لبن التَّصرية، لأنَّه لا يعلم مقداره، وإذا لم يعلم ذلك دخله بيع اللَّبن باللَّبن متفاضلًا وإلى أجلٍ، وذلك لا يجوز، ولمَّا كان لبن التَّصرية مغيَّبًا لا يُعلم مقداره، لأنَّ لبن ناقةٍ أو بقرةٍ أكثر مِنْ لبن شاةٍ، وأمكن التَّداعي في قيمته، قطع النَّبيُّ صلعم الخصومة في ذلك بما حدَّه مِنَ الصَّاع، كما فعل في دية الجنين، قطع فيه بالغرِّة حسمًا لتداعي الموت فيه والحياة، لأنَّ الجنين لمَّا أمكن أن يكون حيًّا في حين ضُرِبَ بطن أمِّه، فتكون فيه ديةٌ(15) كاملةٌ، وأمكن أن يكون ميتًّا فلا تكون فيه ديةٌ كاملةٌ(16)، / قطع النَّبيُّ صلعم التَّنازع والخصام بأن جعل فيه غرَّةً عبدًا أو أَمَةً.
          وفي اتِّفاق العلماء على القول بدية الجنين دليلٌ على أنَّ(17) لزوم القول بحديث المُصَرَّاة اتِّباعًا للسُّنَّة وتسليمًا لها، وممَّا يشهد لصحَّة هذا التَّأويل أنَّها لو كانت عشر شياهٍ(18) لما ردَّ معها إلَّا صاعًا واحدًا كما يردُّ على الواحد(19)، فثبت أنَّه ليس على سبيل القيمة والمماثلة، وإنَّما هو على سبيل التَّحليل(20).
          قال ابن القَصَّارِ: وأمَّا قولهم في العبد تُقطع يده عند المشتري ثمَّ يظهر على عيبٍ أنَّه لا يردُّه(21)، ويأخذ أرش العيب، فمذهب مالكٍ أنَّ المشتري بالخيار(22) في أن يتمسَّك ويأخذ أرش العيب(23) الَّذي كان عند البائع، أو يردَّه ومعه أرش العيب الَّذي عنده(24)، وهذا(25) أصلنا، ولا يمنع حدوث(26) العيب مِنَ الردِّ، كما لو اشترى العدل مِنَ المتاع ثمَّ نشره كلَّه(27)، ثمَّ ظهر على عيبٍ، أنَّه يردُّه كلَّه(28) وكذلك يردُّ البيضة إذا كُسرت وفيها العيب، ولو اشترى عبدين مِنْ رجل فمات أحدهما، ووجد بالآخر عيبًا، فإنَّه(29) يردُّ العبد الباقي، ومع هذا فإنَّه قد(30) دخل النَّقص في المبيع بموت الآخر.
          وقولهم: إنَّ التَّمر ليس مِنْ جنس اللَّبن، فنقول: إنَّ الأصول على ضربين: مضمونٌ بالمثل، ومضمونٌ بالقيمة، ثمَّ لمَّا جاز أن يكون المضمون بالقيمة غير مضمونٍ بالقيمة في موضعٍ، كذلك يجوز أن يكون المضمون(31) بالمثل غير مضمون بجنسه، ألا ترى أنَّ الجنين فيه غرَّةٌ عبدٌ أو أَمَةٌ، وليست مثلًا له ولا قيمةً، وأيضًا فإنَّ الشَّيء المكيل لا يكون مضمونًا بالمثل والجنس إلَّا في الموضع يمكن اعتبار ذلك فيهما(32) فأمَّا الموضع الَّذي لا يمكن اعتبار مثله، فإنَّه يجوز أن يضمن بغير مثله، ألا ترى أنَّنا قد اتَّفقنا على أنَّ اللَّبن المضمون بمثله إذا تلف عليه في وعاءٍ أنَّه يمكن اعتبار المثل فيه(33)، ثمَّ لو أتلف عليه شاةً لبونًا جعلنا بإزاء ذلك اللَّبن الَّذي أتلف في ضرعها زيادة قيمةٍ فيها، ولم يضمنه بالمثل إذ(34) لا يمكن اعتباره.
          قال غيره: في(35) حديث المُصَرَّاة دلالةٌ على أنَّ مَنِ اشترى نخلًا وفيها نخلٌ(36) قد أُبِّر، أو أَمَةً حاملًا، فأكل التَّمر أو هلك الابن، ثمَّ ردَّ(37) النَّخل أو الأَمَة بعيبٍ، أنَّه يردُّ قيمة المبيع معها، لأنَّه قد وقع له حِصَّةٌ مِنَ الثَّمن، كما فعل النَّبيِّ صلعم بالمُصَرَّاة، وهو قول ابن القَاسِمِ، وخالفه أَشْهَبُ في التَّمرة، وقال: التَّمرة للمشتري بالضَّمان، وقول ابن القَاسِمِ(38) يشهد له الحديث.
