شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب بيع الدينار بالدينار نساء

          ░79▒ بَابُ بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءً
          فيهِ أَبُو سَعِيْدٍ، قَالَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: قُلْتُ(1) لَهُ: إِنَّ ابنَ عَبَّاسٍ لَا يَقُولُهُ، فَقَالَ أَبُو سَعِيْدٍ: سَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ: سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبيِّ صلعم، أَوْ وَجَدْتَهُ في كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: كُلَّ ذَلِكَ لَا أَقُولُ، وَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللهِ صلعم مِنِّي، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (لَا رِبًا إِلَّا في النَّسِيْئَةِ). [خ¦2178] [خ¦2179]
          اختلف العلماء في تأويل قوله ◙ في حديث أُسَامَةَ: (لَا رِبًا إِلَّا في النَّسِيْئَةِ) فرُوِيَ عن قومٍ مِنَ السَّلف أنَّهم أجازوا بيع الذَّهب بالذَّهب، والفضَّة بالفضَّة يدًا بيدٍ متفاضلةً، رواه سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (مَا كَانَ ربًا قطُّ في هَاءَ وهَاءَ). وروايةً عن ابنِ عُمَرَ وهو قول عِكْرِمَةَ وشُرَيْحٍ.
          واحتجُّوا بظاهر حديث أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ(2): (لَا ربًا إِلَّا في النَّسِيْئَةِ) فدلَّ أنَّ ما كان نقدًا فلا بأس بالتَّفاضل فيه وخالف جماعة العلماء بعدهم هذا التَّأويل، وقالوا: قد عارض ذلك حديث أبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ حديث(3) أبي بَكْرَةَ عَنِ النَّبيِّ صلعم أنَّه حرَّم التَّفاضل في / الذَّهب بالذَّهب، والفضَّة بالفضَّة يدًا بيدٍ، وروى(4) الطَّبَرِيُّ مِنْ حديث عبدِ(5) اللهِ بنِ مُوسَى قالَ: حدَّثنا حَيَّانُ بنُ عبدِ(6) اللهِ العَدَوِيُّ قالَ: سُئِلَ أبو مِجْلَزٍ عن الصَّرف فقالَ: ((كَانَ ابنُ عَبَّاسٍ لا يرى به بأسًا زمانًا مِنْ عُمْرِهِ إِذَا كَانَ يدًا بيدٍ، ويقولُ: إنَّما الرِّبَا في النَّسِيْئَةِ، فلقيه أبو سَعِيْدٍ فقالَ: يا ابنَ عَبَّاسٍ، أَلَا تَتَّقِ اللهَ! حتَّى متَّى تُؤْكِلُ النَّاسَ(7) الرِّبَا؟! إنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والوَرِقُ بالوَرِقِ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ، والحِنْطَةُ بالحِنْطَةِ، والشَّعِيْرُ بالشَّعِيْرِ يدًا بيدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَا زَادَ فَهُو رِبَا))
          فهذه السُّنن الثَّابتة لا تأويل لأحدٍ معها، فلا معنى لما خالفها، وقد تأوَّل بعض العلماء أنَّ قوله ◙: (لَا رِبًا إِلَّا في النَّسِيْئَةِ) خرج على جواب سائلٍ سأل عن الرِّبا(8) في الذَّهب بالوَرِقِ أو البُرِّ(9) بالتَّمر، أو نحو(10) ذلك ممَّا هو(11) جنسان، فقال ◙: (لَا ربًا إِلَّا في النَّسِيْئَةِ) فسمع أُسَامَةُ كلامه، ولم يسمع السُّؤال، فنقل ما سمع، وقالَ الطَّبَرِيُّ: في(12) حديث أُسَامَةَ: المراد به الخصوص، ومعناه: لا ربا إلَّا في النَّسيئة إذا اختلفت أجناس(13) المبيع وإذا(14) اتَّفقت فلا يصلح بيع شيءٍ منه مِنْ نوعه إلَّا مِثْلًا بمثلٍ، والفضل فيه يدًا بيدٍ رِبَا، وقد قامت الحُجَّة ببيان الرَّسُولِ ◙ في الذَّهب بالفضَّة، والفضَّة بالذَّهب، والحنطة بالتَّمر نَساءٌ، أنَّه لا يجوز متفاضلًا، ولا مِثْلًا بمِثْلٍ، فعلمنا أنَّ قوله: (لَا رِبًا إِلَّا في النَّسِيْئَةِ)(15) فيما اختلفت أنواعه دون ما اتَّفقت.
          قالَ المُهَلَّبُ: وفي حديث أبي سَعِيْدٍ وابنِ عَبَّاسٍ مِنَ الفقه(16) أنَّ العالم يُناظر العالم، ويوقفه على معنى قوله، ويردُّه مِنَ الاختلاف إلى الإجماع.
          وفيه: إقرار الصَّغير للكبير بفضل التَّقدُّم لقول ابنِ عَبَّاسٍ لأبي سَعِيْدٍ: أنتم أعلم برَسُولِ اللهِ صلعم منِّي.
          والنَّسَاءُ: التَّأخير، يُقَالُ: باع منه نسيئةً ونظرةً وأخرةً ودينًا، كلُّ ذلك بمعنًى واحدٍ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ}[التَّوبة:37]يعني تأخير الأشهر الحُرُم الَّتي كانت العرب في الجاهلية تفعلها مِنْ تأخير المحرَّم إلى صفرٍ، ومنه انتساء فلانٍ عن فلانٍ، أي(17) تباعد منه، عن الطَّبَرِيِّ.


[1] في (ز): ((فقلت)).
[2] قوله: ((ابن زيد)) ليس في (ز).
[3] في (ز): ((وحديث)).
[4] في (ز): ((روى)).
[5] في (ز): ((عبيد)).
[6] في (ز): ((عبيد)).
[7] قوله: ((النَّاس)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((عن الرِّبا)) ليس في (ص).
[9] في (ز): ((والبرِّ)).
[10] في (ز): ((ونحو)).
[11] في (ز): ((هما)).
[12] قوله: ((في)) ليس في (ز).
[13] في (ز): ((أنواع)).
[14] في المطبوع: ((المبيع فإذا))، وفي (ز): ((المبيع وأمَّا إذا)).
[15] زاد في (ز): ((هو)).
[16] قوله: ((من الفقه)) ليس في (ص).
[17] قوله: ((أي)) ليس في (ز).