          وقال أبو عُبَيْدٍ: أصل التَّصرية حبس الماء وجمعه، يُقال: منه صريت الماء وصريته، قال الزَّبِيْدِيِّ: الكلمة مِنَ الثَّلاثيِّ المعتلِّ اللَّام، مِنْ صرى يصري: إذا جمعه(39)، وقد غلط أبو عَلَيِّ البغداديِّ فذكره(40) في باب الثُّنائيِّ المضاعف وأنشد الفَرَّاءُ:
رَأَتْ غُلَامًا قَدْ صَرَى في فِقْرَتِهْ مَاءَ الشَّبَابِ عُنْفُوَانَ تَمْرَتِهْ(41)
          قال المُؤَلِّفُ: أي جمع الماء في ظهره(42)، قال أبو عُبَيْدٍ: ويقال: إنَّما سُمِّيت المُصَرَّاة كأنَّها مياه اجتمعت، قال المُؤَلِّفُ(43): فينبغي أن يكون لا تُصَرُّوا: بضمِّ التَّاء وفتح الصَّاد، كما تقول: ربيتٌ، فهي مرباةٌ، ولا يجوز أن تقول: لا تَصُرُّوا: بفتح التَّاء وضمِّ الصَّاد، وإنَّما كان يجوز ذلك إذا(44) قيل للشَّاة: مصرورةٌ واختلف في لفظه عن مالكٍ، فقيل هكذا، وقيل: لا تَصُرُّوا(45).
          قال أبو عُبَيْدٍ: المُحَفَّلَةُ(46): هي المُصَرَّاةُ بعينها، وإنَّما سُمِّيت مُحَفَّلَةً لأنَّ اللَّبن حفل في ضرعها واجتمع(47)، وكلُّ شيءٍ كثَّرته فقد حفَّلته، يقال: قد احتفل القوم: إذا اجتمعوا، ولهذا سُمِّي محفل القوم، وجمع المحفل: محافل، وذكر النَّبيُّ صلعم الإبل والغنم في حديث المُصَرَّاةِ، ويدخل في ذلك البقر بالمعنى، هذا قول مالكٍ.


[1] قوله: ((فيه)) ليس في المطبوع (ص).
[2] قوله: ((إذا حبسته)) ليس في (ز).
[3] زاد في المطبوع: ((بين)).
[4] في (ز): ((يحتلبها)).
[5] في (ز): ((أنَّ ذلك عادتها)).
[6] في (ز): ((المحبَّلات)).
[7] في (ص): ((المدَّة)).
[8] في (ز): ((والأصول)).
[9] قوله: ((عليها)) ليس في (ص).
[10] في (ز): ((القيمة)).
[11] قوله: ((في)) ليس في (ز).
[12] في (ز): ((وهذا)).
[13] في (ز): ((العوض)).
[14] قوله: ((على)) ليس في (ز).
[15] في (ز): ((دية)).
[16] قوله: ((كاملة)) ليس في (ز).
[17] قوله: ((أنَّ)) ليس في (ز).
[18] زاد في (ز): ((أو أكثر)).
[19] في (ز): ((عن الواحدة)).
[20] في (ز): ((التَّحلُّل)).
[21] في (ز): ((يردُّ)).
[22] في (ز): ((للمشتري الخيار)).
[23] في (ص): ((العبد)).
[24] في (ز): ((أرش العيب الَّذي حدث عنده)).
[25] في (ز): ((هذا)).
[26] في (ز): ((استعلام)).
[27] في المطبوع: ((له)).
[28] قوله: ((كلَّه)) ليس في (ص).
[29] في (ص): ((إنَّه)).
[30] في (ز): ((هذا فقد)).
[31] قوله: ((المضمون)) ليس في (ص).
[32] في المطبوع: ((فيها)).
[33] العبارة في (ز): ((والجنس إلَّا في الموضع الَّذي يمكن اعتبار المثل فيه)).
[34] في (ز): ((لأنَّه)).
[35] في (ز): ((وفي)).
[36] في (ز): ((نخل)). في (ز): ((تمر)).
[37] قوله: ((ردَّ)) ليس في (ص).
[38] قوله: ((وخالفه أشهب في التَّمرة، وقال: التَّمرة للمشتري بالضَّمان، وقول ابن القاسم)) ليس في (ص).
[39] في (ز): ((جمع)).
[40] في (ز): ((فذكرها)).
[41] في المطبوع: ((تحرته)). وتحتمل: سِيْرَتِهْ أو شِرَّتِهْ أو سَنْبَتِهْ.
[42] قوله: ((وأنشد الفرَّاء:... جمع الماء في ظهره)) ليس في (ص).
[43] قوله: ((قال المؤلِّف)) ليس في (ز).
[44] في (ز): ((لو)).
[45] قوله: ((واختلف في لفظه عن مالكٍ، فقيل هكذا، وقيل: لا تصرُّوا)) ليس في (ز).
[46] في (ز): ((والمحفَّلة)).
[47] قوله: ((واجتمع)) ليس في (ص).